نضج النفوس والأبدان
مقتطفات أخلاقية
إن للنفوس مراحلَ نضجٍ كمراحل نضج البدن الذي يمر بدور: الطفولة، والمراهقة، والبلوغ، والرشد..وأغلب نفوس الخلق تعيش المراحل ( الأولى ) من الطفولة والمراهقة،
عدد الزوار: 290
إن للنفوس مراحلَ نضجٍ كمراحل نضج البدن الذي يمر بدور: الطفولة، والمراهقة،
والبلوغ، والرشد..وأغلب نفوس الخلق تعيش المراحل ( الأولى ) من الطفولة والمراهقة،
وإن عَظُمت عناوينها الظاهرية، كحكومة ما بين المشرق والمغرب، أو التخصص في ميادين
العلوم الطبيعية..والدليل على ذلك ممارساتهم اللهوية السخيفة التي تنـزّلهم إلى
مستوى البهائم التي لا تعقل، وذلك عند انسلاخهم من تلك العناوين ( الاعتبارية ) في
خلواتهم، كما هو معروف عنهم..إن هذا الاعتقاد يسهّل على المؤمن كثيراً من أذى
الآخرين في هذا المجال - وخاصة القولية منه - لأنه صادر عمّن لا يعتد بقوله ولا
بفعله، كما لا يعتد بقول ( الطفل ) أو بفعله، فيما لو كان قصد أذى البالغين.
صفوف الشياطين
إن مَثَل من يريد فتح ميادين العبودية للحق، كمَثَل من يريد أن يقتحم صفّـاً
متراصاً من الشياطين يرونه ولا يراهم..فالحل الوحيد في هذا الموقف الرهيب هو أن (
يُشهر ) سلاحه، بما يفهم منه أنه صادق في المواجهة، ثم ( يقتحم ) الميدان عاملاً
بقاعدة: "إذ هبت أمراً فقع فيه، فإن شدة توقّـيه شر مما أنت فيه"..ثم ( ينتظر ) بعد
ذلك كله جنود الملائكة المسومين، تحيط به من كل حدب وصوب، وكيف تستطيع الشياطين
صبراً، أمام جنود الرحمن الموكّلة بالنصر والفتح ؟!..والمهم في هذا النصر، هي
مواصلة السير بعد اقتحام السد، وإلا فإن التباطؤ والركون إلى النصر الأول، مما قد
يوجب اجتماع فلول الشياطين المنهزمة لاستدراك الهزيمة، كما حصل في هزيمة أُحد بعد
فتح بدر.
نسبة الخلق إلى الكمالات
إن الناس بالنسبة إلى طلب الكمالات العليا على طوائف: ( فطائفة ) ليست لهم غاية
من غايات الكمال، فهم يعيشون عيشة الأنعام السائمة، همها علفها، وشغلها تقمّمها،
وهؤلاء الخلق يعيشون شيئاً من الراحة الحيوانية، كراحة الحيوان في مِـربطه إذ اجتمع
علفه وأنثاه..و( طائفة ) وصلوا إلى الغايات واستقروا فيها، مستمتعين بالنظر إلى
وجهه الكريم، في لقاء لا ينقطع أبداً..و( طائفة ) علموا بالغايات وآمنوا بلزوم
السير إليها، إلا أنهم يقومون تارة ويقعدون أخرى، فهم كالسنبلة التي تخـرّ تارة
وتستقيم أخرى، فلا يطيقون الركون إلى حياة البهائم كما في الطائفة الأولى، ولم
يصلوا إلى الغايات كما في الطائفة الثانية، فيعيشون حرمان اللذتين بنوعيها، فكيف
الخروج من ذلك ؟!.
القرين من الشياطين
إن الشياطين المقترنة بالعبد طوال عمره تحصي عليه عثراته، وتحفظ زلاّتـه، وتعلم
بما يثير غضبه أو حزنه أو شهوته..فإذا أراد التوجه إلى الرب الكريم في ساعة خلوة أو
انقطاع، ذكّره ببعض ( زلـله ) ليقذف في نفسه اليأس الصارف عن الدعاء، أو ذكّره بما
( يثـير ) حزنه وقلقه لـيُشغل بالـه ويشتت همّـه، وبذلك يسلبه التوجه والتركيز في
الدعاء..فعلى العبد أن يجـزم عزمه على عدم الالتفات لأيّ ( صارف ) قلبي أو ذهني، ما
دامت الفرصة سانحة للتحدث مع الرب الجليل، إذ الإذن بالدعاء - من خلال رقة القلب
وجريان الدمع - من علامات الاستجابة قطعاً.
الذكر بعد كل غفلة
إن من المعلوم في محله لزوم تحقيق الجزاء عند تحقق الشرط..فمقتضى قوله تعالى: "واذكر
ربك إذا نسيت"، أن يذكر العبد ربه بعد كل لحظه غفلة، فهو أمر مستقل يتعقب كل غفلة،
إذ لا تسوّغ الغفلة السابقة للتمادي في الغفلة اللاحقة، وعليه فإن من ( الجهالة )
بمكان أن يترك العبد ذكر ربـه، لوقوعه في عالم الغفلة برهةً من الزمان، فهو ( تسويلٌ
) شيطاني يراد منه استقرار العبد في غفلته وعدم الخلاص منها أبداً..ومن الملف حقاً
في هذه الآية وغيرها من آيات دعوة الحق المتعال العباد إلى نفسه، عظمة الرب الكريم
وسعة تفضلّـه على العباد..وإلا فما هو وجه ( انتفاع ) الحق بذكر العبد له ؟!، بل إن
إصرار العظيم في دعوة الحقير إليه، مما لا يتعارف صدوره من العباد، بل لا يُـعّد
مقبولاً لديهم، ولكنه الرب الودود استعمل ذلك في تعامله مع خلقه تحنناً
وتكرّما..وقد ورد في الحديث القدسي: "يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم
كانوا على قلب أتقى رجل منكم، لم يُـزد ذلك في ملكي شيئاً..يا عبادي! لو أن أولكم
وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا على صعيد واحد، فسألوني وأعطيت كل إنسان منكم ما
سأل،لم يُـنقص ذلك من ملكي شيئاً، إلا كما ينقص البحر أن يغمس فيه المخيط غمسة
واحدة".
حصر الخشية بالحق
إن من سمات المؤمنين حصر خشيتهم بالحق المتعال، مصداقاً لقوله تعالى: "ولا
يخشون أحداً إلا الله"..فالخوف والقلق والرهبة من الخلق، أمور تخالف الخشية من الحق،
وأما ( المداراة ) والتقية فلا تنافي تلك الخشية، إذ أن عدم الخشية من الخلق محله (
القلب )، وهو يجتمع مع مداراة ( الجوارح ) حيث أمر الحق بذلك، كما اتفق ذلك في حياة
أئمة الهدى (عليه السلام)، كما اتفق في حياتهم أيضاً تجليّ ذلك الاستعلاء الإيماني
الذي يفرضه عدم خشية الباطن، وذلك كما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) عندما
كتب له المنصور لم لا تغشانا كما يغشانا الناس ؟، فقال (عليه السلام): "ليس لنا ما
نخاف من أجله، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له..ثم قال: من أراد الدنيا لا
ينصحك، ومن أراد الآخرة لا يصحبك"البحار-ج47ص184..ومن ذلك يعلم كاشفية بعض الأمور -
ومنها خشية الحق - لمستوى القلب هبوطاً وصعوداً، وهو الملاك في تقييم العباد..فمن
يرى في نفسه حالة الخشية والرهبة من غير الحق، فليعلم أنه على غير السبيل السويّ
الذي أمر به الحق، فعليه أن يبحث عما أدى إلى مثل هذا الخلل في نفسه، ومن ( موجبات
) هذا الخلل: عظمة ما دون الحق في عينه، المستلزمة لصغر الحق في نفسه.
كالمرأة الأجنبية
إن روح المؤمن في التعامل مع العباد، كالمرأة الأجنبية التي اشتد حياؤها بين
الرجال..فهو ( يُعفّ ) نفسه عن الدخول في الملأ الذي يرى نفسه أجنبياً عنه، كما تعفّ
المرأة نفسها عن الدخول في ملأ غير المحارم من الرجال..ومن هنا كان إقبال الخواص من
أولياء الحق، ( بشيرَ ) خيرٍ لمن أقبلوا عليه، وقد أمرنا باتقاء فراسة المؤمن، لأنه
ينظر بنور الله تعالى..وأما الأرواح المبتذلة، فإنها ( تأنس ) مع كل من يجتمع معها
ولو في بعض الطريق، وهو أنس لا دوام له ولا قرار، كعدم ائتلاف قلوب البهائم، وإن
طال اعتلافها على مزود واحد.
من صور تكريم الحق
إن معاجز وشفاعة الأنبياء والأوصياء، وبركات الصالحين والأولياء، تُـعد صورةٌ
من صور ( التكريم ) للطائعين، باعتبار ما صدر عنهم من الطاعة للحق المتعال، فعاد
الأمر بذلك إلى ( شأنٍ ) من شؤون الملك الحق المبين..وكلما عَـظُم تكريم الحق لهم
بالصور المذكورة، كلما ارتفع شأن الحق نفسِه..وليعلم أيضا أن أمر الكرامة والمعجزة
والشفاعة، يؤول أخيراً إلى الحق المتعال، لكون ذلك كله بإذنه، بل إن نفوس أصحابها
قائمة بإرادة الحق القدير في أصل خلقه لهم، وإلا اعتراهم الفناء والزوال!!..فهل
تبقى بعد ذلك غرابةٌ، حتى لو صدر ( أضعاف ) ما روي عنهم (عليه السلام) في هذا
المجال ؟!.
تحدي المعلومات الصعبة
إن بعض النفوس تعيش حالة من ( التحدي ) مع المعلومة التي يصعب فهمها، فتستنفر
النفس طاقتها لفك تلك المعلومة، ليشعر بعدها بزهو الانتصار..وبناء على ذلك فإن توجه
النفس للعلوم والمجاهدة في استيعاب دقائقها، قد يعود بوسائط ( خفيـّة ) إلى هذه
الرغبة الكامنة في بعض النفوس المستذوقة لهذا النمط من الفتوحات في العلوم..وإن من
مصاديق ذلك هو علم الدين والشريعة، فقد ينطلق العبد فيه من المنطلق نفسه، فيكتسب
تلك العلوم بعد طول مجاهدة، ليعيش بعدها فرحة ( الاقتدار ) على ما لم يقْـدر عليه
الآخرون من أقرانه، فيستطيل بذلك الاقتدار على العلماء، ويباهي به السفهاء..ومن
المعلوم أن ليس ذلك من قرب الحق في شيء، بل يدعو عليه الإمام أمير المؤمنين (عليه
السلام) بقوله: "فدقّ من هذا خيشومه، وقطع عنه حيزومه...فأعمى بصره وقطع من آثار
العلماء أثره"البحار-ج2ص46.
الدين ليس هو الحرمان
إن الشيطان يصوّر الدين عند الغافلين بما يلازم ( الحرمان )، مستغلا في ذلك
المناهي الواردة من الشرع، منفراً لهم الدين وأهله..والحال أن نسبة الممنوعات في
الشريعة أقل من المباحات، إذ الأصل الأولي في الأشياء هو ( الإباحة )، خرج منه ما
خرج بالدليل..فليس من الإنصاف أبداً أن نصف الدين بأنه سلسلة من المناهي، هذا كله
إضافة إلى أن المناهي مطابقة للفطرة السليمة، بما يضمن سلامة الفرد
والمجتمع..وأخيراً فإن من المعلوم في هذا المجال أن المناهي ( يقابلها ) المباحات
من الجنس نفسه، فالزواج في مقابل الزّنا، والطيبات من الطعام والشراب في مقابل
الخبائث، والعقود التي أمر الشارع بالوفاء بها في مقابل الربا والعقود المحرمة،
وهكذا الأمر في باقي البدائل المحللة للمحرمات، في مختلف شؤون الحياة.
سجن الأب والظالم
إن الفارق بين بلاء المؤمن وغيره، كالفرق بين سجن ( الأب ) العطوف لولده، وبين
سجن ( الظالم ) له..إذ في الأول تطيب نفسه بذلك، لعلمه أن ذلك بعين من يعلم صلاحه
ويحب خيره، إضافة إلى أنه عند تناهي الشدة لما هو فيه، يعظم أمله بالاستجابة، وذلك
بطلب الفرج ممن هو عطوف به، حريص عليه..وهذا خلافاً لمن لا يرى أيـّا من ( الخصلتين
)، وهو في سجن الظالم الجائر.
مقياس الشّفافية
إن من مقاييس حياة الروح وشفافيتها أمور، الأول: وهي ( الصلاة ) الخاشعة،
الثاني: وهو ( التأثر ) بمصائب أهل البيت (عليه السلام)، والثالث: وهو ( التعلق )
القلبي بمن هو إمام عصره وحجة زمانه..فالأول كاشف عن قربه من الغاية، والثاني كاشف
عن قربه من الوسيلة العامة، والثالث كاشف عن قربه من الوسيلة الخاصة يوم يدعى كل
أناس بإمامهم..ومن المعلوم أن المؤمن لا غنى له عن كل ذلك، إذ أن بكل واحد من تلك
الأمور الثلاثة، يكتمل بُـعدٌ من أبعاده.
الملائكة الموكلة بالعبد
لو استقرأ الإنسان روايات الملائكة المصاحبة للعبد في ليله ونهاره، لانتابه
العجب من ( تعدد ) الملائكة الموكلين به، سواء في ( كتابة ) سيئاته وحسناته، أو في
( حفظه ) من أمر الله عزّ وجل، كما في المعقبات من الملائكة الذين إذا جاء قَـدَر
الحق، خلّـوا بينه وبين ذلك القدر..ومن ذلك يعلم أهمية موقع الإنسان في عالم الوجود،
المستلزم لتسخير الحق المتعال للملائكة الكرام في تدبير شؤون العبد، مع شدة غفلة
العبد عما يحيط به من عوالـمَ مذهلة..فلو اطلع مثلاً بقلبه على قرآن الفجر، حيث
يشهده صعود ملائكة الليل وهبوط ملائكة النهار، لاستغل تلك الساعة التي لا ترجع إليه
أبدا، لتشهد الملائكة آخر خيـرٍ في نهاية قائمة أعماله الصاعدة، وخيراً جديداً في
بداية قائمة أعماله النازلة.
رتبة الاجتهاد
لا شك أن مرتبة الاجتهاد مع العدالة، لمن أعظم الرتب في زمان الغيبة، إذ أنها
ترفع العبد إلى رتبة ( النيابة ) العامة عن صاحب الأمر (عليه السلام)..فكم من
العظمة بمكان، أن يكون ما أدى إليه نظر المجتهد ( حجة ) للعبد يحتج به يوم القيامة،
رافعاً لعذر وموجباً لأجر حتى مع انكشاف خلاف ذلك، فما المانع من كرم الحق المتعال،
أن يثيب العبد على ارتكابه الحرام الذي رآه واجباً بمقتضى تقليده لذلك المجتهد بأمر
من المولى نفسه ؟!..ومن هنا يدعو الشيخ الأعظم قائلاً: "وفقنا للاجتهاد الذي هو أشد
من طول الجهاد".
الذكر بعد الطاعة
إن العبد الغافل يعطي لنفسه الحق في شيء من الاسترخاء والترسّل، بعد أدائه
لفريضة واجبة أو مستحبة، وكأنه فرغ من وظائف العبودية بكل أقسامها، فما عليه إلا أن
يرتع ويلعب كما يلعب الصبيان بعد فراغهم مما ألزموا به من تكاليفَ ثقلت
عليهم..والحال أن القرآن الكريم يذّكر العباد بعكس ذلك، إذ يحثهم بعد صلاة ( الجمعة
)، على الانتشار في الأرض، وابتغاء فضل الله تعالى، ثم يدعوهم إلى الذكر الكثير
ليتحقق لهم الفلاح..كما يدعوهم إلى ذكره عند ( الإفاضة ) من عرفات - بعدما استفرغوا
فيها جهدهم بالدعاء - فيطالبهم بذكره عند المشعر الحرام..وكذلك يحثهم على ذكره عند
( قضاء ) المناسك فيقول تعالى: "فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو
أشدّ ذكراً"..والحال أن أغلب الخلق يخرجون عن الذكر الكثير، بل يدخلون في عالم
الغفلة من أوسع أبوابه، بعد قضاء المناسك، اعتمادا على المغفرة التي شملتهم فيها.
كالمندس في الوفد
إن مَثَلَ العبد المستجلب لرأفة الرب المتعال في صلاة الجماعة، كمَثَل من (
يندسّ ) في وفد قادم على عظيم وللعظيم على ذلك القادم حق يستلزم الأخذ به، ( فيعوّل
) على انخراطه في صفوفهم، تحاشياً لخلوة العظيم به بما يستتبعه من عقاب أو
عتاب..ولهذا كانت الرحمة غامرة فيها بما لا تحتمله العقول، فقد روي عن النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) أنه قال: "فإن زادوا على العشرة، فلو صارت السماوات كلها
قرطاساً، والبحر مداداً، والأشجار أقلاماً، والثقلان مع الملائكة كتاباً، لم يقدروا
أن يكتبوا ثواب ركعة"..ثم عقّبها - في العروة الوثقى في باب الجماعة - بقوله: وقد
ورد في فضلها وذم تاركها من ضروب التأكيد ما كاد يلحقها بالواجبات.
الاستغفار المتكرر
إن من أعظم سمات العبودية، هو الاستغفار المتكرر في اليوم والليلة..فإن مَثَل
الاستغفار كمَثَل من يغسل بدنه من دون التفات إلى قذارته، فهو بعمله هذا ( يضمن )
طهارة بدنه، وإن تدنس بما لم يعلم به ولم يلتفت إليه..وبقليل من التأمل يلتفت العبد
إلى أنه لو خليت جوارحه عن المعصية، فإن جوانحه لا تخلو من ( الغفلة ) المتكررة إن
لم تكن المطبقة، وهذا كافٍ بنفسه لإيجاب مثل هذا الاستغفار المتواصل..وقد روي عن
سيد الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) - على قرب منـزلته من الحق وعدم غفلته عنه
أبداً - أنه قال: "إنه ليغان على قلبي، وإني لاستغفر بالنهار سبعين
مرة"البحار-ج25ص204، ولا يستبعد في مثل هذه الروايات، أن يكون ما يعتري النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) بلحاظ غفلة أمته، فيكون الإستغفار بلحاظهم أيضاً.
المنة للآكل لا للمأكول
إن العبد بتناوله الطعام يجعل ذلك الطعام - وهو الجماد الذي لا روح فيه - جزءاً
من ( وجوده ) وهو أشرف الأحياء..وعليه فهو صاحب ( المـنّة ) على الطعام، إذ بسببه
يتحول السافل الجامد إلى العالي النابض بالحياة، والحال أن الخـلق يرون المنّـة
للطعام، إذ يجلب لهم التلذذ والاستمتاع، والدليل على ذلك أنهم هم الذين يُقبِلون
عليه بنهم وولع شديدين، مع صرفهم للمال الوفير من أجله..وينبغي الالتفات في هذا
السياق، إلى ضرورة ( التفحص ) فيما سيجعله جزءاً من كيانه البدني، إذ الخبيث لا
يصدر منه الطيّـب، وهذه هي إحدى أسباب فتور الأعضاء عن العبادة، كما ورد التصريح به
في روايات عديدة.
عدم الوحشة
إن مما يربط على قلوب المؤمنين - وخاصة عند تناهي الفساد وقلة الثابتين على
طريق الحق - هو ( تذكّر ) تلك الصفوة القليلة الثابتة طول التأريخ، فهو يمشي على
طريق قد مضى عليه من قبله أمثال: سحرة فرعون، وأصحاب الأخدود، ومؤمن آل فرعون،
وحواريّـو عيسى بن مريم، والصلحاء من بني إسرائيل، وأخيراً أصحاب النبي وآله (عليه
السلام) الذين اتبعوهم بإحسان، هذا كله فضلاً عن قادة المسيرة من الأنبياء
والأوصياء (عليه السلام)..إن الإحساس بهذا ( الانتماء ) الضارب جذوره في أعماق
التاريخ، يجعل المؤمن يعيش حالة من ( الارتباط ) بالخالدين، مما يرفع شيئا من وحشته،
ولو كان في بلدٍ لا يطاع فيه الحق ابداً..وقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام)
أنه قال: "لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله، فإن الناس اجتمعوا على مائدة،
شبعها قصير وجوعها طويل"النهج-خطبة 201.
التهيب من السقوط
يتهيب البعض قبل القدوم على موسم طاعةٍ كشهر رمضان أو الحج، من السقوط في
الامتحان بعدم الإقبال على الحق، في موطن ( أحوج ) ما يكون فيه إلى
الإقبال..والمطلوب من العبد الذي يرجو الفوز - في مثل هذه المواضع - أن يتحاشى
موجبات الادبار ( الظاهرية ): كالإسترسال في الطعام والمنام، واللغو من القول،
والجلوس مع البطالين، وأن يتحاشىكذلك موجبات الإدبار ( الباطنية ): كالمعاصي
الكبيرة والصغيرة، وذلك قبل الدخول في تلك المواطن، ثم يسلّم أمره بعد ذلك كله إلى
مقلب القلوب والأبصار، ليحوّل حاله إلى أحسن الحال، فهو الذي يَحُول بين المرء
وقبله، إذ أن قلب العبد بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلّـبه كيفما يشاء.
التسليم استعداداً وعمل
إن تسليم العبد لأمر رب العالمين عن طواعية ورضا، لمن أعظم موجبات الفوز
والفلاح..إذ أن استعداد العبد النفسي ( لتلقّي ) كل محمود ومكروه من قضاء الله
وقدره، بل وارتضاء ما فيه حبه ورضاه، لهي السمة ( المميّـزة ) من سمات العبودية
للحق المتعال، فكيف إذا اقترن ذلك الاستعداد النفسي، بالإثبات ( العملي ) لما يدعيه
قولاً، ويبديه استعداداً..ومن هنا يعلم سر خلود أصحاب سيد الشهداء (عليه السلام)،
الذين وُصفوا بأنهم أبـرّ الأصحاب وأوفاهم، وهو وسام لم يعط لجمعٍ من قبلهم، كما لم
يشهد التاريخ جمعاً مثلهم في التفاني حول راية الهدى..فهذا زهير بن القين يقول: "اللهم
إنك تعلم أنه لو كان رضاك، في أن أضع ضبة سيفي في بطني، حتى يخرج من ظهري لفعلت".
* الشيخ حبيب الكاظمي
2016-01-22