اللحظاتُ الأخيرة
سيد المرسلين
كان القلق والاضطراب يلفُّ المدينة المنورة بأسرها فصحابة النبي يحيطون ببيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بعيون باكية وقلوب حزينة ليطلعوا على صحته، وكانت تخرج من منزله بين الحين والآخر أخبار عن اشتداد مرضه،
عدد الزوار: 779
كان القلق والاضطراب يلفُّ المدينة المنورة بأسرها فصحابة النبي يحيطون ببيت رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وآله بعيون باكية وقلوب حزينة ليطلعوا على صحته، وكانت تخرج
من منزله بين الحين والآخر أخبار عن اشتداد مرضه، وتفاقم وجعه، لتقضي على كل أمل
بتحسّن حالته، وتجعل الناس على يقين بانه لم يبقَ من حياة رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وآله الا سويعات قلائل، وانه سرعان ما تنطفئ الشعلة المقدسة، التي أنارت
العالم بضيائها.
كان فريق من الصحابة يودّون أن يزوروا نبيّهم وقائدهم من قريب ولكن تدهور صحته
ماكان ليسمح لذلك، فلم يكن من الممكن ان يتردد على غرفته إلا أهل بيته خاصة.
ولقد كانت ابنته الكريمة ووديعته الوحيدة فاطمة الزهراء عليها السَّلام جالسة عند
فراش ابيها، تنظر إلى وجهه المشرق كانت ترى كيف ان عرق الموت يتحدر على جبينه وخده
مثل حبات اللؤلؤ، فراحت تردد أبياتاً من الشعر وقلبها يعتصره الحزنُ، ويملأ عيونها
دموع الاسى والحزن ويكاد يخنقها الغصة:
وَأبيضُ يُستسقى الغمامُ بوجهه ثمالَ
اليتامى عصمة للارامل
وفي هذه اللحظات بالذات فتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عينيه وقال لابنته
الزهراء بصوت خافت: يا
بنيّة هذا قول عمّك أبي طالب لا تقوليه ولكن قولي: "وَما
مُحمَّد إلا رَسُول قدَ خلَت مِن قَبلِه الرُّسُلُ أَفإن ماتَ أو قُتِلَ انقَلبتُم
عَلى أَعقابِكُم وَمَن يَنقَلِب عَلى عَقِبَيه فَلن يَضُرَّ اللّه شِيئاً وَسَيجزى
اللّه الشَّاكِرينَ"1.
النبيُ يتحدث مع ابنته الزهراء:
لقد كشفت التجربة عن ان عواطف الشخصيات الكبرى تجاه ابنائهم تتضاءل اثر تراكم
النشاطات وتزايد الاهتمامات والهموم، لأنّ الاهداف الكبرى، والاهتمامات العالمية
تشغل بالهم وفكرهم إلى درجة لا تترك لهم مجالاً لمشاعرهم العاطفية بالظهور والتجلّي،
بيد أنّه يُستثنى الشخصيات الروحانية والمعنوية الكبرى من هذه القاعدة فهم مع ما
يشغل بالهم من الاهداف الكبرى، والاهتمامات العالية، والشواغل اليومية الكثيرة
يمتلكون روحاً كبرى ونفسية طيبة سامية فلا يمنعهم عمل عن آخر، ولا يشغلهم شُغل عن
آخر، فلا مكان للضمور العاطفي عندهم، ولا مكان للجمود الاحساسيّ في حياتهم
الاجتماعية والعائلية.
إن محبة النبي صلّى اللّه عليه وآله لابنته الوحيدة فاطمة كانت من ابرز التجليات
العاطفية الانسانية في شخصية النبي الاكرم صلّى اللّه عليه وآله، ولهذا لم يُعهَد
أن يسافر رسولُ اللّه من دون أن يودع ابنته، كما لم يُعهَد أن يرجع المدينة من دون
ان يزور ابنته قبل أي أحدَ، كما كان يحترمها عند زوجاته احتراماً لائقاً بها ويقول
لاتباعه:"فاطمة بَضعة منّي فمن أغضَبها أغضبني"2.
كما أن رؤية فاطمة كانت تذكره باشد نساء العالمين طهراً ووفاء، وعطفاً ولطفاً، (خديجة)
التي تحملت في سبيل أهداف زوجها المقدس متاعب كبيرة، وبذلت ثروتها كلها في سبيل تلك
الاهداف باخلاص ورغبة.
كانت فاطمة الزهراء علهيا السَّلام تلازم فراش والدها النبي صلّى اللّه عليه وآله
طوال ايام مرضه، ولا تفارقه لحظة واحدة، وفجأة أشار النبي إلى ابنته يطلب منها ان
تقرب رأسها إلى فمه ليحدّثتها، فانحنت فاطمة حتى صار رأسها قريباً من فمه الشريف ثم
راح النبي صلّى الله عيه وآله يحدثها بصوت ضئيل ولم يعرف من كان هناك ماذا قاله
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لابنته الطاهرة في تلك النجوى.
وانما شاهدوا الزهراء تبكي بشدة لما انتهى والدها من حديثه وسالت دموعها بغزارة،
ولكنهم شاهدوا ان النبي اشار اليها مرة اُخرى وحدثها بشيء فسرّت فاطمة وتهلّلت
اسارير وجهها، وتبسمت مستبشرة.
فأثارت هاتان الحالتان المتضادتان المتزامنتان الحضور وبعثتهم على التعجب والدهشة،
فلما سألوها عن سرّ ذلك الحزن، وهذه الفرحة، وطلبوا منها ان تذكر لهم علة هاتين
الحالتين المتضادتين قالت: "ما
كنت لاُفشي سرَّه".
ثم بعد أن قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم كشفت الزهراء عليها السَّلام
عن الحقيقة بناء على اصرار عائشة وقالت: اخبرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله
انه قد حضر اجلُه وانه يُقبَض في وجعه هذا، فبكيتُ، ثم اخبرني أني أول اهله لحوقاً
به فضحكتُ3.
مسواكُ النبي قبيل وفاته:
كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يستاك كل ليلة قبلَ النوم كما كان يستاك بعد
ان يستيقظ من نومه وكان مسواكُ النبي من شجرة الأراك التي تنفع جداً في تقوية اللثة،
وإزالة الاوساخ وبقايا الطعام عن الاسنان.
وذات يوم دخل اخو عائشة عبد الرحمان على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ليعوده
وبيده سواك اخضر فنظر النبيُ إليه - وهو في يده - نظراً عرف أنه يريده فقال عبد
الرحمان: يا رسول اللّه تريد أن أعطيك هذا السواك. فقال نعم، فقدّمه إلى النبي فوراً
فأخذه صلّى اللّه عليه وآله واستاك به أحسن استياك، ونظف اسنانه به بدقة وعناية
بالغة4.
وصايا النبي صلّى اللّه عليه وآله قبيل رحيله:
كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله خلال فترة مرضه ووجعه يولي إعطاء التعاليم
والتذكير بما فيه هداية الناس اهتماماً بالغاً، فقد كان يوصي بالصلاة ورعاية الرقيق
في الايام الاخيرة من حياته الشريفة ويقول: "الصَلاة
الصلاة وما ملكَت أيمانُكم، ألبِسوا ظهورِهم وأشبعوا بطونَهم وألينوا لهم القَولَ"5.
وقد سأل كعب الاحبار عمر بن الخطاب بعد وفاة رسول اللّه وفي ايام خلافة الأخير ما
كان آخر ما تكلّم به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فقال عمر: سَل عليّاً. فسأل
علياً عليه السَّلام:
فقال امير المؤمنين عليه السَّلام: "أسندته
إلى صدري فوضع رأسه على منكبي فقال: الصلاة الصلاة.
فقال كعب: كذلك آخر عهد الأنبياء وبه امروا وعليه يبعثون6.
وقد فتح النبيُ صلّى اللّه عليه وآله عينيه في اخر لحظة من حياته الشريفة وقال: "أدعوا
لي أخي".
فعرف الجميع بأنه يريد علياً عليه السَّلام فدعَوا له علياً فقال: "اُدنُ
منّي".
فدنا منه عليُّ عليه السَّلام فاستند إليه فلم يزل مستنداً اليه يكلّمه7.
فلم يلبث أن بدت عليه صلّى اللّه عليه وآله علامات الاحتضار.
سأل رجل ابن عباس: هل توفّي رسول اللّه في حجر أحد قال: توفي وهو لمستند إلى صدر
علي.
فقال السائل: قلتُ: فان عائشة قالت: تُوفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بين
سَحري ونَحري.
فكذبها ابن عباس وقال: أتعقلُ؟ واللّه لتوُفّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله
وأنه لمستند إلى صدر عليّ وهو الذي غسّله، وأخي الفضل بن عباس8.
وقد صرح أمير المؤمنين علي عليه السَّلام في إحدى خطبه حيث قال: "وَلَقَد
قُبضَ رسولُ اللّه وإنّ رأسهُ لعلى صَدري... ولقد وَليتُ غسلَه والملائكة أعواني"9.
وينقل بعض المحدثين أن آخر جملة قالها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في آخر لحظة
من حياته الشريفة هي جملة: "لا، إلى الرفيق الأعلى"، وكأنَّ ملك الموت خيِّره عند
قبض روحه الشريفة في أن يصحّ من مرضه ويبقى أو يلبي دعوة ربّه، ويلتحق بالرفيق
الأعلى، فعبّر بجملته هذه عن رغبته في اللحاق بربه، ليعيش مع الذين أشار اليهم
قولُه سبحانه:﴿فَأولئكَ مَعَ الَّذينَ
أَنعَمَ اللّه عَليِهم مِنَ النَّبِييِّنَ والصِّديقينَ والشهَداء والصَّالِحينَ
وَحَسُنَ اُولئك رفيق﴾10.
قال النبي صلّى اللّه عليه وآله هذا ولفظ أنفاسه الشريفة11.
يوم الوفاة:
في منتصف يوم الاثنين الثامن والعشرين من شهر صفر12 طارت
روحُ النبي الاكرم المقدَّسة إلى بارئها، والى جنان الخلد، فسجِّي ببُرد يماني،
ووضع في حجرته بعض الوقت، وارتفعت صرخات العيال، وعلا بكاء الاقارب فعرف من كان في
خارج المنزل أن النبي صلّى اللّه عليه وآله قد قضى، فلم يلبث أن انتشر نبأُ وفاته
في كل أنحاء المدينة التي تحولت بسرعة إلى مناحة كبرى، ومأتم عظيم.
فصاح الخليفة الثاني خارج البيت ولأسباب خاصّة أنّ النبي لم يَمُت انما عُرج بروحه
كما عُرج بروح موسى، وانه لا يموت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله! وأصرّ على هذا
الموقف وهدَّد كلَ من يخالف ذلك، وكاد أن يوافق عليه فريق من الناس لولا أن أحدَ
الصحابة تلا عليه قول اللّه سبحانه: ﴿وَما
مُحمَّد إلا رَسُول قد خلت من قبله الرسُلُ أفإن مات او قُتِلَ انقلبتم على اعقابكم﴾.
حتي فرغ من الآية، فسحَب عمر موقفه، مستغرباً من وجود مثل هذه الآية قائلاً: هذا في
كتاب اللّه؟13.
ثم قام أمير المؤمنين علّيُ بن أبي طالب عليه السَّلام بتغسيل جسد النبي الطاهر
وكفنه لأن النبي صلّى اللّه عليه وآله كان قد قال: "يغسلني أقرب الناس إليّ" ولم
يكن ذلك سوى علي عليه السَّلام.
ولما فرغ "علي" من تغسيل النبي صلّى اللّه عليه وآله كشف الازار عن وجهه صلّى اللّه
عليه وآله وقال والدموع تنهمر من عينيه الشريفتين: "بأبي
أنت واُمّي طبت حيّاً وطبت ميتاً، انقطع بموتك ما لم ينطقع بموت أحد ممّن سواك من
النبوة والانباء. ولولا أنَّك أمرت بالصبر، ونهيتَ عن الجزَع لأَنفَدنا عليك ماء
الشؤون ولكان الداء مماطلاً، والكمد محالفاً وقلا لك، ولكنّه ما لا يُملَك ردّه ولا
يُستطاع دفعُهٌ بأبي أنت واُمي اُذكُرنا عند ربك، واجعلنا من بالك؟"14.
ثم ان الامام أمير المؤمنين "علي بن أبي طالب" عليه السَّلام كان أوّل من صلّى على
جثمان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ثم صلّى عليه المسلمون جماعة جماعة، ثم تقرر
دفنه صلّى اللّه عليه وآله في حجرته المباركة.
فقام ابو عبيدة الجراح وزيد بن سهل بحفر قبر له صلّى اللّه عليه وآله وإعداده ثم
دُفِنَ صلّى اللّه عليه وآله في تلك الحفرة على يد أمير المؤمنين علي عليه السَّلام
يساعده في ذلك الفضل والعباس.
وهكذا غربت شمس أعظم شخصية غيّرت مسار التاريخ البشري بتضحياته الكبرى وجهوده
المضنية، واعظم رسول الهي فتح امام الانسانية صفحات جديدة و مشرقة من الحضارة
والمدنية.
ولكن ظهرت على الساحة برحيله مشكلات عديدة كان لها أثر في استمرار رسالته، ومواصلة
أهدافه التي من أهمها مسألة الخلافة وموضوع القيادة في المجتمع الاسلامي وقد بدت
بعضُ بوادر الاختلاف في الاوساط الاسلامية حتى قبل رحيله.
* قم
المقدّسة - الحوزة العلمية -جعفر
السبحاني-شعبان المعظم 1390 هجري-جعفر
الهادي
1- آل عمران: 144.
2- صحيح البخاري: ج 5 ص 21.
3- الطبقات الكبرى: ج 2 ص 247، الكامل، ج 2 ص 219.
4- الطبقات الكبرى: ج 2 ص 234، السيرة النبوية: ج 2 ص 654.
5- الطبقات الكبرى: ج 2 ص 254.
6- الطبقات الكبرى: ج 2 ص 262.
7- الطبقات الكبرى: ج 2 ص 263.
8- المصدر: ج 2 ص 263.
9- نهج البلاغة: الخطبة 197.
10- النساء: 69.
11- إعلام الورى: ص 83.
12- وهو ما اتفق عليه محدثو الشيعة ومؤرخوهم، ونقل في السيرة النبوية ج 2 ص 658
بصورة: قيل.
13- الطبقات الكبرى: ج 2 ص 267.
14- نهج البلاغة: الخطبة رقم 235.