بدء الوَحي
سيد المرسلين
انّ التاريخ الإسلامي يبدأ في الحقيقة من يوم بعثة الرسول صلّى اللّه عليه وآله بالرسالة، والتي وقعت على أثره حوادث خاصة.
عدد الزوار: 96
انّ التاريخ الإسلامي يبدأ في الحقيقة من يوم بعثة الرسول صلّى اللّه عليه وآله
بالرسالة، والتي وقعت على أثره حوادث خاصة.
ويوم بُعث النبيُّ الاكرم صلّى اللّه عليه وآله لهداية الناس، ودوّى في سمعه الشريف
نداء "إنك لرسول اللّه" الصادر عن ملاك الوحي اُلقيت على كاهله مسؤولية كبرى وثقيلة
جدّاً، على نمط الوظيفة الهامة التي اُلقيت على كاهل من سبقه من الانبياء والرسل
صلوات اللّه عليهم أجمعين.
منذ ذلك اليوم اتضح هدف أمين قريش، أكثر فأكثر، وتجلت خطته اكثر فأكثر.
ونحن نرى من اللازم قبل شرح الحوادث الاُولى الواقعة عند
البعثة ان نعطي بعض الايضاحات حول مسألتين
1- وجوبُ بعث الأنبياء.
2- دورُ الانبياء في اصلاح المجتمع.
لقد أودع اللّه تعالى في كيان كُلّ كائن من الكائنات أدوات تكامله، وجهّزه - لسلوك
هذا الطريق - بالوسائل المتنوعة، والأجهزة المختلفة اللازمة.
ولنأخذ مثلاً :نبتة صغيرة، فان
ثمة عوامل كثيرة تتفاعل في ما بينها وتعمل لتحقيق التكامل فيها.ان جذور كل نبتة
تعمل اكبر قدر ممكن لامتصاص العناصر الغذائية، وتلبية احتياجات النبتة، وتوصل
العروق والقنوات المختلفة، عصارة ما تأخذه من الارض إلى جميع الاغصان والاوراق.
إننا لو درسنا جهاز (وردة) لرأيناه اكثر مدعاة للاعجاب وأشد اثارة للتعجب من تركيب
بقية النباتات.فللكأس وظيفة توفير الغطاء اللازم للاوراق الناعمة اللطيفة في
الوردة.وهكذا الحال بالنسبة الى بقية الأجهزة في "الوردة" ممّا اُنيط إليها مسؤولية
الحفاظ على كائن حيّ، وضمان رشده ونموّه، فإنها جميعاً تقوم بوظائفها المخلوقة لها
بأحسن شكل، وأفضل صورة.
ولو أننا خطونا خطوات اكثر وتقدّمنا بعض الشيء لدراسة الأجهزة العجيبة في عالم
الأحياء، لرأينا أنها جميعاً وبدون استثناء مُزوّدة بما يضمن بلوغها الى مرحلة
الكمال المطلوب لها.
وإذا أردنا أن نصبّ هذا الموضوع في قالب علميّ لوجب أن نقول :انّ الهداية
التكوينية، التي هي النعمة المتجلّية في عالم الطبيعة، تشمل كل موجودات هذا العالم
من نبات، وحيوان وانسان.
ويبيّن القرآن الكريم هذه الهداية التكوينية الشاملة بقوله :﴿ قَالَ
رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾1.
فانّه يصرّح بأن كل شيء في هذا الكون من الذرة إلى المجرّة ينعم بهذا الفيض العامّ،
وانّ اللّه تعالى بعد أن قدّر كل موجود وكائن، بيّن له طريق تكامله، ورُقيّه، وهيأ
لكل كائن مِن تلك الكائنات ما يحتاج إليه في تربيته ونموّه، وهذه هي (الهداية
التكوينية العامة) السائدة على كل ارجاء الخليقة دونما استثناء.
ولكن هل تكفي هذه الهداية الفطرية، التكوينية لكائن مثل الإنسان، اشرف الموجودات،
وافضل ما في هذه الخليقة؟!
بكل تأكيد :لا.
لأن للإنسان حياة اُخرى غير الحياة المادية، تشكل اساس حياته الواقعية، ولو كان
للإنسان حيادة مادية جافّة فقط مثلما لعالم النباتات، والحيوانات، لكفت العواملُ
والعناصرُ المادية في تكامله، والحال أن للإنسان نوعين من الحياة، يكمن في تكاملهما
معاً رمز سعادة الإنسان ورقيّه.
ان الإنسان الأول، ونعني به انسان الكهوف والحياة البسيطة والفطرة السليمة التي لم
يطرأ على جبلته أي إعوجاج لم يكن بحاجة إلى ما يحتاج اليه الإنسان الإجتماعيّ من
التربية والهداية.
ولكن عندما خطى الإنسانُ خطوات أبعد من ذلك، وبدأ الحياة الاجتماعية، وسادت على
حياته فكرة التعاون والعمل الجماعي برزت في روحه ونفسيته سلسلة من الانحرافات نتيجة
للاحتكاك الاجتماعي، وغيّرت الخصال القبيحة والافكار الخاطئة صفاتِه الفطرية،
وبالتالي اخرج المجتمع من حالة التوازن!
إن هذه الانحرافات حملت خالق الكون على أن يرسل إلى البشرية رجالاً أفذاذاً صالحين
يتولّون تربية البشر، وليقوموا بتنظيم برنامج المجتمع، والتخفيف من المفاسد الناشئة
- بصورة مباشرة - عن النزعة الاجتماعية لدى الإنسان، وليضيئوا بمشاعل الوحي
المشّعة المنيرة طريق السعادة والخير للانسانية في جميع المجالات والابعاد.
إذ لا نقاش في أنّ الحياة الاجتماعية والعيش بصورة جماعية مع كونه مفيداً، ينطوي
على مفاسد لا تُنكر، ويجرّ إلى انحرافات كثيرة لا تقبل الترديد.
ولهذا بعث اللّه سبحانه رجالاً مصلحين، وهداة مرشدين يعملون قدر الامكان على الحدّ
من الانحرافات والمفاسد، ويضعون عجلة المجتمع - بتنظيم القوانين الواضحة والانظمة
الحكيمة على الطريق الصحيح، ويضمنون دورانها وحركتها في المسار المستقيم.وقد
يُستفاد هذا الامر بوضوح من قوله تعالى:﴿كَانَ
النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ
وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ
فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ﴾2.
دَور الانبياء في اصلاح المجتمع
ان الذي يتصوره الناس عادة هو أنّ الانبياء مجرد معلّمين إلهيين بُعِثوا لتعليم
البشرية.فكما يتعلم الطفل خلال
حركته التعليمية ابتداء من الابتدائية ومروراً بالمتوسطة وانتهاء بالجامعة دروساً
معينة ومواضيع خاصة على ايدي الاساتذة والمعلمين، كذلك يتعلم الناس في مدرسة
الانبياء اُموراً خاصة، ويكتسبون معارف معينة، وتتكامل أخلاقهم وصفاتهم وخصالهم
الاجتماعية جنباً الى جنب مع اكتسابهم المعرفة والعلم على أيدي الأنبياء والمرسلين.
ولكننا نتصور ان مهمة الانبياء ووظيفتهم الاساسية هي (تربية) المجتمعات البشرية لا
تعليمها، وان اساس شريعتهم لا ينطوي على كلام جديد، وانه ما لم تنحرف الفطرة
البشرية عن مسارها الصحيح، وما لم تلفها غشاوات الجهل والغفلة لعرفت وادركت خلاصة
الدين الالهي، وعصارتها، في غير ابهام، ولا خفاء.
على أن هذه الحقيقة قد أشار
اليها قادة الإسلام العظماء.فقد قال امير المؤمنين عليه السّلام في نهج البلاغة عن
هدف الانبياء :"أخذ على الوحي ميثاقهم، وعلى تبليغ الرسالة
أمانتهم...لِيستأدُوهم ميثاق فِطرتِه، ويُذكرُوهم منسيّ نِعمته، ويحتجّوا عليهم
بالتبليغ، ويُثيروا لهم دفائن العُقول"3.
مثالٌ واضح في المقام
اذا قلنا :ان وظيفة الانبياء في تربية الناس واصلاح نفوسهم هي وظيفة البستاني في
تربية شجيرة من الشجرات، أو قلنا :أن مثل الأنبياء في قيادة التوجّهات الفطرية
البشرية وهدايتها، مثل المهندس الذي يستخرج المعادن الثمينة من بطون الاودية
والجبال، لم نكن في هذا القول مبالغين.
وتوضيح ذلك ان النبتة، أو الشجيرة الصغيرة تحمل من بداية انعقاد حبتها الاُولى كل
قابليات النمو، والرشد، فاذا توفر لها الجوُ المناسب للنمو، دبّت الحياة والحركة في
كل أجزائها، واستطاعت بفعل جذورها القوية واجهزتها المتنوعة وفي الهواء الطلق،
والضوء اللازم، من أن تقطع أشواطاً كبيرة من التكامل، والنمو.
فمسؤولية البستاني في هذه الحالة تتركز في امرين
1- توفير الظروف اللازمة لتقوية جذور تلك النبتة لكي تظهر القوى المودعة في تلك
النبتة أو الشجيرة، وتخرج من حيّز القوة إلى مرحلة الفعلية، والتحقق.
2- الحيلولة دون تعرض تلك الشجرة أو النبتة للانحرافات والآفات، وذلك عندما تتجه
القوى الباطنية صوب الوجهة المخالفة لسعادتها، وتسلك طريقاً ينافي تكاملها.
ومن هنا فان مسؤولية البستاني ووظيفته ليست هي (الإنماء) بل هي (المراقبة) وتوفير
الظروف اللازمة ليتهيّأ لتلك الشجرة والنبتة أن تبرز كمالها الباطني.
لقد خلق اللّه سبحانه البشر
وأودع في كيانه طاقات متنوعة، وغرائز كثيرة، وعجن فطرته وجبلّته بالتوحيد، وحبّ
معرفة اللّه، وحبّ الحق والخير، والعدل والانصاف، كما وأودع فيه غريزة السعي
والعمل.
وعندما تبدأ خمائر هذه الامور وبذورها الصالحة المودوعة بالعمل والتفاعل في كيان
الإنسان تتعرض في الجو الاجتماعي لِبعض الانحرافات بصورة قهرية،فغريزة العمل والسعي
تتخذ شيئاً فشيئاً صفة الحرص والطمع، وغريزة حب السعادة والبقاء تتخذ صورة
الانانية، وحب الجاه والمنصب، ويتجلى نور التوحيد والإيمان في لباس الوثنية وعبادة
الأصنام.
في هذه الحالة يعمل سفراء اللّه الى البشرية :(الانبياء والرسل)على توفير ظروف
الرشد والنمو الصحيح لتلك الغرائز وتلك القوى والطاقات في ضوء الوحي، والبرامج
الصحيحة المستلهمة من ذلك المنبع الالهي الهادي، ويقومون بالتالي بتعديل انحرافات
الغرائز، والوقوف دون تجاوزها حدودها المعقولة المطلوبة.
ولقد قال امير المؤمنين في ما مرّ من كلامه :إن اللّه أخذ في مبدأ الخلق ميثاقاً
يدعى "ميثاق الفطرة".
فما هو ترى المقصود من ميثاق الفطرة هذا؟
إن المقصود من هذا الميثاق هو :أن اللّه تعالى بخلقه وايداعه الغرائز المفيدة في
الكيان الإنساني، وبمزج الفطرة البشرية بعشرات الأخلاق الطيبة والسجايا الصالحة
يكون قد أخذ من الإنسان ميثاقاً فطرياً بأن يتبع خصال الخير، ويأخذ بالغرائز
الطّيبة الصالحة.
فاذا كان منح جهاز البصر (العين)للإنسان هو نوع من اخذ الميثاق من الإنسان بان
يتجنب المزالق، ولا يقع في البئر، فكذلك ايداع حسّ التدين، وغريزة الانجذاب الى
اللّه، وحبّ العدل، في كيانه هو الآخر نوع من اخذ الميثاق منه بأن يظل مؤمناً
باللّه، موحّداً إياه، عادلاً، منصفاً، محباً للخير والحق.
وإن وظيفة الأنبياء هي أن يحملوا الناس على العمل بمقتضي ميثاق الفطرة، وبالتالي
فانّ مهمّتهم الأساسية الحقيقية هي تمزيق اغشية الجهل وتبديد سحب الغفلة التي قد
ترين على جوهرة الفطرة المطعمة بنور الايمان، فتمنعها من الاشراق على وجود الإنسان،
وتحرمُ الإنسان من هدايتها.
ومن هنا قالوا :إن أساس الشرائع الالهية يتألف من الامور الفطرية، التي فطر الإنسان
عليها.
وكأنّ صرح الكيان الإنساني (جبلٌ)اختفت بين ثنايا صخوره وفي بطونه احجار كريمة
كثيرة ومعادن ذهبية ثمينة، فالوجود الإنساني هو الآخر قد اُودعت فيه فضائل وعلوم،
ومعارف وخصال، واخلاق متنوعة.
فعندما يغورُ الانبياء والمهندسون الروحيّون في أعماق نفوسنا وذواتنا وهم يعلمون
جيداً أن نفوسنا معجونة بطائفة من الصفات والسجايا النبيلة والمشاعر والاحاسيس
الطيبة، ويعملون على اعادة نفوسنا بتعاليم الدين وبرامجه الى جادة الفطرة المستقيمة
السليمة فانهم في الحقيقة يذكّروننا بأحكام فطرتنا، ويُسمّعوننا نداء ضمائرنا،
ويلفتونها إلى الصفات، والى الشخصية المودوعة فيها.
تلك هي رسالة الانبياء، وذلك هو عملهم الاساسي، وهذا هو دورهم في اصلاح النوع
الإنساني، أفراداً وجماعات.
أمين قريش في غار حراء
يقع جبل "حِراء" في شمال "مكة" ويستغرق الصعود إلى غار حراء مدة نصف ساعة من
الزمان.
ويتألف ظاهر هذا الجبل من قطع صخرية سوداء، لا يُرى فيها أيُّ أثر للحياة
أبداً.ويوجد في النقطة الشمالية من هذا الجبل غار يمكن للمرء أن يصل اليه ولكن عبر
تلك الصخور، ويرتفع سقف هذا الغار قامة رجل، وبينما تضيء الشمس قسماً منه، تغرق
نواح اُخرى منه في ظلمةٍ دائمةٍ.
ولكن هذا الغار يحمل في رحابه ذكريات كثيرة عن صاحب له طالما تردّد عليه، وقضى
ساعات بل وأياماً وأشهراً في رحابه... ذكريات يتشوق الناس وحتى هذا الساعة الى
سماعها من ذلك الغار، ولذلك تجدهم يسارعون إلى لقائه كلّما زاروا تلك الديار،
متحملين في هذا السبيل كل عناء، للوصول إلى رحابه، لكي يستفسروه عما جرى فيه عند
وقوع حادثة : "الوحي" العظيمة وليسألون عما تحتفظ به ذاكرته من تاريخ رسول
الإنسانية الاكبر ممّا جرت حوادثه في ذلك المكان التاريخي، العجيب.
ويتحدث ذلك الغار هو الآخر اليهم بلسان الحال ويقول :ها هنا المكان الذي كان يتعبد
فيه عزيز قريش وفتاها الصادق الامين.
وها هنا قضى ليالي وأياماً عديدة وطويلة قبل ان يبلغ مرتبة الرسالة، في عبادة
اللّه، والتأمل في الكون، وفي آثار قدرة اللّه وعظمته.
أجل، لقد اختار محمّد صلّى اللّه عليه وآله ذلك المكان البعيد عن ضجيج الحياة،
للعبادة والتحنث، فكان يمضي جميع الايام من شهر رمضان فيه، وربما لجأ إليه في غير
هذا الشهر أحياناً اُخرى، إلى درجة أنّ زوجته الوفيّة كانت إذا لم يرجع إلى منزلها،
تعرفُ أنه قد ذهب إلى "غار حراء" وأنه هناك مشتغل بالعبادة والتحنث والاعتكاف.
وكانت كلّما أرسلت إليه أحداً وجده في ذلك المكان مستغرقاً في التأمل والتفكير، او
مشتغلاً بالعبادة والتحنث.
لقد كان صلّى اللّه عليه وآله قبل أن يبلغ مقام النبوة،
ويُبعث بالرسالة يفكر اكثر شيء في أمرين
1- كان يفكر في ملكوت السماوات والارض، ويرى في ملامح كل واحد من الكائنات التي
يشاهدها نور الخالق العظيم، وقدرته، وعظمته وعلمه، وقد كانت تفتح عليه من هذا
السبيل نوافذ من الغيب تحمل الى قلبه وعقله النور الالهيّ المقدس.
2- كان يفكر في المسؤولية الثقيلة التي ستوضع على كاهله.
إن اصلاح المجتمع في ذلك اليوم على ما كان عليه من فساد عريق وانحطاط عريض، لم يكن
في نظره وتقديره بالامر المحال الممتنع. ولكن تطبيق مثل هذا البرنامج الاصلاحيّ لم
يكن في نفس الوقت أمراً خالياً من العناء والمشاكل، من هنا كان يفكر طويلاً في
الفساد في حياة المجتمع المكّي وما يراه من ترف قريش، وكيفيّة رفع كل ذلك واصلاحه.
لقد كان صلّى اللّه عليه وآله حزيناً لما يرى من قومه من فساد العقيدة المتمثل في
الخضوع للأوثان الميتة، والعبادة للأصنام الخاوية الباطلة، ولطالما شوهدت آثار ذلك
الحزن على محيّاه، وملامح وجهه الشريف، ولكن لما لم يكن مأذوناً بالافصاح بالحقائق،
لذلك كان يتجنب ردع الناس عن تلك المفاسد، ومنعهم عن تلك الانحرافات.
بدء الوحي
لقد امر اللّه ملكاً من ملائكته بأن ينزل على امين قريش وهو في غار حراء ويتلو على
مسمعه بضع آيات كبداية لكتاب الهداية والسعادة، معلناً بذلك تتويجه بالنبوة، ونصبه
لمقام الرسالة.
كان ذلك الملَك "جبرئيل"، وكان ذلك اليوم هو يوم المبعث النبوي الشريف الذي سنتحدث
عن تاريخه في المستقبل.ولا ريب أن ملاقاة الملك ومواجهته أمرٌ كان يحتاج إلى تهيّؤ
خاصّ، وما لم يكن محمّد صلّى اللّه عليه وآله يمتلك روحاً عظيمة، ونفسية قوية لم
يكن قادراً قط على تحمّل ثقل النبوة، وملاقاة ذلك الملك العظيم.
أجل لقد كان "أمين قريش" يمتلك تلك الروح الكبرى، وتلك النفس العظيمة وقد اكتسبها
عن طريق العبادات الطويلة، والتأمّل العميق الدائم، الى جانب العناية الالهية.ولقد
روى أصحاب السير والتاريخ انه رأى رؤىً عديدة قبل البعثة كانت تكشف عن واقع بيّن
واضحٍ وضوح النهار4.
ولقد كانت الذّ الساعات وأحبها عنده بعد كل فترة، تلك الساعات التي يخلو فيها
بنفسه، ويتعبّد فيها بعيداً عن الناس.ولقد قضى على هذا الحال مدة طويلة حتى أتاه في
يوم معين ملك عظيم بلوح نصبَهُ أمامه وقال له :"إقرأ"، وحيث أنه صلّى اللّه عليه
وآله كان اُمياً لم يدرس أجاب الملَك بقوله : "ما أنا بقارئ".
فاحتضنه ذلك الملك، وعصره عصرة شديدة، ثم طلب منه أن يقرأ فأجابه بالجواب الأول.
فعصره الملك ثانية عصرة شديدة وتكرّر هذا العمل مرات ثلاث احس بعدها رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وآله في نفسه أنه قادر على قراءة ما في ذلك اللوح، فقرأ ساعتها تلك
الآيات التي تشكل في الحقيقة ديباجة كتاب السعادة البشرية، واساس رقيها.
لقد قرأ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قوله تعالى :﴿اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ *اقْرَأْ
وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا
لَمْ يَعْلَمْ ﴾5.
وبعد أن انتهى جبرئيل من أداء مُهمته التي كُلِّف بها من جانب اللّه تعالى، وبلّغ
الى النبي تلكم الآيات الخمس، انحدر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من جبل حراء،
وتوجه تحو منزل خديجة6.
ولقد أوضحت الآيات المذكورة برنامج النبيّ صلّى اللّه عليه وآله اجمالاً، وبيّنت
وبشكل واضح ان اساس الدين يقوم على القراءة والكتابة، والعلم والمعرفة، واستخدام
القلم.
ظاهرة القضايا الغيبيّة في منظار الماديّين
لقد تسبّب التقدمُ العظيم والمتزايد الذي تحقق في ميدان العلوم الطبيعية في سلب
الكثير من العلماء القدرة على فهم وادراك القضايا المعنوية والخارجة عن اطار العلوم
الطبيعية وبالتالي أدى الى تحديد وتضييق آفاق الفكر عندهم.
فاذا بهم اصبحوا يتصورون أن الوجود يتلخص في هذا الكون المادي، وانه ليس في الوجود
من شيء سوى المادة وان كل ما لا يمكن تفسيره وتبريره بالقوانين والقواعد المادية
فهو أمر باطل، ومن نسج الخيال!!
إن هذا الفريق لتسرعه في اصدار الحكم في الاُمور المتعلقة بالغيب وقضايا ما وراء
الطبيعة، وحصر أدوات المعرفة بالحس والتجربة انكروا عالم الوحي، بحجة أنّ الحسِّ
والتجربة لا يقودانهم إلى ذلك العالم، ولا يخبرانهم عن مثل تلك الموجودات، فلكونها
بالتالي لا تخضع لمبضع التشريح، ومجهر الإختبار أنكروها بالمرة، وكانت النتيجة أن
أدوات المعرفة المعروفة (الحسّ والتجربة) حيث انها لا تهدي إلى عالم ما وراء المادة
فاذن لا وجود خارجي لذلك العالم ولحقائقه أبداً!
إنّ هذا النمط من التفكير نمط جدُّ ضيق ومحدود، مضافاً الى انه يتسم بالغرور
والغطرسة، فهو من باب "استنتاج عدم الوجود من عدم الوجدان" في خطوة متعجلة فجّة!
فما دامت هذه الحقائق التي يعتقد بها الالهيّون المؤمنون باللّه لا يمكن التوصل
اليها عن طريق الادوات الفعلية المتعارفة بينهم للادراك والمعرفة فهي اذن لا اساس
لها من الواقع!
ان الذي لا شك فيه هو :ان الماديين لم يدركوا مقالة العلماء الالهيين حتى في مسألة
اثبات الصانع الخالق فكيف بالعوالم الاُخرى لما فوق الطبيعة، ولو أنّ الفريقين
تحاوروا في جوّ علمي مناسبٍ، بعيداً عن الأغراض والعصبيّات، لكان من المتوقع ان
تزول الفواصل بين الماديين والالهيين في أقرب وقت، وأين يرتفع هذا الاختلاف الذي
قسّم العلماء إلى فريقين على طرفي نقيض.
لقد اقام المؤمنون الموحِّدون عشرات الأدلة والبراهين القاطعة على وجود اللّه
تعالى، واثبتوا بأنّ هذه العلوم الطبيعية هي نفسها تقودنا إلى الخالق العالم
القادر، وان هذا النظام العجيب السائد في ظواهر الكائنات الطبيعيّة وبواطنها لدليل
قاطع، وبرهانٌ ساطع على وجود مبدع هذا النظام، وأن جميع أجزاء هذا الكون الماديّ،
من ذراته الى مجراته، يسير وفق قوانين دقيقة متقنة، ولا تستطيع الطبيعة الصماء
العمياء ابداً أن تكون مبتكرة لهذا النظام البديع، ومبدعة لهذا الترتيب الدقيق.
وهذا هو بنفسه برهان "نظام الوجود" أو (برهان النظم) الذي ألّف العلماء الالهيون
الموحدون حوله عشرات الكتب والدراسات.
وحيث ان (برهان النظم) هذا ممّا يفهمه جميع الناس على مختلف مراتبهم ومداركهم، لذلك
ركزت عليها الكتب الاعتقادية دون سواها، وسلك كلُ واحد من العلماء طريقاً معيناً
وخاصاً لتقريره، وبيانه، كما ودرست الأدلة والبراهين الاُخرى التي لا تتسم بمثل هذه
الشمولية، في الكتب، والمؤلفات الفلسفية والكلاميّة بصورة مفصلة ومبسوطة.
إنّ للعلماء الالهيين بيانات وأدلة في مجال (الروح
المجردة)، وعوالم ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقيا) نشير إلى بعضها هنا
الروح المجردة
إن الاعتقاد بالروح من القضايا الشائكة الطبيعة التي استقطبت اهتمام العلماء وشغلت
بالهم بشدة.فهناك فريقٌ ممّن اعتاد أن يُخضِع كل شيء لمبضع التشريح ينكر وجود
(الروح)، ويكتفي بالاعتقاد بالنفس ذات الطابع المادي، والعاملة ضمن نطاق القوانين
الطبيعية فقط.
ووجود "الروح" والنفس غير المادية (اي المجردة المستقلة عن المادة) من القضايا التي
عُولجت ودُورست من قِبل المؤمنين باللّه، والمعتقدين بالعالم الروحاني، بصورة
دقيقة، وعميقة.
فهم أقاموا شواهِد عديدةً على وجود هذا الكائن (غير الماديّ) وهي أدلة وبراهين لو
تمّ التعرّف عليها والنقاش حولها في جوّ علمي هادئ مع الأخذ بنظر الاعتبار ما يقوم
عليه منطق الالهيين في هذا المجال من قواعد واُسس، لأدّى ذلك إلى التصديق الكامل
بها.
على أن ما يقوله الالهيّون في مجالات اُخرى مشابهة مثل (الملائكة) و(الوحي)
و(الإلهام) يقوم هو الآخر على الأساس الذي شيدوه ومهدوه وبرهنوا عليه قبل ذلك
بالأدلة المحكمة، المتقنة7.
ظاهرة الوحي عِند الماديّين
يُعتبر الاعتقاد بالوحي أساساً لجميع الرسالات، والأديان السماوية، وتقوم هذه
الظاهرة (ظاهرة الوحي) على أن الذي يوحى اليه يمتلك روحاً قوية تقدر على تلقي
المعارف الالهية من دون واسطة، أو بواسطة ملك من الملائكة.
ويلخصُ العلماء المختصُّون تعريفهم للوحي على النحو التالي :"الوحيُ تعليمُه تعالى
من اصطفاهُ مِن عِباده كُل ما أراد اطلاعه عليه من ألوان الهداية والعِلم ولكِن
بطريقة خفيّةٍ غير مُعتادة للبشر".
ولكن الماديين كما قلنا لم يستطيعوا هضم هذه الحقيقة، وادراك هذه الظاهرة على
حالها، وصورتها الغيبية بسبب ما ذكرناه من منهجهم ونظرتهم إلى الاُمور والكائنات
فذهبوا في تفسير ظاهرة الوحي التي هي كما اسلفنا من قضايا الغيب ومن عوالم ما فوق
الطبيعة - مذاهب مختلفة ترجع برمتها إلى الرؤية المادية للوجود.
واليك أبرز هذه التفاسير الماديّة لظاهرة الوحي الغيبية
أبرز النظريات المادية لظاهرة الوحي
1- قالوا :الوحي هو القدرة الفكرية، والنفسية والعقلية التي تحصل للإنسان بسبب
التمرينات والرياضات الروحية التي على اثرها تنفتح عليه أبوابُ من الغيب، فيخبر عن
امور طالما تتفق مع الواقع على نحو ما يحصل للمرتاضين الهنود8.
فالانبياء بسبب اعتزالهم للمجتمع على غرار ما يفعل المرتاضون وإقبالهم على الرياضة
الروحية يحصل لهم المقدرة على الإخبار بالغائبات، والكائنات الخفية على غيرهم.
والجواب على هذه النظرية هو :أن دراسة حالات المرتاضين تكشف لنا عن أنهم طالما
يخطأون في إخباراتهم أخطاء فاضحة، بينما لم يُعهد من نبيٍّ أنه أخطأ في إخباراته،
وإنباءاته.هذا اولاً.
وثانياً :ان ما يفعله المرتاضون
لا ينطوي على أية أهداف اصلاحية علياً للمجتمع البشري، بل غاية همّهم هو :عرض
الافعال العجيبة على الناس وربما تسلية المتفرجين، بينما يهدف الأنبياء إلى إصلاح
المجتمعات البشرية وقيادتها إلى ذرى الكمال والتقدم.
وثالثاً :ان
المرتاضين لا يثقون بما يخبرون به، كما لم يُعرف إلى الآن أن أحداً منهم طلع على
المجتمع البشريّ ببرنامج كامل وشامل للحياة البشرية الفردية والاجتماعية، بينما نجد
الأنبياء يخبرون الناس بما اُمروا به وهم على إيمان كامل، ويقين ثابت منه، هذا الى
جانب أنهم يحملون الى البشرية برامج اجتماعية وحيوية جامعة الاطراف، كاملة الأبعاد،
رفيعة الأهداف، عميقة الغايات، ترجع اليها كلُ فضيلة وكل خير تعرفه المجتمعات الى
الآن.
ورابعاً :انّ
أعمال المرتاضين وما تحصلُ لهم من قوى وينفتح عليهم من آفاق، محدودة، بينما لا تقف
طاقاتُ الانبياء وآفاق علومهم، وأبعاد أعمالهم عند حدّ.
فلا يمكن أبداً تفسير وتعليل ظاهرة (الوحي) وما يحصل للرسل والانبياء على اثره من
اُمور تتخطى حدود العالم المادي المحدود، بالرياضة الروحية التي يمارسها المرتاضون
وما يحصل لهم على أثرها من امور.
2- قالوا :انّ (الوحي) نوعٌ من النبوغ، او أنه ناشئ من النبوغ، وأن الانبياء هم
نوابغ اجتماعيون لا أكثر.
وقد شرحوا نظريتهم هذه قائلين :بأن نظام الخليقة قد ربى في أحضانه نوابغ صالحين،
اهتدوا بفعل نبوغهم الفكري الرفيع الى أفكار وقيم رفيعة ودعوا مجتمعاتهم إلى الأخذ
بها، والسير على هديها، لتحقيق الخير والعدالة، فكان لهم بذلك اكبر نصيب في إرشاد
البشرية الى سعادتها، فكل ما طرحوه من أفكار، وكل ما عرضوه على تلك المجتمعات باسم
الدين او القانون ليست في الحقيقة سوى نتيجة ما تمتعوا به مِن نبوغ، وفكر خارق، ولا
علاقة له بعالم آخر غير هذا العالم المادي المألوف.
وقالوا :وان ممّا يساعد على تقوية هذا النبوغ اُمور ابرزها :الحبُّ، التعرضُ للظلم
الطويل، الطفولة وما يكتنفها من ضعف وعجز، الوحدة، السكوت، التربية الاُولى، والعيش
في صورة الأقلية وما يرافقها من ظروف إجتماعية غير مؤاتية.
فان جميع هذه الاُمور أو بعضها تدفع بالشخص الى الانطوائية، والتفكير والتأمل،
للاهتداء الى مخرج من المشاكل والصعوبات، ومخلص من الظروف الصعبة، والأحوال الشاقة.
ويُجاب على هذه النظرية بأن أصحاب هذه النظرية حكموا على هذه القضية على أساس موقف
اتخذوه سلفاً فهُم حصروا الأشياء في المادة والامور المادية ثم فسّروا ما يرتبط
بعالم الغيب بذلك، فجاء تفسيرهم لهذه الظاهرة الغيبية تفسيراً ماديّاً، غفلة منهم
عن ان مثل هذا التفسير والتعليل لا يليق بظاهرة (الوحي) التي تجسد أعلى قضيّة في
سلّم الحقائق العلمية والفلسفية، ويرجع اليها أعظم القوانين والبرامج للسعادة
البشرية.
نحن لا ننكر أن لما ذكروه من العوامل تأثيراً في تقوية عملية "التفكير" لدى الانسان
إلى درجة ايجاد ما يسمى بظاهرة النبوغ لديه، إلا أنه لا يمكن أن يوجد مثل هذا الامر
نبيّاً خضعت جميع النوابغ البشرية لعظمة تعاليمه التي أتى بها طوال أربعة عشر
قرناً.
نبياً لم تزل ما جاء به من معارف عقلية وفلسفية، وقوانين ترتبط بعالم الطبيعة
وبالنظام الاجتماعي وآداب السلوك تحافظ على قوتها، وعمقها وأصالتها ولمعانها كل
المحافظة رغم كل ما احرزه البشر في ضوء نشاطه الفكري والعقلي من تقدم، في المعارف
والعلوم.
هذا مضافاً الى أن نسبة هؤلاء الأنبياء جميع ما عرضوه على المجتمعات البشرية إلى
العالم الآخر واصرارهم على أنها من جانب اللّه تعالى وليست من نسيج افكارهم يناقض
نظرية هذه الطائفة، التي تفسر النبوة بالنبوغ.
لنقرأ معاً الآية التي يقول اللّه تعالى فيها حاكياً عن رسول الإسلام محمّد صلّى
اللّه عليه وآله :﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ
مَا يُوحَى إِلَي﴾9.أو يقول
سبحانه :﴿ إِنْ
هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾10.
3 - يقولون :إن الوحي هو ظهور الشخصية الكامنة في النبي وايحاؤها لما ينفعه وينفع
قومه المعاصرين له، اليه.
وربما قالوا :إنَّ معلومات "محمّد" وأفكاره وآماله ولّدت لديه إلهاماً فاض من عقله
الباطن أو نفسه الخفيّة على محيلته السامية، وانعكس اعتقاده على بصره فرأى الملك
ماثلاً له وهو يتلو على سمعه ما حدّث به بعد ذلك.
وتوضيح هذه النظرية هو :ان لكل إنسان شخصيتين
1- الشخصية الظاهرة العادية وهي التي تخضع للحواس الخمس وتعمل بها.
2- الشخصية الباطنية وهي التي تعمل عندما تتعطل الحواس، ويتعطل الشعورُ الظاهري :
وهذه الشخصية هي التي تحرك جميع أعضاء الجسم الانساني التي لا تخضع لارادته كالكبد
والقلب، والمعدة وغيرها، كما انها هي مصدر الكثير من الإلهامات الطيبة في الظروف
الحرجة.
ثم قالوا :وهذه الشخصية الباطنية قد اصبحت مدركة بالحس، فان المنوَّم مغناطيسياً
يظهر بمظهر من العقل الراجح، والفكر الثاقب والنظر البعيد، ويقوم بما لا يقوم به في
حالته العادية.
وقد انتهى هؤلاء الماديّون من خلال تحقيقاتهم وتجاربهم إلى :ان شخصية الإنسان
الباطنية ارقى من شخصيته العادية، وإن ما يتوصّل اليه الإنسان من أفكار عالية رفيعة
جداً، وما قد يتمتع به من روح قوية هو من مظاهر هذه الشخصية وفعاليتها.
فقالوا :وان هذه الشخصية هي التي تنفث في روح الأنبياء ما يعتبرونه وحياً من اللّه،
وقد تظهر لهم متجسّدة فيحسبونها من ملائكة اللّه هبطت عليهم من السماء
فالوحي عند هؤلاء الباحثين في الروح على الاسلوب التجريبي لا يكون بنزول ملك من
السماء على الرسول فيبلغه كلاماً عن اللّه بل يكون في تجلي روح الإنسان عليه بواسطة
شخصيته الباطنة فتعلمه ما لم يكن يعلم، وتهديه الى خير الطرق لهداية نفسه وترقية
اُمته11.
ولكن هذه النظرية هي الاُخرى تنبع من الغُرور العلميّ الذي أصاب هذا النمط من
العلماء الّذين يحاولون تفسير كل ظواهر هذا العالم بالتفسير المادي، وهو لا شك ينشأ
من عِلمهم المحدود القاصر عن إدراك حقائق الوجود.إننا لا نشك في وجود ما يسمى
بالشخصية الباطنيّة لدى الإنسان فهو ممّا سبق الى كشفه والتنويه به الفلاسفة
الإسلاميّون من قبل ولكن كيف وعلى أيّ أساس حقَّ لهؤلاء ان يفسروا ظاهرة (الوحي
الالهيّ) والنبوة بهذا الامر؟ هذا
أولاً
وثانياً :انّ
تجلي الشخصيّة قلّما يحدث في الاشخاص الأصحّاء، بل هو يحدث في الاغلب عند المتعبين
القلقين، والسكارى، والمصابين بالهزيمة والنكسة، لأن نافذة (اللاوعي)عند غيرهم من
الاصحاء تنسد بسبب اشتغالهم الشديد بقضايا الحياة اليومية وهمومها، ولا يبقى
للشخصية الباطنية مجال للنشاط والفعالية، كما هو العكس عند المتعبين والسكارى
والمرضى الذين يقل اهتمامهم بالحياة اليومية فيترك (الوعيُ) مكانه للاوعي، وتترك
الشخصية الظاهرية المعطّلة مكانها للشخصية الباطنية.
ولذلك نجد بين آلاف العلماء والمفكرين مفكراً أو عالماً واحداً اتفق له في بداية
عمره أن اهتدى بصورة لا شعورية إلى فكرة خاصة او نظرية معينة من دون سابق تفكير او
استدلال قائم على الشعور.
وخلاصة القول أن تجلّي الشخصية الباطنية في الحياة الانسانية قضية نادرة جداً، وهي
لا تحدث إلا في ظروف خاصة مثل :المنامات والاحلام وغيرها من التحولات الحياتية التي
تقلل من توجّه الانسان الى العالم الخارجيّ وتصرفُ التفاته وتوجُّهه الى الشخصية
الباطنية.
ولكن هذه الحالة وهذه الشرائط (اي الغفلة عن هموم الحياة اليومية الخارجية) لم تحصل
للانبياء قط.
فالنبي الأكرم محمّد صلّى اللّه عليه وآله كان طوال (23 سنة) وهي أعوام الرسالة،
مشتغلاً كل الاشتغال بقضايا الحياة اليومية، فالنشاطات السياسية والتبليغية وقضايا
الدعوة والقيادة كانت تهيمن على كل توجهه واهتمامه وتملأ عقله وروحه ونفسه.فالكثير
من آيات الجهاد ترتبط بساحات القتال والجهاد، وهذا يعني انه كان مشدوداً بروحه
وعقله كله إلى تلك الاُمور.
وثالثاً :ان
هذه النظرية يمكن أن تصدق على نبوة الانبياء، لو كان هؤلاء الأنبياء أفراداً
متعبين، منهزمين، منتكسين، مرضى، معتزلين عن الحياة ليقال حينئذٍ ان هذه الحالات
والظروف مهّدت لانقطاعهم عليهم السّلام عن هموم الحياة، وقضاياها، وبالتالي مهّدت
لفعالية الشخصية الباطنية وعملها.
ولكن تاريخ الانبياء يشهد بوضوح لا إبهام فيه، بانهم كانوا طيلة حياتهم الرسالية
رجالاً مجاهدين، لا يهمهم إلا اصلاح المجتمعات وقيادة الجماعات وحل المشكلات
الاجتماعية، ورفع مستويات الناس معنوياً وفكرياً، وكانوا يعملون لتحقيق هذه الأهداف
ليل نهار، بلا سأم ولا ملل، ولا تعب ولا نصب.
فكيف يمكن القول والحال هذه بان الشخصية الباطنية تجلّت
لديهم واوحت اليهم بحقائق وقيم وافكار؟
إن تفسير (الوحي الالهي) الذي يُلقى الى الانبياء ويكشف لهم عن أدق الحقائق
وارفعها، وأعظم المناهج واكملها، بتجلّي الشخصية الباطنية، ناشئ من اعتقاد هذا
الفريق من العلماء بأصالة المادة، أو بعبارة اخرى : حصر الوجود في المادة، ومن هنا
حاولوا إلباس كل شيء حتى الامور المعنوية والغيبية :اللباس الماديّ، واغلقوا على
أنفسهم باب عوالم الغيب، وعمدوا إلى التفتيش عن علة مادية حتى لظاهرة (الوحي) التي
لا تُقاس بمقاييس العالم المادّي.
هذا مضافاً إلى أن تفسير (الوحي الالهيّ) عن طريق نظرية تجلّي الشخصية الباطنية،
وخاصة في شأن رسول الإسلام "محمّد" صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يواجه اشكالات
ومؤاخذات اُخرى تجعل هذه النظرية في عداد الاساطير!!
وإنّ ابرز هذه الاشكالات الواردة على هذه النظرية في مجال رسول الإسلام صلّى اللّه
عليه وآله هي :أنّ هذه النظرية ليست رأياً جديداً وتهمة جديدة توجه إلى نبوة رسول
الإسلام.
فان نظرية "الشخصية الباطنية، والوحي النفسي الذاتي" هي نظرية متبلورة ومتقدمة
لتهمة (الجنون والصرع) التي كان يرمي بها العربُ الجاهليّون رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وآله وسلّم!
فقد كان المشركون في بدء الدعوة يقولون :ان ما يقوله "محمّد" وما يتكلم به ليس إلا
أفكاره القلقة المضطربة الناشئة عن خياله، وانّ القرآن هي تلك الأفكار المضطربة
التي تسربت إلى فضاء عقله من دون ارادة منه ولا اختيار!!
لنستمع الى القرآن الكريم وهو ينقل عنهم هذا الاتهام :﴿بَلْ
قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ﴾12.
ولكن القرآن الكريم يردّ على هذه المزعمة الواهية بقوله :﴿وَالنَّجْمِ
إِذَا هَوَى* مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾13.
ان القرآن الكريم يشجب في هذه الآيات المنتظمة انتظاماً رائعاً وبديعاً هذه المزعمة
(أي مقولة أن القرآن وليدُ الخيال لدى محمّد)، ويردُّ الأمر إلى الوحي الالهي،
والتوجيه الربانيّ العُلويّ.
إن نظرية الوحي النفسيّ وتجلّي الشخصية الباطنية التي طلع بها الماديون في عصرنا ما
هي في الحقيقة إلا غطاء لمزعمة المشركين وتهمة الجنون، والخيال التي سبق أن رمى بها
أعداء الرسالة الاسلامية ومعارضوها النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم تلك التهمة
التي يذكرها القرآن الكريمُ بقوله :(وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ
عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ )14.
وهي تهمة كان يوجهها المعارضون دائماً إلى المصلحين وأصحاب الرسالات 15 وقد
اتخذت هذه التهمة صبغة علمية جديدة، وتبلورت في نظرية :"الوحي النفسيّ، وتجلّي
الشخصيّة الباطنية".ان القرآن الكريم يرد على هذه المزاعم والتصورات الباطلة حول
عمليّة الوحي ومسألة النبوّة ويرد على نسبة الكهانة وما شابه ذلك كالخبر المنقول عن
اهل السير بمحاولة القاء النبي نفسه من شاهق في بداية الوحي الذي يشبه نسبة الجنون
اليه صلّى اللّه عليه وآله، اذ يقول تعالى :﴿ إِنَّهُ
لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ* مُطَاعٍ
ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ
الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ *وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ
رَجِيمٍ * فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ * لِمَن
شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ ﴾16.
بهذا البيان تبيّن بطلان هذا التفسير وجميع التفاسير الاُخرى التي تحاول إعطاء
(الوحي) طابعاً مادياً مألوفاً، شأنه شأن غيره من الظواهر الغيبيّة، ونحن استكمالاً
لهذا البحث نشير إلى ما هو الحقُ في هذا المجال، ممّا يؤيّد الواقع والعقل والدين :
ظاهرةُ الوحي في منظار العقل والدين
لا شك أن حياة كل فرد من افراد الإنسان تبدأ من "الجهل" ثم يأخذ الإنسان بالدخول في
مجال العلم شيئاً فشيئاً، الى ان تنفتح عليه بالتدريج نوافذُ على الواقع الخارج عن
ذهنه .فيبدأ الإنسانُ بالتعرف على الحقائق عن طريق الحواسّ الظاهرية، ثم على أثر
التكامل في جهازه العقليّ والفكري يهتدي الى الحقائق الخارجة عن مجال الحس واللمس،
فيغدو عقلانياً استدلاليّاً، ويقف على طائفة من الحقائق الكليّة والقوانين العلمية.
وربما يظهر بين أفراد النوع الإنساني أصحابُ نفوس عالية يقفون عن طريق الالهام ومن
خلال بصيرة خاصة على حقائق واُمور لا يُهتدى اليها حتى عن طريق الاستدلال والبرهنة!
ومن هنا قسّم العلماء ادراك البشر الى ثلاثة أنواع :"إدراك العامّة" "إدراك
المفكرين وأرباب الاستدلال" "إدراك العرفاء واصحاب البصائر والنفوس الكبرى".
وكأنَّ أصحاب الظاهر يستعينون على اكتشاف الحقيقة بالحس، والمفكرين يستعينون
بالاستدلال والبرهنة، وأصحاب البصائر والمعرفة بالإلهام والاشراق وبالفيض عليهم من
العالم الأعلى.
ان النوابغ في مجال الأخلاق، وان عقول العلماء الخلاقة، وأفكار الفلاسفة العظيمة
كلها تؤيّد وتشهد بأن ما يحصلون عليه، وما يطلعون به على المجتمع البشري ممّا لم
يعرفوه من قبل ما هي الا شرارات مضيئة وملهمة تخطر لهم، ثم يعمدون إلى تنميتها
وبلورتها بالتجربة، أو بالاستدلال والبرهنة والتأمل.
قنواتُ المعرفة الثلاث
من هذا الكلام نستنتج أن أمام بني البشر ثلاث طرق للوصول الى مقاصده، فالطريق الأول
يستفيد منه جماهير الناس غالباً، بينما يستفيد طائفة خاصة منهم من الطريق الثاني،
ولا يستفيد من الطريق الثالث إلا أفراد معدودون قلةٌ تكاملت عقولُهم، وتسامت
أرواحهم.وهي كالتالي :
1- الطريق التجريبي والحِسي، والمقصود
منه ذلك القسم من الإدراكات والمعلومات الواردة الى محيط الذهن البشريّ عن طريق
الحواس الظاهرية كالمرئيات، والمشمومات والمطعومات وغيرها ممّا يستقرُّ في محيط
إدراكنا بواسطة الأجهزة المختصة بها.وقد استطاع البشر اليوم، وبفضل اختراع
التلسكوبات والميكروسكوبات واجهزة التلفاز والراديو ان يقدّم خدمة كبرى للبشرية في
مجال الإدراكات الحسية ويمهِّد لمزيدٍ من سيطرتها على البعيد والقريب.
2- الطريق التعقُّلي الإستدلالي :فان
المفكرين يتوصّلون الى كشف طائفة من القوانين الكليّة الخارجة عن الحس عن طريق
عملية التفكير والتأمل وتشغيل جهاز العقل، وإقامة سلسلة من المقدمات البديهية
الواضحة، وبذلك يمكن الوصول إلى قمم المعرفة والكمال العلمي.إنّ انكشاف القوانين
العلميّة الكليّة، والمسائل الفلسفية، والمعارف المرتبطة بصفات اللّه وأفعاله
سبحانه والقضايا المطروحة في علم العقيدة والأديان ناشئ برمّته من جهاز العقل،
وحركته، وناتج من عملية التفكير، والإستدلال المذكورة.
3- طريق الإلهام :وهذا
هو الطريق الثالث لمعرفة الحقائق، وهو فوق نطاق الحس والتعقل.إنه نوعٌ جديدٌ من
المعرفة ونمط متميّز من إدراك الحقائق، ليس محالاً من وجهة نظر العلم وان كان يصعُب
على أصحاب الاتجاه المادّي القبول به لكونه طريقاً غير حسي ولا تعقّلي.
وأما من جهة الاُصول العِلمية فلا مجال لإنكاره، ولا
مبرّر لعدّه من المحالات.
إن طريق التعرُّف على حقائق الكون الخارج عن الذهن في منهج الماديّين، وأصحاب
النزعة المادية ينحصر في قناتين لا أكثر، وهما اللّذان سبق ذكرُهما، في حين أنّ
هناك حسب نظرة الأديان والشرائع الكبرى وحسب نظرة الفلاسفة والعرفاء الالهيين قناة
ثالثة أيضاً.
بل إنّ هذا الطريق الثالث كما أسلفنا في مسألة الوحي أكثر واقعية، وأقوى أسُساً،
وأوسع آفاقاً عند من يدّعون الرسالة، والنبوة من جانب اللّه سبحانه، وإن نفوس
اُولئك الأشخاص لتبدو أكثر صفاء وطراوةً بفضل هذا الطريق، وفي ضوء هذه القناة.
وكلّما حصل إرتباطٌ بين اللّه، وبين فرد من أفراد النوع الإنساني على نحو خاص
اُلقيت الحقائق في وجوده من دون توسط الحواس الظاهرية، وإعمال الفكر، واستخدام جهاز
العقل.
وهذا النوع من الإلقاء يسمى حيناً بالالهام، وبالاشراق حيناً آخر.
ولكن كلما نتج من إرتباط الإنسان بما وراء الطبيعة سلسلة من التعاليم العامّة
والأنظمة والبرامج الشاملة اُطلِق على هذا النوع من الإلقاء عنوان (الوحي)، وسمِّي
الآتي بها (ملك الوحي) والآخذ لها (نبيّاً).
هذا وقد يوجب الإلهام الثقة والاطمئنان للملهم إليه، ولكنّهُ لا يمكن أن يكون مبعث
الإطمئنان والثقة عند
2015-12-01