الدعوة العامّة
سيد المرسلين
كان قد انقضى ثلاث سنوات على بدء البعثة يوم عمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الى دعوة الناس عامة بعد دعوة عشيرية الاقربين.
عدد الزوار: 116
كان قد انقضى ثلاث سنوات على بدء البعثة يوم عمد رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وآله الى دعوة الناس عامة بعد دعوة عشيرية الاقربين.
فقد استطاع خلال السنوات الثلاث الاُولى من عمر الدعوة أن يهدي من خلال الاتصالات
السرية مجموعة من الاشخاص إلى الإسلام ولكنّه دعا هذه المرّة وبصوت عالٍ عامة الناس
إلى دين التوحيد.
فقد وقف ذات يوم على صخرة عند جبل الصفا ونادى بصوت عال:يا صباحاه (وهي كلمة
كانت العربُ تطلقها كلّما أحسّت بخطر، أو بلغها نبأ مُرعبٍ فكانت هذه الكلمة بمثابة
جرس الخطر)1 فلفت نداء
النبي صلّى اللّه عليه وآله هذا نظر الناس فاجتمع حوله جماعة من أبناء القبائل
المختلفة وقالوال له: ما لَك؟
فقال صلّى اللّه عليه وآله:أرأيتكم إن أخبرتكم أنّ العدوّ مُصبحكم أو ممسيكم ما
كنتم تصدّقونني؟
قالوا:بلى.
قال:فاني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.
ثم قال:إنما مثلي ومثلكم رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله فخشي أن يسبقوه إلى أهله
فجعل يهتف:واصباحاه2.
ولقد كانت قريش تعرف عن دينه بعض الشيء، قبل هذا ولكنها تملّكها الخوفُ هذه المرة،
وهي تسمعُ ذلك الانذار القويّ فبادر أحد قادة الكفر إلى تبديد تلك المخاوف فوراً إذ
قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله:تبّاً لك، ألهذا دعوتنا؟، وتفرّق على أثرها
الناس.
الثباتُ والإستقامة على طريق الهدف
إن نجاح أيّ شخص مرهونٌ بأمرين
الأول:الايمان بالهدف.
والثاني:الاستقامة والثبات والسعي الدائب لتحقيق
ذلك.
إنّ الإيمان هو المحرِّك الباطني والقوة الخفية التي تجر الإنسان شاء أم لم يشأ نحو
الغاية التي يتوخاها، وتسهِّل عليه الصعاب، وتدعوه إلى العمل الدائب لتحقيق مقصوده،
لأن شخصاً كهذا يعتقد إعتقاداً قويّاً بأنّ سعادته، ومجده يتوقّفان على ذلك.
وبعبارة اُخرى:إِذا آمن انسان بأن سعادته ومجده يتوقفان على تحقيق هدف معيّن فانه
سيندفع بقوة الإيمان نحو تحقيق ذلك الهدف، متجاوزاً كل الصعاب، ومتحدياً كل
المشكلات في ذلك السبيل.فالمريض الذي يرى شفاءه في شراب دواء مرّ مثلاً سيستهل
شُربه.والغوّاص الذي يعتقد إعتقاداً جازماً بأن ثمّة درراً غالية الثمن تحت أمواج
البحر سيلقي بنفسه في قلب تلك الأمواج دونما خوف أو وجل، ليخرج منها بعد دقائق
ظافراً بأغلى الجواهر.
بينما إذا كان المريض أو الغوّاص يشكُّ في عمله، أو يعتقد بعدم فائدته، فانّه لن
يُقدم عليه قط واذا ما أقدم فان عمله سيكون حينئذٍ مقروناٍ بالجهد والعناء.
فقوة الإيمان اذن هي التي تذلّل كل مُشكل، وتسهِّل كلّ صعب.غير أنه لا ريب في أنّ
الوصول إلى الهدف لا يخلو من مشكلات وموانع، فلا بدّ من السعي لرفع تلك الموانع،
وإزالة تلكم المشكلات.وقد قيل قديماً:أنّ مع كل وردة أشواك، فكيف يمكن قطف وردة دون
أن تُدمى أنامل القاطف بالأشواك المحيطة بها؟؟
هذا وقد بيّن القرآنُ الكريمُ هذه المسألة (وهي ان رمز السعادة هو:الإيمان بالهدف
والثبات في طريق تحقيقه) في جملة قصيرة اذ قال:﴿إِنَّ
الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ
الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ
الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴾3.
ثباتُ النبي صلّى اللّه عليه وآله وصبرُهُ
لقد أدّت إتصالاتُ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله الخاصّة.قبل الدعوة العامة، وجهودُه
الكبرى بعد الجهر بالدعوة، إلى ظهور وتكوين صفٍّ مرصوص من المسلمين في وجه صفوف
الكفر، والوثنية.فالّذين دخلُوا سرّاً في حوزة الإسلام والإيمان قبل الدعوة العامّة
تعرّفوا على المسلمين الجدد الذين لبُّوا داعي الإسلام بعد إعلان الرسالة، وشكّل
القدامى والجدد جماعة قوية متعاطفة متحاببة، وكان ذلك بمثابة إنذار لأوساط الكفر
والشرك والوثنية، أربكها وجعلها تشعر بالخطر.
على أنّ ضرب نهضة ناشئة والقضاء عليها كان أمراً سهلاً لقريش، ولكنّ الذي أرعب
قريشاً ومنعها من توجيه مثل هذه الضربة هي أنّ أفراد هذه الجماعة، وعناصر هذه
النهضة لم يكونوا من قبيلة واحدة، ليمكن مواجهتها وضربُها بكلّ قوة، بل إنتمى من كل
قبيلة إلى الإسلام، عدد من الأفراد، ومن هنا لم يكن إتخاذ أيّ قرار حاسم بحقّهم
أمراً سهلاً وبسيطاً.
من هنا قرّر سادة قريش وكبراؤها بعد تداول الأمر في ما بينهم أن يبدأوا بالقضاء على
أساس هذه الجماعة، ومحرِّك هذا الحزب، والداعي إلى هذه العقيدة بمختلف الوسائل
فيحاولوا ثنيه عن دعوته بالاغراء والتطميع تارة ويمنعوا من انتشار دينه بالتهديد
والايذاء تارة اُخرى.
وقد كان هذا هو برنامج قريش وموقفها من الدعوة طيلة عشر سنوات وهي المدة المتبقية
من سنوات البعثة من الفترة المكية، الى ان قررت بالتالي قتله، ولكنه استطاع ان يبطل
مُؤامرتهم بالهجرة إلى المدينة قبل أن يتمكنوا من القضاء عليه.
ولقد كان "أبو طالب" آنذاك زعيم بني هاشم ورئيسها المطلق، وكان رجلاً طاهر القلب
عالي الهمّة، شجاعاً، كريماً، وكان بيته ملجأ دافئاً للمحرومين والمستضعفين،
وملاذاً أميناً للفقراء والأيتام، وكان يتمتع في المجتمع العربي - علاوة على رئاسة
مكة وبعض مناصب الكعبة بمكانة كبرى ومنزلة عظيمة، وحيث أنّه كان كفيلاً لرسول اللّه
صلّى اللّه عليه وآله بعد وفاة جدّه "عبد المطلب"، لذلك حضر سادة قريش بصورة
جماعية4 عنده وقالوا له:"يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سبّ آلهتنا، وعاب ديننا،
وسفّه أحلامنا وضلّل آباءنا، فأمّا أنت كفّه عنّا، وإما أن تخلّي بيننا وبينه".
ولكن "أبا طالب" قال لهم قولاً رفيقاً وردّهم ردّاً جميلاً حكيماً، فانصرفوا
عنه.بيد أنّ نفوذ الإسلام وانتشاره كان يتزايد باستمرار، وكانت جاذبيّة الدّين
المحمّدي، وبيان القرآن البليغ يساعدان على ذلك، فيترك اثره في الناس،وخاصة في
الأشهر الحرم حيث تفد الحجيجُ على مكة من مختلف أنحاء الجزيرة، وكان النبيّ صلّى
اللّه عليه وآله يعرض دينه عليهم، فكانت أحاديثه الجذّابة، وكلماتة البليغة، ودينُه
المحبّب تؤثر في قلوب كثير منهم، فيميلون إلى الإسلام ويقبلون دعوة الرسول.
وهنا أدرك طغاة مكة وفراعنتها أن "محمّداً" قد بدأ يفتح له مكاناً في قلوب جميع
القبائل، وأصبح له انصار وأتباع في كثير منها، ممّا دفعهم مرّة اُخرى إلى الحضور
عند "أبي طالب" حاميه الوحيد، وتذكيره بالإشارة والتصريح بالاخطار المحدقة باستقلال
المكّيين وعقائدهم نتيجة نفوذ الإسلام وانتشاره فقالوا له أجمع:يا أبا طالب، إن لك
سنّاً، وشرفاً، ومنزلة فينا، وإنّا قد استنهيناك مِن ابن اخيك فلم تنهَه عنّا، وإنا
واللّه لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنّا،
أو ننازله وإيّاك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين.
فأدرك حامي الرّسول الوحيد بذكائه وفطنته أنّ عليه أن يصبر أمام جماعة ترى وجودها،
ومصالحها في خطر، من هنا عمد إلى مسالمتهم وملاطفتهم، ووعد بأن يبلغ ابن اخيه
"محمّد" كلامهم. وقد كان هذا محاولة من "أبي طالب" لتسكين غضب تلك الجماعة الغاضبة
وإطفاء نائرتهم، وتهدئة خواطرهم، ليتمَّ معالجة هذه المشكلة - بعد ذلك بطريقة أصح،
وأفضل.
ولهذا أقبل بعد خرج تلك الجماعة من عنده على إبن اخيه، وذكر له ما قال له القومُ،
وهو يريد بذلك ضمناً إختبار إيمان "محمّد" بهدفه، فكان الردُّ العظيمُ، والجوابُ
الخالد الذي يعتبر من أسطع وألمع السطور في حياة قائد الإسلام الاكبر "محمّد" رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وآله، حيث قال لعمّه بعد أن سمع مقالة قريش:"يا عمّ،
واللّه لو وضعُوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى
يظهرهُ اللّه، أو اهلك فيه، ما تركتُه".
ثم اغرورقت عيناه الشريفتان بدموع الشوق والحب للهدف، وقام وذهب من عند عمه.
وكان لتلك الكلمات الصادقة النافذة أثر عجيب في نفس زعيم مكة وسيدها الوقور بحيث
نادى ابن اخيه، وأظهر له استعداده الكامل للوقف الى جانبه، والحدب عليه رغم كل
المخاطر، والمتاعب التي كانت تكمن له اذ قال:"إذهب يا ابن أخي فقُل ما أحببتَ
فواللّه لا اُسلمك لِشيء أبداً".
قريش تمشي إلى أبي طالب للمرّة الثالثة
لقد أقلق انتشار الإسلام المتزايد قريشاً، ودفعها إلى التفكير في حيلة، فاجتمع
أشراقها وسادتها للتشاور مرّة اُخرى وقالوا:لعل كفالة أبي طالب لمحمّد هي التي
تدفعه إلى الدفاع عنه وحمايته والوقوف الى جانبه في دعوته، فكيف لو مشوا إليه بأجمل
فتيان مكة، وطلبوا منه أن يأخذه بدل "محمّد" ويسلّمه اليهم ليروا فيه رأيهم، ولهذا
مشوا الى أبي طالب بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له:يا أبا طالب هذا عمارةُ
بن الوليد أنهدُ فتى في قريش وأجملُه، فخذهُ فلك عقلُهُ ونصرُه، واتخذه ولداً فهو
لك، وأسلِم إلينا ابن أخيك هذا، الّذي فرّق جماعة قومك، وسفّه أحلامهُم فنقلته،
فانما هو رجل برجل!!
فأجابهم أبو طالب وهو مستاء من هذه المساومة الظالمة:"هذا واللّه لبئس ما
تسومونني! أتعطوني إبنكم أغذُوه لكم، واعطيكم ابني تقتلونه، هذا واللّه ما لا يكون
أبداً".
فقال "المطعم بن عدي بن نوفل":واللّه يا أبا طالب لقد أنصفك قومُك، فما أراك تريد
أن تقبل منهم شيئاً.
فأجابه أبو طالب قائلاً:واللّه ما أنصفوني ولكنّك قد أجمعت خُذلاني، ومظاهرة القوم
عليّ فاصنع ما بدا لك5.قريش تحاولُ تطميع رسول اللّه!
ولما علمت قريش بأنه لا يمكن ارضاء "أبي طالب" بخذلان ابن اخيه "محمّد"، فهو وإن
كان لا يتظاهر بالإسلام، إلا أنه يكنُّ لابن أخيه، وُدّاً عميقاً، ومحبة كبرى من
هنا قررّوا بأن يتركوا مفاوضته، إلا أنهم فكّروا في خطة اُخرى وهي أن يُحاولوا
إثناء النبيّ عن المضيّ في دعوته بتطميعه بالمناصب، والهدايا، والأموال والفتيات
الجميلات، ولهذا مشوا الى بيت "أبي طالب" ودخلوا عليه ومحمّد جالس إلى جنبه فتكلّم
متكلِّمهُم وقال: يا محمّد انا بعثنا اليك لِنُكلَّمك، فانا واللّه لا نعلم رجلاً
من العرب أدخل على قومه ما ادخلت على قومك لقد شتمت الآباء، وعيبت الدين، وسببت
الآلهة، وسفهت الاحلام، وفرقت الجماعة ولم يبق امر قبيح الا أتيته فيما بيننا وبينك
فان كنت انما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون اكثر
مالاً، وان كنت انما تطلب الشرف فينا فنحن نسوّدك ونشرّفك علينا، وان كان هذا الذي
يأتيك تابعاً من الجن قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طبك.
فقال ابو طالب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك،
يزعمون انك تشتم آلهتهم وتقول وتقول؟
فتكلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وقال:يا عم أُريدهم على كلمة واحدة يقولونها
تدين لهم بها العرب وتؤدي اليهم بها العجم الجزية.
ففزعوا لكلمته، ولقوله فقال القوم كلمة واحدة:نعم وأبيك عشراً.
قالوا:فما هي، فقال أبو طالب:وأي كلمة هي يا ابن أخي؟
قال:"لا اله الا اللّه".
فكان هذا الرد مفاجأة قوية لذلك الفريق الذي يأمل في صرف النبي صلّى اللّه عليه
وآله عن هدفه، ولهذا قاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون: "أجعلَ الآلهة إلهاً
واحداً إن هذا لشيء عجاب"6.
نماذج من إيذاء قُريش وتعذيبها للمُسلمين
يوم صدعَ رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله بما اُمر، وجهر بدعوته للناس وأيس سادة
قريش من قبوله لأيّ اقتراح من إقتراحاتهم بعدما سمعوه يقول: "واللّه لو وضعوا الشمس
في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يُظهِرَه اللّه أو أهلك دونه
ما تركتُه" بدأ في الحقيقة واحداً من أشدّ فصول حياته، واكثرها متاعب ومصاعب، لأن
قريشاً كانت لا تزال إلى ذلك الوقت تراعي حرمته وتحترمه، وتسيطر على أعصابها،
ولكنها عندما فشلت في خططها لجرّه إلى مساومتها اضطرّت إلى تغيير نهجها واُسلوبها
معه لتقف دون إنتشار دينه مهما كلّف من الثمن مستفيدة في هذا السبيل من كل الوسائل
الممكنة.
من هنا قرّر سادة قريش بالاجماع أن يتوسّلوا بسلاح الاستهزاء والسخرية، والإيذاء
والتهديد، بهدف صرفه عن المضي في دعوته7.
ولا يخفى أن المصلح الذي يفكر في هداية العالم البشريّ كله يجب ان يتزود بقدر كبير
من الصبر والتحمل، أمام جميع المشكلات والمتاعب، والمكاره والشدائد ليتغلب عليها
شيئاً فشيئاً، كما كان دأب كل المصلحين الآخرين.ونحن هنا نورد طرفاً من أذى قريش
لرسول اللّه وأتباعه ليتضح مدى صبر النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وثباته، واستقامته
على طريق الدعوة.
ولقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يتمتع مضافاً إلى العامل الروحي
والمعنويّ الباطني الذي كان يساعده من الداخل أعني الإيمان والصبر والإستقامة
والثبات - بعامل خارجيّ تولّى حراسته وحمايته وذلك حماية بني هاشم، وعلى رأسهم أبو
طالب له صلّى اللّه عليه وآله، لأنه عندما عرف "ابو طالب" بعزم قريش القاطع على
إيذاء إبن أخيه (محمّد) دعا بني هاشم عامة، وطلب منهُم جميعاً حماية النبيّ صلّى
اللّه عليه وآله والقيام دونه، فلبّوا نداء سيّدهم، وأجابوه إلى ما دعاهم من حماية
رسول اللّه وحراسته بعض بدافع الإيمان وآخر بدافع الرحم، الا "أبو لهب" ورجلان
آخران انضموا الى اعداء النبيّ صلّى اللّه عليه وآله ولكن هذا السياج الدفاعيّ لم
يقدر - مع ذلك - على صيانته صلّى اللّه عليه وآله من بعض الحوادث المرّة، لأنّ
قريشاً ألحقت به الأذى، وأنزلت به مكروهاً، كلما وجدته وحيداً بعيداً عن أعين
حُماته.
وإليك فيما يأتي بعض النماذج من ذلك الأذى
1- مرَّ "أبو جهل" برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عند الصفا، فآذاه وشتمه ونال
منه ببعض ما يُكره من العيب لدينه، والتضعيف لأمره، فلم يكلّمه رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وآله ومولاة لعبد اللّه بن جدعان في مسكن لها تسمع ذلك، ثم انصرف عنه،
فعمد إلى ناد من قريش عند الكعبة، فجلس معهم، فلم يلبث "حمزة بن عبد المطلب" رضي
اللّه عنه أن أقبل متوشحاً قوسه راجعاً من قنص له، وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له،
وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يمرّ
على ناد من قريش إلا وقف وسلّم وتحدّث معهم، وكان أعز فتى في قريش، وأشدّ شكيمة.
فلما مرّ بالمولاة، وقد رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إلى بيته قالت له:يا
أبا عمارة (وتلك هي كنيته) لو رأيت ما لقي ابنُ أخيك محمّد آنفاً من أبي الحكم بن
هشام (وتعني أبا جهل):وجده ها هنا جالساً فآذاه وسبّه، وبلغ منهُ ما يُكره، ثم
انصرف عنه ولم يكلمه محمّد صلّى اللّه عليه وآله.
فغضب "حمزة" لذلك، فخرج يسعى ولم يقف على أحد مُعِدّاً لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع
به.فلمّا دخل المسجد نظر إليه جالساً في القوم، فأقبل نحوه، حتى إذا قام على رأسه
رفع القوس فضربه بها فشجِّهُ شجة منكرة، ثم قال:"أتشتمه وأنا على دينه أقول ما
يقول. فردَّ ذلك عليَّ إن استطعت".
فقامت رجال من بني مخزوم إلى "حمزة" لينصروا "أبا جهل" فقال أبو جهل:دعوا أبا عمارة
فاني قد سببتُ ابن أخيه سبّاً قبيحاً8.وبهذا منع "أبو جهل" الذي كان ممن
يدرك خطورة مثل هذه المواقف من وقوع شجار وقتال.
إنّ التاريخ الثابت والمسلّم يشهد بأنّ وجود رجال ذوي بأس وقوة بين صفوف المسلمين
مثل "حمزة" الذي أصبح في ما بعد من كبار قادة الإسلام، قد كان له أثر كبير في حفظ
الإسلام، والحفاظ على حياة الرسول صلّى اللّه عليه وآله ودعم جماعة المسلمين،
وتقوية جناحهم، فهذا ابن الاثير9 يقول
عن حمزة: لما اسلم حمزة عرفت قريش أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قد عزّ
وامتنع فكفوا عما كانوا يتناولون منه.
من هنا أخذت قريش تفكّرُ في إعداد خطط اُخرى لمواجهة قضية الإسلام والمسلمين،
سنذكرها في المستقبل.
هذا ويرى بعضُ المؤرّخين مثل ابن كثير الشامي10 على أن رُدود فعل إسلام "أبي بكر"
و"عمر" وأثرهما لم تكن بأقلّ من تأثير إسلام "حمزة"، وانّ الدين قوي جانبه باسلام
هذين الرجلين، وكسب المسلمون بذلك القوة والحريّة في العمل والتحرك، والحقيقة انه
لا شك في انه لكل فرد تأثيره في تقوية ودعم الإسلام، إلا أنه لا يمكن - القولُ
بحال بأن تأثير إسلام الشيخين كان يعدل تأثير إسلام "حمزة"، فإن "حمزة" ما ان سمع
بأن قريشاً أساءت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الا وتوجه، من دون أن يُعرّج
على أحد، إلى المسيء وانتقم منه في الحال أشدّ انتقام، ولم يجرؤ أحد على الوقوف في
وجهه ومنع المسيء منه، ومن غضبه وانتقامه، بينما يكتب ابن هشام في سيرته عن "أبي
بكر" امراً يكشف عن أن "أبا بكر" يوم دخل في صفوف المسلمين لم يكن قادراً على حماية
نفسه، ولا على الدفاع عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله.
واليك نصُّ الواقعة
مرَّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ذات يوم على جماعة من قريش وهم جلوس عند
الحجر، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، وأحاطوا به يقولون:أنت الذي تقول:كذا وكذا، لما
كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم فيقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: نعم أنا
الذي أقولُ ذلك، فأخذ رجلٌ منهم بمجمع ردائه (وهم يقصدون قتله) فقام "أبو بكر" دونه
وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلاً يقول ربّي اللّه؟ فانصرفوا عنه (ولم يقتلوه لأمر
رأوه)، فرجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إلى منزله، ورجع "أبو بكر" يومئذ وقد
صدعوا فرق رأسه11.
إن هذه الرواية التاريخية اذا دلّت على مشاعر الخليفة تجاه النبيّ صلّى اللّه عليه
وآله إلا أنها تدل قبل أي شيء على عجزه وضعفه.
إنه يدلُّ على أنه لم يملك ذلك اليوم لا أية مقدرة بدنية وروحية، ولا أية مكانة
اجتماعية تُرهب، وحيث أنّ إلحاق الأذى بشخص رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كان
ينطوي في نظر قريش ذلك على عواقب لا تحمد لذلك تركوا رسول اللّه، ووجّهوا ضربتهم
إلى رفيقه وصدعوا فرق رأسه.
ولو أنك قارنت بين هاتين الحادثتين وقايست بين موقف "حمزة" الشجاع وموقف الخليفة
الأوّل هذا لاستطعت أن تقضي بسهولة بأنّ عزة الإسلام وقوة المسلمين، وتعزيز موقفهم،
وخوف الكفار كان يعود إلى إسلام أيّ واحد من ذينك الرجلين؟
هذا وستقرأ في القريب العاجل كيفية إسلام "عمر". وسترى بأنّ إسلامه كاسلام صديقه لم
يزد هو الآخر من قدرة المسلمين الدفاعية، وأنهم بالتالي لم يعتزوا باسلامه.
فيوم أسلم "عمر" كاد أن يُقتل لولا "العاص بن وائل السهمي" لأنه هو الذي خاطب الذين
قصدوا قتل "عمر" قائلاً: رجُلٌ
اختار لنفسه أمراً فماذا تريدون منه؟ أترون بني عدِيّ بن كعب يسلمون لكم صاحبهم
هكذا، خلُّوا عن الرجل"12.
إن هذه العبارة التي قالها "العاص" لانقاذ الخليفة الثاني من أيدي الذين اجتمعوا
على قتله تفيد بوضوح أن الخوف من قبيلة "عمر" هو الذي كان وراء تركهم إياه وعدم
قتله، وقد كان دفاعُ القبائل عن أبنائها سنة فطرية وعادة متعارفة يومذاك وكان
يتساوى فيها الكبير والصغير، والشريف والوضيع.
أجل إن بني هاشم هم كانوا في الواقع الحصن الحقيقي للمسلمين، وقد كان القسط الأكبر
من هذا الأمر يتحمله "أبو طالب" وذووه، وإلا فانّ الاشخاص الآخرين الذين كانوا
ينضمُّون إلى صفوف المسلمين لم يكن لديهم القدرة على الدفاع عن أنفسهم، فكيف
بالدفاع عن الإسلام وجماعة المسلمين ليقال: أن المسلمين اعتزوا بهم؟
أبو جهل يكمنُ لرسول اللّه
لقد أغضب تقدمُ الإسلام المطرد قريشاً بشدة فلم يمرُّ يوم دون أن يبلغهم نبأ عن
انضمام واحد من أفراد قريش الى صفوف المسلمين ولأجل هذا راح مرجل الغضب والحنق على
النبي صلّى اللّه عليه وآله يغلي في نفوسهم، فهذا فرعون مكة "أبو جهل" يقول لقريش
في مجلس من مجالسهم: يا معشر قريش إن محمّداً قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا،
وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وشتم آلهتنا، وإني اُعاهِدُ اللّه لأجلسنَّ له غداً
بحجر ما اُطيق حمله فإذا سجد في صلاته فضختُ به رأسه.
فلما كان من غد أخذ "أبو جهل" حجراً كما وصف ثم جلس لرسول اللّه صلّى اللّه عليه
وآله ينتظره، وغدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله على عادته ووقف للصلاة بين
الركن اليمانيّ والحجر الأسود، وغدت تلك الجماعة من قريش فجلست في أنديتها تنتظر ما
ابو جهل فاعل، فلما سجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله احتمل "أبو جهل" الحجر، ثم
أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منهزماً منتقعاً لونه، مرعوباً وقذف الحجر من يده،
فقامت إليه رجال من قريش وقالوا له:ما لك يا أبا الحكم؟ فقال بصوت ضعيف يطفح بالخوف
والرعب:قمت إليه لأفعل به ما قلتُ لكم البارحة فلما دنوتُ منه عرض لي دونهُ ما لا
رأيتُ مثلَه حياتي، فتركتُه!!13.
إنه ليس من شك في أنّ قوة غيبيّة أدركت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بأمر اللّه
تعالى في تلك اللحظة، وصوّرت ذلك المنظر الرهيب وحفظت رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وآله كما وعده تعالى وعداً لا خلف فيه اذ قال:﴿ إِنَّا
كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ﴾14.
وهناك نماذج كثيرة من أذى قريش لشخص رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله سجّلها
التاريخ في صفحاته، وقد عقد "ابن الأثير"15 فصلاً
خاصّاً لهذا الموضوع ذكر فيه أسماء أعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله
الألدّاء، في مكّة، وبيّن أنواع ما كانوا يؤذُون به النبيّ صلّى اللّه عليه وآله،
وما قد مرّ ذكره في الصفحات السابقة ما هو إلا أمثلة على ذلك، فقد كان صلّى اللّه
عليه وآله يواجه في كل يوم نوعاً خاصاً من الأذى، والمضايقة.فقد رُوي أنّ النبيّ
صلّى اللّه عليه وآله كان يطوف ذات يوم فشتمه "عقبة بن أبي معيط" وألقى عمامته في
عنقه، وجرّه من المسجد، فأخذوه من يده، خوفاً من بني هاشم16.
ابو لهب يؤذي رسول اللّه
ولقد تعرّض رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله لأذى لا مثيل له من جانب عمه "أبي
لهب" وزوجته "اُم جميل" وقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يجاورهم، فلم
يألوا جهداً في إزعاجه وإيذائه فكم من مرّة ومرة ألقيا الرماد والتراب على رأسه
الشريف وثيابه.وكم من مرّة نشرت أم جميل الشوك على طريقه، أو جمعته خلف باب بيته
لتؤذيه عند الخروج.
ولا شك ان معارضة انسباء النبي واقربائه لدعوته المباركة، وايذاؤهم اياه كان اكثر
ايلاماً لنفسه الشريفة، واشد وقعاً عليها، حتى اننا نجد القرآن يخص أبا لهب باللعن
ويسميه بصورة خاصة مما يكشف عن هذه الحقيقة اذ يقول:﴿تَبَّتْ
يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ* مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى
نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ
مِّن مَّسَد﴾17.
صبر النبيّ صلّى اللّه عليه وآله واستقامته
ولكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كان يواجه كل ذلك الأذى وما شابهه من
التحججات التي سنشير اليها بصبر عظيم، وثبات تتعجب منه الجبال الشماء، وذلك اولاً
إيماناً منه برسالته.
إيذاء المسلمين وتعذيبُهم
يرجع تقدمُ الإسلام في مطلع عهد الرسالة إلى عوامل منها:ثبات رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وآله نفسه، وثباتُ أتباعه وأنصاره.ولقد تعرّفنا - في ما سبق - على أمثلة
ونماذج من ثبات قائد الإسلام الاكبر وصبره، واستقامته في ما لقي من أذىً ومضايقة.
على أن ثبات أنصاره واتباعه الذين آمنوا في مكّة (مركز الحكومية الوثنية آنذاك) هو
الآخر ممّا يدعو إلى الإعجاب ويستحق الاحترام. وسنذكر صمودّهم وثباتهم في حوادث ما
بعد الهجرة في محله.وأمّا هنا فنسلّطُ الضوء على حياة عدد من أتباع رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وآله القدامى الذين تحملوا أشد أنواع العذاب وكانوا يعيشون في المحيط
المكي حيث لم يكن ملجأ لهم يلجؤون اليه، وهاجروا منه لأغراض الدعوة والتبليغ بعد أن
تحملوا شيئاً كثيراً من الإيذاء والتعذيب على أيدي المشركين والوثنيين القساة.
1- بلال الحبشي
كان أبواهُ ممّن اُسروا في الجاهلية وجيء بهم من الحبشة إلى جزيرة العرب ثم الى
مكة.
وأما بلال الذي اصبح في ما بعد مؤذن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله فقد كان غلاماً
ل"اُميّة بن خلف" الذي كان من أشدّ أعداء النبيّ صلّى اللّه عليه وآله.
وحيث أنّ عشيرة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله تولّتِ الدِفاع عنه صلّى اللّه عليه
وآله وحمايته ولم يمكن لاُميّة إلحاق الأذى برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عمد
الى تعذيب غلامه بلال الذي أسلم، أمام الناس، بأشد أنواع الأذى والتعذيب إنتقاماً،
وتشفياً.
فقد كان يطرح بلالاً عارياً على الأحجار والصخور الملتهبة في الهاجرة، ويضع صخرة
على صدره ثم يقول له:لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمّد، وتعبد اللات والعزّى،
فيقول وهو في ذلك البلاء والمحنة الشديدة:أحد أحد 18.
ولقد أثار ثباتُ هذا الغلام الأسود وجلدُهُ وصبرُه على أذى سيّده، إعجاب الآخرين،
حتى أن "ورقة بن نوفل" مرّ عليه وهو يعذّب بذلك وهو يقول:أحد أحد، أقبل على
"اُميّة" ومن يصنع به ذلك من "بني جمح" فيقول:احلف باللّه لئن قتلتموه على هذا
لاتخذنّه حناناً "أي لأجعلنّ قبره متبرّكاً ومزاراً"19.
وربما زاد "اُميّة" من تعذيبه لبلال فربط حبلاً بعنقه وترك الصبيان يديرون به في
الأزقة والسكك20.
وقد اُسر "اُميّة"وابنه في معركة "بدر" وكانا أول من اُسِرا من المشركين، ولم يوافق
بعض المسلمين على قتلهما ولكن بلالاً قال:"رأسُ الكفر اُميّة بن خلف لا نجوتُ إن
نجا".وأدّى إصرارُ بلال على قتلهما إلى قتل اُميّة وابنه جزاء أعمالهما الظالمة.
2- آلُ ياسر رمز الصمود والمقاومة
كان "عمار" ووالده من السابقين الى الإسلام فهم أسلموا يوم كان رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وآله يلتقي بأصحابه ويدعو الى الإسلام في بيت "الارقم بن أبي الارقم"،
وعندما عرف المشركون بانضمامهم إلى صفوف المسلمين عمدوا إلى إيذائهم وتعذيبهم ولم
يألوا جهداً في ذلك أبداً.فقد كان المشركون يخرجون "عماراً" واباه "ياسراً" واُمّه
"سميه" في وقت الظهيرة الى رمضاء مكة ليقضوا ساعات طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة،
وفوق الرّمال الملتهبة والصخور المتّقدة كأنها الجمرات.وقد تكرّر هذا العذابُ مرّات
عديدة حتى أودى بحياة "ياسر" فقضى نحبه على تلك الحال.
وقد خاشنت زوجتُه "سُميّة" أبا جهل وكلمته في زوجها بغليظ القول، فطعنها اللعين
برمح في قلبها فقضت - هي الاُخرى - نحبها، وكانا أول شهيدين في الإسلام 21.
وقد ألم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ما شاهده من حالهما وهما يعذّبان بأشد
أنواع العذاب فقال لهُما ولولديهما "عمّار"وهو يصبّرهم، والدموع تنحدر على
خدّيه:"صبراً آلَ ياسِر فانّ موعدكم الجنة"22.
وبعد أن قضى والداً "عمّار" نحبهما تحت التعذيب بالغ المشركون القساة في تعذيب
"عمّار" وإيذائه والتنكيل به، وأخذوا يعذّبونه على نحو ما كانوا يعذّبون به بلالاً،
وهم يقصدون قتله، وإلحاقه بأبويه!! أو يتبرأ من دين النبي صلّى اللّه عليه وآله،
فاضطر الى أن يعطيهم ما يريدون ويظهر الرجوع عن الإسلام، إبقاء على نفسه، وتقيّة
منهم فتركوه، وانصرفوا عن قتله، ولكنه سرعان ما ندم على فعله من التظاهر بترك
الإسلام وتأثّم من ذلك فجاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وهو يبكي، فقال له
النبيّ: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالايمان قال: ان عادوا فعد، فنزلت الآية التالية
في ايمان عمّار:﴿ إِنَّمَا
يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ
الْكَاذِبُونَ* مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ
وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَان﴾23
24.
هذا وروي أنّ أبا جهل حينما قصد تعذيب "آل ياسر" وكانوا أضعف من بمكة أمر بسوطٍ
ونارٍ ثم سحبوا عماراً وأبويه على الأرض، فكان يكوي بطرف السيف والخنجر المحمى
بالنار المشتعلة أبدانهم، ويضربهم بالسوط ضرباً شديداً.
وقد تكرّر هذا العمل القاسي كثيراً حتى استشهد "ياسر" وزوجته "سُميّة" على أثر ذلك
التعذيب المرير، ولكن دون أن يفتئا حتى النفس الآخر عن مدح رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وآله والاشادة بدينه.ولقد أثار هذا المنظر المؤلم مشاعر فتيان من قريش فأقدموا
- رغم عدائهم للإسلام ومشاركتهم لغيرهم من المشركين في بغض الرسول - على تخليص
"عمار" الجريح المنهك عذاباً من براثن "أبي جهل" ليتمكن من مواراة أبويه الشهيدين.
3- عبدُ اللّه بن مسعود
تشاور المسلمون في ما بينهم في مقرّهم السرّي في من يجهر بالقرآن على مسامع قريش،
في المسجد الحرام لأنها لم تسمع منه شيئاً إذ قالوا: واللّه ما سمِعت قريش هذا
القرآن يجهر لها قط فمن رجُل يُسمِعُهُموه؟
فأبدى "ابن مسعود" استعداده للقيام بهذه العملية الجريئة، وتلاوة القرآن على مسامع
قريش في المسجد الحرام بصوت عالٍ.
فقالُوا:إنّا نخشاهم عليك، إنّما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه.
قال:دعوني فان اللّه سيمنعني.
ثم غدا "ابن مسعود" حتى أتى المقام في وقت الضحى وقريش في أنديتها حتى قام عند
المقام ثم قرأ:"بِسم اللّه الرّحمن الرّحيم" رافعاً بها صوته، "الرّحمان علّم
القرآن" وهكذا استمر يقرأ بقية آيات تلك السورة المباركة.
فارعبت عبارات القرآن الفصيحة القوية قلوب سراة قريش، ولكي يمنعوا من تأثير هذا
النداء الالهيّ العظيم قاموا إليه جميعاً وجعلوا يضربونه في وجهه، وجعل هو يقرأ حتى
بلغَ منها ما شاء اللّه أن يبلغ ثم عاد إلى اصحابه وقد اُدمِي وجهُه وجسمه، وهو
مسرور لإسماع قريش كتاب اللّه تعالى وآياته المباركة25.إنّ الّذين صمدوا
في أشد الأيام وأصعبها في مطلع عهد البعثة من المسلمين الأوائل لا شك اكثر ممّن
ذكرنا اسماءهم إلا أننا اكتفينا بهذا القدر رعاية للاختصار.
4- أبو ذر:أوّل المجاهدين بالإسلام
كان "أبو ذر" رابع أو خامس من أسلم 26،
وعلى هذا فهو من الذين أسلموا في الأيّام الاُولى من بزوغ شمس الإسلام وطلوع فجره،
فإذن هو من السابقين إلى الإسلام.وقد صرح القرآنُ الكريمُ بأنّ للذين سبقوا إلى
الإيمان برسول اللّه في بدء بعثته وبالتالي فإنّ للسابقين عند اللّه تعالى مكانة
عظيمة، ومقاماً لا يضاهى إذ قال تعالى:﴿وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ﴾27.
وقال تعالى فيهم أيضاً:﴿ وَالسَّابِقُونَ
الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم
بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ﴾28.
وقال تعالى كذلك في من آمن قبل فتح مكة وفضلهِم، ومكانتهم المعنوية المتفوقة على من
أسلم بعد إعتزاز الإسلام، واشتداد أمره، وقيام دولته يعني أنّهم ليسوا سواء:﴿لَا
يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ
أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا ...﴾29.
أجل هذه هي مكانة السابقين في الإسلام وكان "ابو ذر" منهم.هذا مضافاً إلى أنّه
يُعدُّ أول من نادى بالإسلام على رؤوس الأشهاد وفي الملأ من قريش.
فيوم اسلم "أبو ذر" كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يدعو الناس إلى الإسلام
سرّاً، ولم تتهيأ بعدُ ظروفُ الجهر بالدعوة إلى هذا الدّين، فانّ أتباع الإسلام
والمؤمنين به لم يتجاوز عددُهم في ذلك اليوم عدد الأصابع هم: النبيّ صلّى اللّه
عليه وآله وخمسة ممن آمنُوا به، وقبلوا دعوته، ومع ملاحظة هذه الإعتبارات والظروف
لم يكن بدّ - حسب الظاهر - من أن يُخفي "أبو ذر" إسلامه، ويعود إلى قبيلته من دون
أن يعرف به أحد في مكة.
ولكنّ روح "أبي ذر" الطافحة بالإيمان والحماس أبت ذلك، وكأنه قد خُلِق لينهض في كل
زمان ومكان ضدّ الظلم والطغيان، ويرفع عقيدته في وجهالباطل وأهله، ويكافح الانحراف
والاعوجاج أيّاً كان مصدرُه، وصاحبه. وأيُّ باطل اكبر من أن يُطأطِئ الناسُ أمام
أصنامٍ مصنوعة من الحجر، ويخضعوا أمام أوثان منحوتة من الخشب لا تضرُّ ولا تنفع،
ولا تعطي ولا تمنع، ويسجدوا لها ويتخذوها آلهة دون اللّه الخالِق الكبير المتعال؟
إنّه ليس في وسع "أبي ذر" أن يتحمّل هذا المشهد البغيض المقرف !!
من هنا قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بعد أن مكث في مكة قليلاً وقرأ شيئاً
من القرآن:يا نبيّ اللّه ما تأمرني؟
قال:ترجعُ الى قومك حتى يبلُغك أمري.
فقال له:والذي نفسي بيده لا أرجع حتى أصرخ بالإسلام في المسجد.
قال:اني اخاف عليك أن تقتل.
قال:لا بد منه وإن قُتِلتُ.
ثم دخل المسجد فنادى بأعلى صوته:أشهد أن لا اله إلا اللّه، وأنّ محمّداً عبدهُ
ورسوله30.
إن التاريخ الإسلامي يشهد بأن هذا النداء كان أول نداء تحدّى جبروت قريش وشركها،
وقد اطلقته حنجرة رجل غريب لا حامي له في مكة ولا نصير، ولا قوم ولا قريب.
وقد وقع ما توقّعه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فما أن دوى صوت ابي ذر في
المسجد حتى قام اليه رجال قريش، وهجموا عليه من كل جانب وضربوه بشدة حتى صرع فأتاه
العباس بن عبد المطلب فأكبّ عليه في محاولة لانقاذه من الموت - بطريقة لطيفة -
وقال: قتلتم الرجل يا معشر قريش انتم تجار وطريقكم على غفار، فتريدون ان يقطع
الطريق، فأمسكوا عنه.
ونجحت محاولة "العباس" الانقاذية، وكفّت قريش عن ابي ذر.ولكن أبا ذر الشاب الشجاع،
والطافح بالحيوية والحماس عاد اليوم الثاني فصنع مثل ما صنعه في اليوم الاول فضربوه
حتى صرع، فأكب عليه العباس، وقال لهم مثل ما قال في أول مرة فأمسكوا عنه.
ولا شك في انه لو لم يكن العباس لما نجى أبو ذر من مخالف المشركين في اغلب الظن،
ولكن أبا ذر لم يكن بذلك الرجل الذي يتراجع عن هدفه بسرعة، ولهذا بدأ جهاده من
جديد.
ففي يوم رأى امرأة تطوف بالبيت، وتدعو ساف ونائلة (وهما صنمان لقريش) وتسألهما ان
يقضيا لها حاجاتها، فانزعج أبو ذر من جهل تلك المرأة، ولكي يفهمها بانها تدعو صنمين
لا يضران ولا ينفعان بل ولا يشعران قال: أنكحي أحدهما الآخر.فغضبت المرأة لقول ابي
ذر في الصنمين، وتعلقت به وقالت: انت صابئ، فجاء فتية من قريش فضربوه، وجاء ناس من
بني بكر فانقذوه منهم31.
قبيلةُ غِفار تعتنق الإسلام
لقد أدرك رسول الإسلام صلّى اللّه عليه وآله قابليات تلميذه وناصره الجديد، وصلابته
الخارقة في مكافحة الباطل، ولكن حيث ان الوقت لم يكن يحين بعد للدخول في مواجهة
ساخنة مع المشركين لهذا أمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بان يلحق بقومه،
ويدعوهم إلى الإسلام، قائلاً له: "إلحق بقومك فاذا بلغك ظهوري فأتني".
فعاد ابو ذر إلى قومه، وأخذ يدعوهم الى الإسلام ويكلمهم عن النبيّ صلّى اللّه عليه
وآله، ويدعوهم الى نبذ الاصنام وعبادة اللّه الواحد، والتخلق بالاخلاق
الرغيبة.فاسلم أبواه، أولاً، ثم اسلم نصف رجال قبيلته "غفار" ثم اختار البقية
الإسلام بعد هجرة النبي الى المدينة، ثم تبعتها قبيلة "أسلم" حيث وفدوا على رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وآله واعتنقوا الإسلام.
ثم التحق ابو ذر بعد معركة بدر واُحد برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في المدينة
وأقام فيها32.
وربما كان إيذاء المشركين للمسلمين المؤمنين برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يتخذ
طابع التهديد والترهيب وممارسة الضغط النفسي والاقتصادي والاجتماعي.فقد كان أبو جهل
إذا سمع بالرجل قد اسلم له شرف ومنعة أنّبه وأخزاه، وقال له:تركت دين أبيك وهو خير
منك، لنُسفِّهنَّ حلمك، ولنفيلنَّ رأيك، ولنضعنَّ شرفك.
وإن كان تاجراً قال له:لنكسدنّ تجارتك، ولنهلكنّ مالك.وإن كان ضعيفاً ضربَهُ، وأغرى
به33.
وروي أيضاً أن "خبّاب بن الارت"صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كان قيناً
بمكة يعمل السيوف وكان قد باع من "العاص بن وائل" سيوفاً صنعها له حتى كان له عليه
مال، فجاءه يتقاضاه، فقال يا خبّاب:أليس يزعم "محمّد" صاحبكم هذا الذي أنت على دينه
أن في الجنة ما ابتغى أهلُها من ذهب وفضة أو ثياب أو خدم، قال خبّاب: بلى،
قال:فأنظِرني الى يوم القيامة يا خبّاب حتى أرجع الى تلك الدار، فأقضيك هنالك حقك
فواللّه لا تكونُ وصاحبك يا خبّاب اشرَّ عند اللّه مني 34.
أعداء النبي الألدّاء
إن للتعرف على أعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وخصومه الالدّاء، ومواقفهم
دوراً هاماً في تحليل جملة من حوادث التاريخ الإسلامي التي وقعت بعد الهجرة
النبوية.ونحن نكتفي هنا بادراج اسماء طائفة منهم ونذكر شيئاً من خصوصياتهم.
1- "أبو لهب":عم النبي صلّى اللّه عليه وآله، وقد كان جاراً له صلّى اللّه عليه
وآله، وهو الّذي لم يفتأ لحظة واحدة عن تكذيب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله
وايذاء المسلمين.
2- "الأسود بن عبد يغوث" وكان أحد المستهزئين وكان إذا وجد مسلماً فقيراً لا يحميه
أحد قال مستهزءاً: هؤلاء ملوك الأرض الذين يرثون ملك كسرى 35.ولم يمهله أجلُه ليرى
باُم عينيه كيف ورث المسلمون أرض كسرى وقيصر، ووطأوا عرشهما.
3- "الوليد بن المغيرة"شيخ قريش وحكيمها الذي كان يملك ثروة هائلة، وسوف نتحدث عنه
وعن موقفه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في الفصل القادم.
4- "اُميّة" و"اُبيّ" ابنا خلف، وقد مشى "اُبي" هذا بعظم رميم الى رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وآله ذات يوم ففتّه في يده ثم نفخه نحو النبي وقال:أتزعم أن ربك يُحيي
هذا بعد ما ترى (أو بعد ما رمّ)؟ فنزل قولُ اللّه تعالى:﴿قُل
يُحيِيها الّذي أنشأها أوّل مرّة وهُو بِكُلِّ خلقٍ عليم﴾36.وقد
قتل إبنا خلف هذان في بدر.
5- "أبو الحكم بن هشام" الذي سماه المسلمون لعناده وتعصُّبه الجاهل ضدّ الإسلام
بأبي جهل، وقد قُتل هو الآخر في بدر أيضاً.
6- "العاص بن وائل" وهو والد "عمرو بن العاص"، وهو الذي وصف رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وآله بالأبتر.
7- "عقبة بن أبي معيط" الذي كان من ألدّ أعداء النبيّ صلّى اللّه عليه وآله، وأشدّ
خصومه بغضاً له صلّى اللّه عليه وآله، وكان لا يألو جهداً في مضايقة المسلمين ولا
يترك فرصةً تمرّ دون إيذائهم 37.هؤلاء
هم بعض أعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله المبالغين في معاداته، وهناك غيرُهم
كأبي سفيان ممن ذكر المؤرخون خصوصياتهم كاملة في مؤلفاتهم، وقد أعرضنا عن إدراجهم
بأجمعهم هنا رعاية للاختصار.
أعداء النبي الألدّاء
لقد كان إسلام كل واحد من الذين أجابوا دعوة الرسول صلّى اللّه عليه وآله نابعاً من
سبب معيّن.فربّما أدّت حادثة صغيرة إلى أن يعتنق فرد أو فريق الإسلام، وينضمُّوا
إلى صفوف المسلمين.وقد اتّسم السببُ الذي آل الى إسلام عمر من بين جميع تلكم
الاسباب والعلل بطرافة تقتضي التوقف عنده في هذه الدراسة التاريخية التحليلية.
على أن التسلسل التاريخي، والتنظيم الوقائعي لاحداث الإسلام وان كان يقتضي منا ان
نأتي على ذكر هذه الحادثة بعد هجرة صحابة النبي صلّى اللّه عليه وآله الى الحبشة،
إلا أن الحديث حيث دار هنا حول صحابة النبي وكيفية اسلامهم ومواقفهم ناسب أن نشير
هنا إلى كيفية إسلام
2015-12-01