عبودية الخلق لبعضهم
مقتطفات أخلاقية
إن من الملفت حقاً، استعداد العباد لعبودية بعضهم بعضاً، مع ما يلازمها من ذلّ واحتقار، لا ( يعوّضه ) القليل مما يبذل لهم من المتاع، جزاء ذل العبودية لفقيرٍ فانٍ مثلهم.
عدد الزوار: 295
إن من الملفت حقاً، استعداد العباد لعبودية بعضهم بعضاً، مع ما يلازمها من ذلّ
واحتقار، لا ( يعوّضه ) القليل مما يبذل لهم من المتاع، جزاء ذل العبودية لفقيرٍ
فانٍ مثلهم..والحال أنهم لا يعيشون شيئاً من هذا ( الإحساس )، تجاه من منه مصدر
الوجود، ومن هو صاحب العطاء الذي لا منّـة فيه، ومن إليه المصير..وقد أفصح عن هذه
الحقيقة، عمرو بن العاص - وهو الذي احتمل ذل عبودية غير الحق - حينما قال لمعاوية:
"لو أطعت الله كما أطعتك، وجبت لي الجنة!!".
ما هو من لدن الحق
استعمل الحق المتعال في كتابه العزيز كلمة ( لدن ) في مثل: الرحمة، والذرية،
والسلطان النصير، والأجر العظيم، والعلم، والحنان، والذكر، والرزق..ومن الواضح أن
التعبير بانتساب هذه الأمور إلى الحق مباشرة، يشعر بعناية زائدة بهذه الأمور
الممنوحة لمن أراد الحق أن يختصه برحمته، رغم أن كل المنح - ولو كانت بواسطة
الأغيار - منتسبة إلى الحق المتعال..ومن هنا يتأكد على العبد أن يرجع إلى المولى،
ليستوهبه تلك المنح ( الخاصة ) في إحدى المجالات المذكورة، وما أعظم منحة الحق لو
تحققت في أبعاض تلك الأمور!!.
الإمامة في الهداية والحكم
إن الإمامة عند أهل البيت (عليهم السلام)، وإن كانت إمامةٌ للخلق، ( حكومةً )
في البلاد وسياسةً للعباد، إلا أنها في الوقت نفسه متقوّمة ( بهداية ) الخلق، وهي
العمدة في هذه الرتبة العليّـة..ولهذا نجد أن مصطلح الإمام - بمعناه الواسع - مقترنٌ
بالهداية، فيقول تعالى: "وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا"..كما وصف كتاب الهداية
بالإمام، فيقول تعالى: "كتاب موسى إماما ورحمة"..كما يجعل إحصاء كل شيء في الإمام
المبين، فهو الحامل للعلم الذي لا يحدّه شيء، فيقول تعالى: "وكل شيء أحصيناه في
إمام مبين"..وبعد ذلك كله نقول: إن مما يدمي الفؤاد انحسار إمامة هؤلاء عن الخلق،
لتحلّ فيهم إمامة من لا حق له في الحكم، ولا شأن له في الهداية، بل كانوا من الأئمة
الذين يدعون إلى النار.
مواجهة العقيدة الفاسدة
إن الأسلوب الأمثل في مواجهة من يحمل عقيدة باطلة، هو إتباع أسلوب التدرج في
تخليصه من ذلك الباطل، يتمثل في: ( التشكيك ) أولاً في يقينه بصحة معتقده، ليتزلزل
ما هو ثابت في نفسه، كالشجرة التي يراد اقتلاعها فيُحرّك أولاً من موضعها..ثم (
تقديم ) البديل الصالح بالدليل والبرهان ثانياً، من دون تجريح أو تسخيف لما كان
عليه، كإنبات شجرة صالحة بجانبِ أخرى فاسدة..ثم ( بيان ) فساد ما كان عليه ثالثاً،
كقلع الشجرة الفاسدة من جذورها بعد استقرار الشجرة الصالحة ونموها..وينبغي الالتفات
في كل هذه المراحل إلى عدم ( غرس ) اليأس والتذمر في نفس المخاطب، الذي حمل تلك
العقيدة الفاسدة في برهة من حياته، لأنه سيحمل ثقل الندامة من تلقاء نفسه لتضييع
عمره في سبيل الباطل.
كالمشرد عن داره
إن مَثَل العبد في الإنابة إلى ربه، كَمَثل الصبيّ الذي تشاغل مع الصبيان في
لهوهم ولعبهم، ثم اضطر إلى العودة والالتجاء إلى أهله، فعليه: أولاً ( بتنقية )
بدنه مما علق به في لهوه ولعبه، ثم ( الإقبال ) على باب اهله مستقبلاً إياه غير
مستدبر، ثم ( الإصرار ) على الطرق جُـهْد إمكانه، فإن لم تفتح له الأبواب، مع ما هو
فيه من الوحشة خارج الدار، أجهش بالبكاء، ملتمساً بشفيع يشفيع عند أهله، للتجاوز عن
طول احتجابه عنهم متشاغلاً بلهوه ولعبه، فإن لم يؤذن له بالدخول بعد ذلك كله، فقد
تم طرده بما يوجب له التشرد في تلك الليلة إن لم يكن في جميع الليالي..والأمر كذلك
في إنابة العبد إلى ربه، فإذا خرج إلى ساحة الحياة ليلهو مع اللاهين، وجب عليه
المسارعة في العودة إلى مأواه، بطرقه باب الرحمة، مصراً في ذلك، باكياً ومتباكياً،
ومستشفعاً بأولياء الحق..فإن أحس ( بالصدود ) بعد ذلك كله، فعليه أن يوطّن نفسه على
التشرد بعيداً عن ساحة العبودية للحق، ولا مصير له بعد ذلك إلا الوقوع في أيدي
الشياطين، ولكن هيهات على الكريم أن يرد مثل هذا الملتجئ خائباً.
عناصر تحقق المعرفة
إن المعرفة ثمرة ( تقابل ) بين ذاتٍ مدركة، و( موضوعٍ ) مُـدَرك، و( إدراك )
للموضوع على ما هو عليه..ومن ذلك يعلم أن تمامية المعرفة، تحتاج إلى اكتمال جميع
تلك العناصر، إذ لا بد من بلوغ الذات إلى مرحلة الإدراك المستلزمة لإزاحة موانع
الفهم، كما لا بد من مواجهة الذات للموضوع المـُدرك، وهذا فرع إدراكه لأهمية تلك
المواجهة، وإلا فكم من العلوم التي لا تواجهها الذات لعدم إحساسها بلزوم مواجهتها
!!..وأخيراً - والأهم من ذلك كله - انعكاس الموضوع بصورته الواقعية لا الخيالية
المعاكسة للواقع، وهنا ( مـزّال ) الأقدام في عالم المعرفة، وذلك للجهل المركب بأن
المـُدرك في الذهن لا يطابق ما هو في الخارج..وما أكثر هذا الالتباس في باب المعارف،
ومن مصاديق ذلك: المعرفة بالطريق الموصل إلى الحق والذي تاه فيه التائهون، فضلوا
وأضلوا العباد، وذلك لعدم مطابقة الواقع لصورهم الوهمية، وكشوفاتهم الباطلة،
ووارداتهم الزائفة، سواء شعروا بذلك أو لم يشعروا.
التأثر بالمدح والذّم
إن على المؤمن أن يكون على بصيرة من أمر نفسه دائماً، فيعلم ما لها وما عليها،
وأما ما يقوله الخلق مدحاً أو ذماً، فهو إخبار عما يكون المرء أخبر به منهم..فلا
داعي ( للأنس ) بمدحهم، كما لا داعي ( للضيق ) بذمهم، ما دام يعلم انطباق ما قيل في
حقه أو يعلم عدم انطباقه للواقع، فيكون التأثر ( للواقع )، لا لما كشف عنه من قول
الآخرين..وهذا مما علّمه الإمام الكاظم (عليه السلام) هشاماً بقوله: "يا هشام! لو
كان في يدك جوزة وقال الناس لؤلؤة، ما كان ينفعك وأنت تعلم أنها جوزة..ولو كان في
يدك لؤلؤة وقال الناس أنها جوزة، ما ضرّك وأنت تعلم أنها لؤلؤة"البحار-ج1ص136.
الحب يوحّد الهـمّ
إن من موجبات توحد الهمّ عند الخلق، هو ( الحب ) ولو كان في مورد باطل..فترى
العاشق موحد الهمّ، صاحب تركيز في مورد حبه، غير مكترث بغير من يهوى ويحب، ذا همّـة
عالية في سبيل الوصول إلى بُـغيته..ومن هنا قال بعضهم إن المحب المجازي - لو انقلب
على واقعه - لسهل عليه الوصول إلى الحب الحقيقي، لأنه في مرحلة سابقة قد ( وحّد )
همّـه، وقطع ارتباطه بغير من يهوى، فيبقى استبدال المحبوب الفاني بالمحبوب الباقي،
وهي خطوة واحدة..فمَثَله كَمَثَل من اتخذ معبوداً واحداً غير الحق، ثم انقطع إلى
الحق المتعال في ( حركة ) واحدة، خلافاً لمن أنس بآلهة متعددة، فإن الانقطاع عن كل
إلـه، يحتاج إلى جهدٍ خاص بازائه.
علاقة الملائكة بالخلق
إن علاقة الملائكة بالخلق من ولد آدم، علاقة ( أوطد ) مما قد يتراءى لنا
بالنظرة الأولى..فمثلاً ( يسلّم ) العبد على ملكيه في كل يوم، لأنه موجود ذو شعور
يستحق الخطاب والتكريم، وخاصة مع عدم عودتهما إلى المرء في اليوم اللاحق، إضافة إلى
دلالة بعض النصوص الشريفة على ( استفادتهم ) من عبادة الآدميين، بطيّ صحفهم يوم
الجمعة للاستماع إذا جلس الإمام للحديث، إذ روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
أنه قال: {إذا كان يوم الجمعة، كان على بابٍ من أبواب المسجد ملائكة، يكتبون الأول
فالأول، فإذا جلس الإمام طووا الصحف، وجاءوا يستمعون الذكر"البحار-ج89ص212.
اتخاذ الشهداء
إن الحق المتعال غني عن الخلق، بذلك الغنى المطلق الذي لا يُتصور معه أن يتخذ
شيئاً من هذا الوجود..إلا أن الحق المتعال في سياق تكريم الشهداء، يجعل الشهداء ممن
( اتخذهم ) لنفسه بقوله: "ويتخذ منكم شهداء"، بناءً على أن المراد بالشهيد هنا هو
المقتول في سبيل الله تعالى، لا الشاهد على ما يجرى في الأمة..وعلى كلّ حال فإن
استحضار حقيقة غنى الحق، مع شدة ( تحبّـبه ) إلى العباد بقوله: "وإذا سألك عبادي
عني فأني قريب"، يضفي على العبد ( شعوراً ) عميقاً بالخجل والاستحياء من جهة، وبشدة
رأفة وحنان رب العالمين من جهة أخرى.
تصدّي من لامعرفة له
إن من الخطأ الذي يعود ضرره إلى الدين، أن ( يتصدى ) من لا معرفة له بقواعد
البحث والمجادلة، ولا إلمـام له بتفاصيل الفروع والأصول، للدفاع عن العقيدة الحقّـة،
إذ قد يسيء بذلك أكثر مما يحسن، ويفسد أكثر مما يصلح..وعليه فمن كان في مظان ذلك،
فعليه أن ( يتسلح ) بسلاح الأسلوب الهادف، والمضامين الصحيحة لترويج الدين، وإلا
وجبت عليه ( الدلالة ) على من يكون واجداً لتلك الصفات، من العلماء الذين جمعوا بين
الأسلوب الحكيم والمضمون الحق..ولقد كان أئمتنا (عليه السلام) يحبون من كان لساناً
لهم في الذبّ عنهم، فهذا الإمام الصادق (عليه السلام) يقول لمن بلغه كراهة مناظرة
الناس: "أما كلام مثلك فلا يكره، مَن إذا طار يُحسن أن يقع، وإن وقع يُحسن أن يطير،
فمن كان هكذا لا نكرهه"البحار-ج2ص136..ويترحم (عليه السلام) على ابن الطيار بقوله:
"رحمه الله ولقّـاه نضرة وسروراً، فقد كان شديد الخصومة عنا أهل البيت".
مواجهة الحقائق الملكوتية
كما أن ( المعرفة ) عبارة عن مواجهةٍ للمعلومة التي تنعكس في الجهاز المدرِك
لها، فكذلك ( التوسل ) بأولياء الحق (عليه السلام) مواجهةٌ بالقلب لتلك الحقائق
الملكوتية..فكما أن المواجهة في عالم المعرفة توجب انعكاس المعاني في النفوس، فكذلك
المواجهة في عالم الحقيقة توجب انعكاس تلك الحقائق - بآثارها - أيضاً في القلوب،
كما أن المواجهة الحسية في عالم الإنارة كذلك توجب انعكاس النور فيما واجه
النور..والذي يجمع ذلك كله هو أن طبيعة المواجهة تقتضي ( سريان ) الآثار بين
المتواجِهَين، وكلما سما أحد المتواجِهَين كلما اشتد التفاعل والتأثير بينهما..ومن
هنا يخطئ بعضهم في فهم بعض مظاهر التوسل بأولياء الحق (عليه السلام)، وذلك لأن
العمدة في تلك المظاهر الحسية، هي هذه المواجهة المعنوية بين حقيقة المتوسِّـل وبين
حقيقة المتوسَّـل به، المستلزمة للآثار العميقة، وإن تجلّت تلك المواجهة من خلال
فعلٍ ظاهري بعينه كالزيارة والبكاء والنذور وما شابه ذلك..فمَثَله في ذلك كمَثَل من
يواجه المعلومة ويستلهمها، وهو في حالة حسية معينة - من قيام أو قعود - عند استقائه
لتلك المعلومة.
تكلّف العلم
إن تكلف العلم الذي لم يأمر به الحق، مذموم عند أولياء الحق (عليه السلام)..فإن
الإطلاع على ما لا يزيد الإنسان ( فائدة ) في دينه أو دنياه لمن فضول النشاط العلمي،
فيتحول صاحبه إلى مترفٍ في الفكر، ومستودعٍ للمعلومات..ومن ( فضول ) النشاط أيضاً،
المجادلة مع أهل الخصومات، والبحث لأجل البحث، لا لكشف الحقائق..وإن مجموع ذلك
يستفاد من خلال النص الذي ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: "إياك
وأصحاب الكلام والخصومات ومجالستهم، فإنهم تركوا ما أمروا بعلمه، وتكلفوا ما لم
يؤمروا بعلمه حتى تكلفوا علم السماء"البحار-ج2ص137.
البلاء عقيب الزلّة
يذكر المبرّد اللغوي في كتابه الفاضل - ص17: "وقد روي عن أمير المؤمنين (عليه
السلام) أنه قال: من أخذه الله بمعصيته في الدنيا، فالله أكرم من أن يعيدها عليه في
الآخرة، ومن عفا عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يأخذه بها في الآخرة"، ثم عقبه
بقوله فيقال: إن هذا أحسن حديث روي في الإسلام..ومن هنا لا يستوحش العبد المنصف من
توارد بعض البلاء عقيب زلّـة من الزلات، لعلمه أن ذلك البلاء لا يُعـدّ بلاء، قياساً
إلى العذاب المقدر على ذلك العمل فيما لو أمهل العبد..فما شرٌ بعده الجنة بشر، وما
خيرٌ بعده النار بخير، بل إن ( توارد ) النعم بعد المعاصي من صور ( الاستدراج )
الذي يستوحش منه العبد..ولـيُعلم أن الذنب بعد الذنب علامة الخذلان، والطاعة بعد
الذنب علامة التوبة، والطاعة بعد الطاعة علامة التوفيق، والذنب بعد الطاعة علامة
الردّ.
مقياسية الأجر
إن من المقاييس المهمة لتمييز درجات العبودية هو العقل والمعرفة، ( فبالعقل )
يُعرف الله ويُعبد، وبه يترسم مجمل مسار العبد إلى ربه..كما أن ( بمعرفة ) الحق
المتعال - مع لوازم تلك المعرفة - يتعرّف على جزئيات ذلك المسار..وأما الذي لا يعيش
هذه المعرفة المحركة للكمال، فإنه لا يكاد يصل إلى تلك الدرجات العالية، وإن أتعب
جوارحه بالعبادة، لأن ( تعب ) الجوارح بالعبادة مستلزم للأجر، وللمعرفة عالم متمايز
عن عالم الأجور..وقد روي عن الإمام الكاظم (عليه السلام) أنه قال: "يا هشام! ما بعث
الله أمناءه ورسله إلى عباده، إلا ليعقلوا عن الله، فأحسنهم أحسنهم معرفة بالله،
وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلاً، وأعقلهم ارفعهم درجة في الدنيا
والآخرة"البحار-ج1ص137.
حكمة سلب النعم
إن الله عزّ وجل أكرم من أن يسلب النعمة التي وهبها لعبده، فإن ذلك خلاف شأن
الكريم الذي بيده خزائن كل شيء، إذ ما الموجب لأن ( ينغّص ) الرب الغني، عيش عبده
الفقير بسلب النعم، بعد أن أذاقه حلاوتها..نعم إن من الممكن وقوع ذلك السلب في
حالتين، الأولى: ( التعويض ) بما هو خير له، وإن لم يتحقق ذلك التعويض في هذه
الحياة الدنيا، والثانية: ( إتيان ) العبد بما يوجب سلب تلك النعمة من الذنوب
الماحقة، وبالتالي تجتمع عليه مصيبتان: مصيبة فقدان النعم، ومصيبة فقدان العوض..وقد
ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: "إن الله قضى قضاءً حتماً، لا ينعم
على عبد بنعمة فسلبها إياه، حتى يحدث العبد ذنباً يستحق بذلك
النقمة"البحار-ج73ص334.
حقيقة المعصومين
إن الاعتقاد بحقيقة خلقة أرواح المعصومين (عليه السلام) قبل ( الانتقال ) إلى
هذه الأبدان الأرضية، يستوجب الاعتقاد بحقائق أخرى عن ماضيهم وحالهم ومستقبلهم..فلا
يبدو معه غريباً أن يتوسل بهم الأنبياء السلف كآدم (عليه السلام) ومن بعده في
الشدائد، إذ أن اتخاذ الوسيلة إلى الحق مطلوب في كل عصر و أوان، كما لا يبدو غريباً
قصر حياتهم في الدنيا، إذ أن مَثَلهم في ذلك كمَثَل راكب استراح في ظل شجرة ساعة ثم
رحل عنها، فطول فترة مكوثهم أو قصرها لا يغير من واقعهم شيئاً..وعليه فلا غرابة
أيضا في ارتباطنا بهم، استمداداً واستلهاماً واستشفاعاً بهم بعد وفاتهم، وذلك (
لبقاء ) تلك الحقائق الإلهية على حالها، سابقاً وحاضراً ومستقبلاً، إذ ما ( الفارق
) بين الراجل والراكب في حقيقة صاحبه ؟!.
الذكر على كل حال
لقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال عن آية ( الذين يذكرون
الله قيام وقعوداً وعلى جنوبهم ): "ويلٌ لمن قرأ هذه الآية، ثم مسح بها سبلته" و "ويل
لمن لاكها بفكّـيه، ولم يتأمل فيها"..ومن الملفت في هذه الآية الكريمة أنها تجمع
بين ( تذكّر ) الحق المتعال كمقصود غائي يستفاد من قوله تعالى: "ويتفكرون في خلق
السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً"، فهذا هو الذي يمنحه الاستواء في السلوك،
والجدية في الإرادة، وبين ( تذكرّ ) الحق التفصيلي في كل التقلبات، إذ أن العبد لا
يخلو من قيام أو قعود أو اضطجاع، فمن ذَكَر الله في هذه المواضع، كان ذاكراً لله
على كل حال..فقد روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) انه قال: "لا يزال المؤمن في
صلاة ما كان في ذكر الله" تفسير الصافي-ج1ص377 0
معارضة الصلاة لغيرها
كثيراً ما يتعارض وقت الصلاة مع أعمال أخرى من شؤون الدنيا، ( فيقدّم ) العبد
التوافه من الأمور على اللقاء مع رب العالمين، رغم دعوته الأكيدة للصلاة وجَعْـلها
كتاباً موقوتاً..ومن ثم يتوقع العبد ( مسارعة ) الحق في تلبية ندائه، وهو ( المستخف
) بنداء الحق في المسارعة إلى تلبيته، وكما يدين العبد يدان..ولقد كان النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) إذ دخل وقت الصلاة، كان كمن لا يعرف أهلاً ولا حميماً..وعنه (صلى
الله عليه وآله وسلم) أنه قال: "ليكن أكثر همّـك الصلاة، فإنها رأس الإسلام بعد
الإقرار بالدين"البحار-ج77ص127.
من شعب الجنون
إن العبد الذي يعتقد أن الغضب شعبة من شعب الجنون، يتحاشى موجباته لئلا يُـقدم
على ما قد ( يسلبه ) عقله، كما يراقب أفعاله بدقة عند فوران غضبه لئلا يظهر جنونه
خارجاً، فيعمل ما لا يمكن التكفير عنه، ولطالما ( تفوّه ) بشطر كلمة بقيت آثارها في
نفس من غضب عليه، لم تذهب حتى مع تقادم الأيام، بل وصفته بصفة لا تليق به كعبد
سويّ..وقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: "الحدّة ضرب من الجنون لأن
صاحبها يندم، فإن لم يندم فجنونه مستحكم"البحار- ج73ص266.
رفاق السوء
ينبغي الالتفات إلى الحذر الشديد من رفاق السوء، الذين يصرفون العبد عن مسيرته
علماً وعملاً..وقد عبّر القرآن الكريم عن المنافقين بالشياطين، إذ أن بواطنهم
استحالت إلى حقيقة ( تجانس ) حقيقة الشياطين، وعليه فإن معاشرتهم كمعاشرة الشياطين،
في ترتّب الآثار على مثل تلك المعاشرة المهلكة..ولو ( تجلى ) للعبد هذه الصفة من
الشيطنة فيمن تسوء معاشرته، لولى منه فرارا، كما لو ( تلـبّس ) جنٌ بهيئته المرعبة
بشخص إنسان، فكيف يعاشره من يراه كذلك ولو كان من أحب الخلق إليه ؟!.
ناريّـة الأفعال
يحذّر الحق المتعال من نار جهنم ويصفها بأن وقودها الناس والحجارة..وعليه فقد
يكون في وصف هؤلاء بأنهم وقودٌ لتلك النار، إشارة إلى أن منشأ ذلك هي ( بواطنهم )
المستندة إلى قبيح أفعالهم في النشأة الأولى، لأن تلك الأفعال كانت تستبطن النار
وإن لم يشعر بها صاحبها، كما عبّـر الحق المتعال عن آكل مال اليتيم بأنه آكل
للنار..فلو استحضر العبد ( نارية ) الأفعال التي لا يرضى بها الحق، لتحرّز عن كل ما
يكون وقوداً لنار جهنم وإن تلذذ أهل الغفلة بالإتيان بها، جهلا بذلك الباطن الذي (
يُكشف ) عنه الغطاء، في وقت لا ينفعهم مثل هذا الانكشاف.
التأثير في نفوس الخصوم
كتب الشعبي أن أحسن ما سمعه في القضاء والقدر هو قول أمير المؤمنين (عليه
السلام): "كلما استغفرت منه فهو منك، وكلما حمدت الله عليه فهو منه"..فلما وصل
الكتاب إلى الحجاج ووقف عليها قال: لقد أخذها من عين صافية..فمن هذا الحديث وأشباهه
تتجلى لنا حقيقتان، الأولى: كلمة ( الفصل ) لأئمة الهدى (عليه السلام) في كل معضلة،
والجامعة بين الحكمة والإيجاز..والثانية: ( وَقْـع ) كلماتهم في نفوس الخلق، إذ أن
حقيقة أمرهم لم تكن لتخفى حتى على الخصوم..ومن الطريف ما يذكره غاصب حقهم، عندما
أردف الإمام (عليه السلام) على دابة قائلاً: أولا نردفهم دابة غصبناها منهم.
طبيعة السفر إلى الحق
إن شأن السير إلى الحق كشأن السفر إلى البلاد والبقاع، في أن لكل مرحلة من
السفر ( طبيعتها ) الخاصة، ووسائلها الخاصة، وعقباتها الخاصة، وزادها الخاص..وعليه
فلا بد أن يتوقع كل ذلك قبل سفره، لـيُعدّ له عدته اللائقة به، وعليه فإن السالك
المعتقد بأن السفر عملية رتيبة متشابهة في كل مراحلها، يفاجأ بأول ( منعطف ) في
سيره، وبأول تغيير في طبيعة العقبات التي تعترضه، وهي قد تكون تارة على شكل شهوةٍ
ملحّـة، أو على شكل أمواجٍ من الخواطر والأوهام، أو على شكل سيلٍ من وساوس الشيطان،
أو على شكل أذى الخلق له، وغير ذلك مما مرّ به السالكون..فلا ينبغي للعبد أن يتوقع
( الرتابة ) في سير الأمور، فهذا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين يدي الحق
في غار حراء حيث الخلوة المطلقة تارة، وفي أرض أحد حيث كسرت رباعيتاه والعدو على
مقربة منه تارة أخرى.
هجوم الخواطر والأوهام
قد يمر العبد في ظرف خاص، تهجم عليه الخواطر والأوهام بشكل لا يطيق دفعها من
دون مجاهدة كبيرة، فيرى نفسه ( معذوراً ) في الاستسلام لها والاسترسال معها عملاً
بقاعدة: "أنا الغريق فما خوفي من البلل"..والحال أن أدنى التفاتـة إلى الحق - في
تلك الحالة - يُـعد سعياً مشكوراً من قبل المولى جل ذكره..كما يتعمد أحدهم استضافة
جليسه في مجلس يغلب عليه موجبات الذهول والانصراف، ( ليستخبر ) مدى إقباله عليه في
ذلك الظرف الطارئ.. ومن المعلوم أن العبد قادر - لو أراد - على استجماع المتفرق من
أفكاره ولو في مثل تلك الظروف، كما يتفق ذلك بوضوح في موارد رغبته الخاصة،
كاستغراقه بذكر ( محبوبه )، مع وجود الخواطر الصارفة والأوهام الكثيفة.
التسديد بالوحي والإلهام
إن مما يدعو العبد إلى السكون إلى مدد الحق - كالتسديد و الإلهام في السير إليه
- هي ملاحظته لتعامل الحق مع بعض المخلوقات التي ذكرت في القرآن الكريم: كالنمل،
والنحل، والذباب، والبعوض، والعنكبوت..فلولا اعتيادنا لما تعملها، لكانت أفعالها
ضرباً من الإعجاز والوحي والتدبير، الذي لا يرقى إليه تدبير العقلاء من البشر، إذ
أن من الواضح أنها تتحرك وفقاً للوحي الرباني الذي يصرح به القرآن الكريم..ومن
الملفت في هذا المجال استعمال التعبير بـ( أوحى ) كاستعمال التعبير نفسه بالنسبة
للأنبياء (عليه السلام)، وفي ذلك غاية العناية والالتفات..فهل يستبعد بعد ذلك
معاملة الحق لمن أراد هدايته إلى الكمال بالتسديد والإلهام، كمعاملته للنحل في
هدايته إلى الجبال، ليكون نتاجه شراب، فيه شفاءٌ للأفئدة والألباب ؟!.
روح الكفر
إن أول معصية وقعت على وجه الأرض بعد خلق آدم، هو إباء الشيطان عن السجود لآدم
والذي وصفه القرآن الكريم بالكفر، إذ من المعلوم أن روح الكفر هو التمرد على أوامر
الحق، وإلا فإن الشيطان لم يصدر منه ما يفهم منه الكفر الإعتقادي.. وعليه فإن الذي
يعصي الحق مع الإيمان به، يحمل روح الكفر بين جنبيه، ولو بدرجة لا تساوي درجة عناد
إبليس..ولكن الذي يخشى منه، هو أن تتابع العصيان، قد تقلب العفويّة في المعصية إلى
تعمّد في الارتكاب، فيزداد اقتراباً من روح الكفر، إلى أن يصل إلى قلب الكفر نفسِه،
ليرتكب ما لم يرتكبه إبليس نفسُه.
شفافية بعض الأرواح
إن بعض النفوس تعيش شفافية خاصة، بعد طول استقامة في طريق الهدى، ومن آثار تلك
الشفافية هو ( التألم ) الشديد عند ارتكاب المعصية ولو كانت صغيرة، بما يجعله
يتوهّم - في بعض الحالات - عدم مغفرة الحق له..ويبلغ هذا التأثير في نفس صاحبه
مبلغاً، يجعله يعيش ( القلق ) الذي يعيقه عن القيام بما أمِـر به فيقع في مخالفات
أخرى.. ومما يبعث ( الأمل ) في نفوس المذنبين، ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) انه قال: "العبد ليذنب الذنب فيُدخله الجنة.. قيل وكيف ذلك يا رسول الله ( ص
) ؟!..فقال: يكون نصب عينيه، تائباً فاراً منه، حتى يدخل الجنة".
مادة الغضب وأثرها
إن للغضب من العبد مادة وأثر.. فمادة غضبه هو ( تأذّيـه ) من أذى الخصم، وأثره
هو ( إنزال ) العقوبة عليه مع قدرته على ذلك، فهناك ارتباط ومسانخة واضحة بين مادة
الغضب وأثرها، وإن كانت نفس من قام به الغضب هو المحقّق للربط بينهما.. وعليه نقول:
إن المعصية والنار بمثابة المادة والأثر، فبينهما كمال العُـلقة والمجانسة، التي
يحققها المولى خارجاً في إدخال صاحبها إلى النار..ومن المعلوم أن استحضار هذا
الاقتران ( الشرطي ) بين المعصية والنار، لمن الزوّاجر الكبرى عند الـهمّ بالمعصية
فضلاً عن ارتكابها، لأنه يرى الأثر متصلاً بمادته..ولكن عامة الخلق يرون المادة بما
فيها من لذائذ، وكأنها خالية عن الأثر الذي يصفه الحق بقوله: "ثم لترونها عين
اليقين".