إمبراطوريّتا الرُوم وإيران إبّان عهدِ الرِّسالةِ
سيد المرسلين
للوقوف على أهمية النهضة الإسلامية المباركة الّتي تحققت على يدي النبىّ الاكرم ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بعد ارساله من جانب اللّه تعالى وقيمتها، تكتسبُ دراسة بيئتين إجتماعيّتين اهمية قصوى، وتانِك البيئتان هما:
عدد الزوار: 94
للوقوف على أهمية النهضة الإسلامية المباركة الّتي تحققت على يدي النبىّ الاكرم ـ
صلى الله عليه وآله وسلم ـ بعد ارساله من جانب اللّه تعالى وقيمتها، تكتسبُ دراسة
بيئتين إجتماعيّتين اهمية قصوى، وتانِك البيئتان هما:
1- بيئةُ نزول القرآن الكريم، أي البيئة الّتي ظهر فيها الإسلامُ، وترعرع ونمى .
2- البيئة العالمية خارج الجزيرة العربية، ويعرف ذلك بدراسة عقائد الناس وافكارهم
في اكثر مناطق العالم ـ يومَذاكَ ـ مدنية وحضارة، ومطالعة آدابهم وأخلاقهم
وتقاليدهم، وأعرافهم، ومدنيّاتهم الّتي كانت تعتبرُ أفضل الأفكار والمدنيّات، وأرقى
الحضارات، والأوضاع آنذاك .
ولقد كانت بيئتا: الامبراطورية الرومانية، والإمبراطورية الإيرانية ألمع نقطة في
ذلك اليوم ـ كما يدلنا التاريخ على ذلك. ولابدَّ أستكمالا لهذا البحث من دراسة
الأَوضاع في هاتين الإمبراطوريتين، في مناطقها، ومن نواحيها المختلفة، لنقف من هذا
الطريق على قيمة الحضارة الّتي اتى بها الإسلام، ونعرف ذلك بوجه أفضل .
أوضاع الروم ابان عهد الرسالة
ان أوضاع الروم لم تكن بأقل سوءً من أوضاع منافستها "ايران" فالحروب الداخلية من
جانب والمعارك الخارجية المستمرة مع "ايران" وصراعها الدائم المستمر مع الاخيرة على
منطقة "ارمينية" وغيرها كل ذلك كان يهيء الناس في تلك البلاد للقبول بثورة جديدة
يضع حداً لمآسيهم ومحنهم.
ولقد كان للاختلافات والمنازعات الطائفية والمذهبية النصيب الاكبر والأَوفر في
توسيع رقعة هذه الاختلافات، والمنازعات.
فالحربُ لم تتوقَفْ أبداً بين الوثنيين والمسيحيين ولم تنطفىء شرارتها يوماً ابداً.
فكان إذا غَلَب رجالُ الكنيسة على دست الحكم وأخذوا بمقاليده مارسوا أشدّ أنواع
الضغط والأضطهاد بحقِّ خصومهم ومنافسيهم الأمر الّذي كان يساعد على إيجاد أقلية
ناقمة من جهة، كما ويمكن اعتبار ذلك عاملا مساعداً من جهة اُخرى على تهيئة الشعب
الروماني لاحتضان الدعوة الإسلامية، وتقبلها .
لقد كان حرمانُ طوائف كثيرة ومختلفة ناشئاً من ممارسات رجال الكنيسة الخشنة
ومواقفهم المتزمتة .
هذا مضافاً إلى أن اختلاف القساوسة والرهبان النصارى فيما بينهم من جهة، وتعدّد
المذاهب من جهة اخرى كان يعمل على التقليل من هيبة الامبراطورية الرومانية وجرّها
إلى الضعف والوهن المتزايد يوماً بعد يوم .
هذا بغضّ النظر عن أنَ البيض والصُفر من سُكّان الشمال والمشرق كانوا يفكّرون في
السيطرة على المناطق الغنية من اُوربة، وربما ألحق أحدُهما بالآخر خسائر فادحة
وباهضة في الصرعات والمصادمات الّتي كانت تقع بينهما. وكان هذا هو نفسُه السبب في
أن تنقسم الامبراطوريةُ الرومية إلى معسكرين: المعسكر أوالقسم الشرقي والمعسكر
أوالقسم الغربي .
ويعتقد المؤرخون أن أوضاع الروم السياسية، والاجتماعية والاقتصادية في القرن السادس
كانت مضطربة، ومتدهورة جداً، حتّى أنهم لا يرون في غلبة الروم وتفوّقها على إيران
شاهداً على قدرتها العسكرية، وتفوّقها النظامي، بل يرون أن هزيمة إيران كانت بسبب
الفوضى الّتي كان سائدة انذاك في جهاز الحكم الايراني .
إن هاتين الدولتين اللتين كانتا تتربَّعان على عرش السيادة والسياسة العالمية في
مطلع ظهور الإسلام كانتا تعيشان حالة سيئة من الفوضى، والهرج والمرج، ومن البديهىّ
أنَّ مثل هذه الأَوضاع كان من شأنها أن توجد حالة من التهيّؤ الكبير والظمأ الشديد
إلى دين صحيح يضع حَدّاً ونهاية لتلك الحالة، ويعيد تنظيم حياتهم .
ظاهرة الجدل العقيم في المجتمع الرومي
المتعارف أن يعمد جماعةُ مِنَ البطّالين والفسقة إلى طرح سلسلة من القضايا والمسائل
الخاوية والنقاش حولها بهدف التوصُّل إلى أغراض فاسدة، فيستهلكون بذلك أوقات الناس،
ويهدرون أعمارهم على منحر الجدل العقيم .
وهي حالة لها مصاديق كثيرة وشواهد عديدة في كثير من بلاد المشرق، ولسنا بصدد
التوسّع فيه فعلا . وقد كانت "الروم" تعاني يومئذ من مثل هذه الحالة اكثر من اي
مكان آخر .
فقد كان ملوك الروم ورجال الحكم والسياسة تبعاً لمذاهب دينية كنسيّة يعتقدون بأن
المسيح ذو طبيعتين ومشيئتين، ولكن طائفة اُخرى من النصارى وهم "اليعقوبية" كانوا
يقولون بانه: ذو طبيعة ومشيئة واحدة .
وقد وجهت هذه المسألة الباطلة نفسها، والجدل الواهي حولها ضربة شديدة إلى وحدة
الروم ومن ثم استقلالها، واحدثت في صفوفها انشقاقاً عميقاً حيث كانت السلطات
الحاكمة تضطر إلى الدفاع عن معتقداتها، ولذلك كانت تضطهد معارضيها، وتلاحقهم وهذا
الاضطهادُ والضغطُ الروحىّ سبَّب في لجوء البعض إلى الدولة الايرانية، كما كان
هؤلاء همُ الذين تركوا المقاومة عند مواجهة الجيش الإسلامي، وألقوا السلاح،
واستقبلوا جنود الإسلام بالاحضان .
كانت الرومُ تمرُّ آنذاك بظروف اشبه ما تكون بظروف القرون الاُوربية الوسطى الّتي
ينقل عنها "فلا ماريون" الفلكىّ الشهير القضايا التالية الّتي تدل على المستوى
الفكرىّ والثقافيّ لاُورُبة في القرون الوسطى:
لقد كان كتابُ "المجموعة اللاهوتية" المظهر الكامل للفلسفة المدرسية في القرون
الوسطى، وقد بقي هذا الكتاب يُدرَّس في أوربة خلال أربعمائة سنة ككتاب رسمي ومعترف
به .
وقد كان من الأبحاث المطروحة في هذا الكتاب البحث حول عدد الملائكة الّتي يمكنها ان
تستقر على راس إبرَة؟! أو عدد الفراسخ بين العين اليسرى والعين اليمنى للاب
الخالد؟! إلى غير ذلك من القضايا التافهة!!
إن الامبراطورية الرومية السيئة الحظ فيما كانت تعاني من الحروب الخارجية الكثيرة،
كانت تعاني كذلك من النزاعات والاختلافات الداخلية ـ الّتي كانت ـ على الاغلب ـ
تتصف بالصبغة المذهبية والطائفية ـ وكانت تدفع بالبلاد إلى حافة الهاوية، وتزيدها
قربا إليها يوماً بعد يوم .
ولما رأى اليهود وهي الزمرة الشريرة المتآمرة على الشعوب دائماً تصاعد الاضطهاد
والضغط الّذي يمارسه الامبراطورالمسيحي الرومي خطّطت لاسقاط ذلك النظام، فاحتلت
مدينة انطاكية ذات مرة، ومثلت بأسقف أنطاكية الاكبر فصلموا اُذنه، وجدعوا أنفه،
فانتقمت حكومة الروم لهذه الجناية بعد مدة، وقتلت اليهود في انطاكية في مذبحة عامة
.
وقد تكرَّرت هذه الجرائم الفضيعة وهذه المذابح، والمذابح الانتقامية المضادة بين
اليهود والنصارى عدة مرات، وربما سرت موجة الروح الانتقامية أحياناً إلى خارج
البلاد، فمثلا اشترى اليهود من ايران ذات مرة ثمانين الف مسيحي ثم حزوا رؤوسهم
انتقاماً وتشفياً.
من هذا يستطيع القارىء الكريم أن يقف على الصورة القاتمة للوضع السيء والمتردّي
الّذي كان عليه العالم إبان بزوغ شمس الإسلام، ويذعن ـ مع المذعنين ـ بأن التعاليم
الإسلامية الرفيعة التي انقذت العالم من ذلك الوضع المأساوي لم تكن أبداً وليدة
الفكر البشرىّ وان نسيم الوحدة، الناعشة، ونغمة السلام الّتي يهدف إليه الإسلام
ويسعى إلى تحقيقه واقراره في الحياة البشرية ليس لها من مصدر إلا الغيب، إذ كيف
يمكن القول بان الإسلام الّذي يعترف حتّى للحيوانات بحق العيش والحياة نابع من تلك
البيئة المغرقة في القسوة والوحشية، وناشيء من ذلك المحيط المفحم بروح الانتقام
والتشفي .
لقد أبطل الإسلامُ جميع تلك المجادلات العقيمة والمناقشات التافهة حول مشيئة عيسى
وشخصيته، وقال في نعته ووصفه:﴿ما المَسِيحُ بنُ مريمَ
إلاّ رسولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْله الرُّسُلُ واُمَّه صِدِّيقةٌ كانا يأكُلان
الطّعام﴾ 1 .
إن هذه الآية انهت الكثير من أبحاث رجال الكنيسة الباطلة الخاوية حول "الروح" و
"المسيح" ودمه، وشخصيته، وحقيقته، كما ان الإسلام بفضل التعاليم الرفيعة، واحياء
السجايا والملكات الفاضلة انقذ البشرية من المنازعات، الفارغة، والمذابح الفضيعة .
أوضاع إيران إبان عَهد الرسالة
إن ما دفعَنا إلى دراسة أوضاع الإمبراطورية الرومية هو نفسه يحتم علينا أيضا دراسة
اوضاع إيران يومذاك .
لقد صادف ظهورُ الإسلام وبعثة الرسول الكريم محمّد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ 611
ميلادية عهد السلطان الإيراني خسرو برويز 590 ـ 628 م، و في عهد "خسرو برويز" هذا
هاجر رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ من مكة إلى المدينة الجمعة 16 جولاي
622، وصارت هذه الواقعة مبدء للتاريخ الإسلامي .
في هذه الأَيام كانت الدولتان العظيمتان الروم الشرقية وايران الساسانية تسيطران
على معظم مناطق العالم المتحضر، ولم تزل هاتانَ الدولتان في نزاع مستمر وصراع دائم
على مناطق النفوذ حتّى بعد ظهور الإسلام.
فقد بدأت حروب ايران والروم الطويله من عهد السلطان الإيراني أنوشيروان 531 ـ 589 م
واستمرَّت إلى عهد الملك "خسرو برويز" واستغرقت اربعاً وعشرين عاماً من الزمان2 .
وقد سبَب تحمل "ايران" و "الروم" للخسائر الكبرى، في الارواح والثروات خلال هذه
المعارك الطويلة في إضعاف تينك الدولتين، وتعطيل وشلّ قواهما بحيث لم يبق منهما
إلاّ شبحُ دولتين لا اكثر .
ولكي نقف على الوضع العام في ايران آنذاك من جهاته المختلفة، وابعاده المتنوعة
وبصورة أفضل، يجب ان نلقي نظرة فاحصة على وضع الحكومات الّتي توالت على سدة القيادة
الايرانية بعد حكم "انوشيروان" وحتّى بداية دخول المسلمين .
البَذخ والتَرف في البلاط الساساني
كانت حياة الملوك الساسانيين تتسم عموماً بالبذخ والترف، والتشريفات الطويلة
العريضة، وكان البلاطُ الساساني الفخم جداً يخلب ببريقه، بريق العيون، ويسحر
الافئدة والعقول .
وكان للايرانيين في عهد الساسانيين لواء يُعرف بـ "درفش كاوياني" اي العلم
الكاوياني نسبة إلى كاوه وهو بطل قومي إيراني اُسطوري، وقد كانوا يحملونه معهم في
الحروب، أو ينصبونه فوق قصورهم اثناء إحتفالات الساسانيين الكبرى، وقد كان هذا
اللواء موشحاً ومزيناً بأغلى أنواع المجوهرات بلغت قيمتها التقديرية ـ حسب قول بعض
الكتاب:"000 / 200 / 1" درهماً أو ما يعادل 000 / 30 پوند .
وقد بلغت مجموعة المجوهرات والاشياء الثمينة والتصاوير والرسوم المحيرة للعقول
الّتي كانت تكتضُّ بها قصور الساسانيين من حيث الاهمية والقيمة حداً سحرت العيون
وخلبَت الالباب .
ولو أننا أردنا أن نقف على عجائب ما في تلك القصور، وما كانت تحتوي عليه من غرائب
الاشياء لكفانا أن نلقي نظرة واحدة إلى السجّادة البيضاء والكبيرة التي كانت مفروشة
في احدى صالات بعض تلك القصور، وهي السجّادة الّتي كانت تدعى بالفارسية بـ "بهارستان
كسرى" وهو بساط كانوا يُعدوّنه للشتاء إذا ذهبت الرياحين، فكانوا إذا أرادُوا الشرب
وتعاطي الخمر فرشوه، وشربوا عليه فكأنهم في رياض وكان هذا البساط ستيناً في ستين
أرضُه بذهب ووشيُه بفصُوص، وثمره بجوهر وورقه بحرير"3!!
وقيل أيضاً أن هذا البساط كان مئة وخمسين ذراعاً في سبعين ذراع وكان
منسوجاً من خيوط الذهب والمجوهرات الغالية جداً!!
وقد كان "خسرو برويز" أكثر الملوك الساسانيين ميلا إلى الترف، والبذخ، واتخاذ
الزينة، وقد بلَغَت عددُ نسائه وجواريه عدة الآف .
يقول حمزة الاصفهاني في كتاب "سنىّ ملوك الارض" واصفاً حالة الترَف والبذخ الّتي
كان يعيشُها كسرى برويز: ثلاثة آلاف امرأة، واثنا عشر .
وجاء في تاريخ الطبري:أن "كسرى4 برويز"
كان قد جمع من الأموال ما لم يجمع أحدٌ من الملوك، وكان أرغب الناسِ في الجواهر
والأواني5 .
الوضع الاجتماعي في ايران
لم يكن الوضعُ الإجتماعي في عهد الساسانيين بأفضل من الوضع السياسي آنذاك أبداً،
فقد بلغ الاختلاف الطبقي الّذي كان سائداً في ايران منذ زمن بعيد اشدَّه واقوى
درجاته، واسوء حالاته في العهد الاختلاف الساساني .
فطبقة النبلاء والكهنة كانت تتميز على بقية الطبقات تميزاً كاملا، فهم يختصون بجميع
المناصب الاجتماعية الحساسة والعليا، بينما حُرم الكسبة والمزارعون وبقية أبناء
الشعب من كافة الحقوق الاجتماعية، ولم يكن لهم من واجب ودور في النظام إلا دفع
الضرائب الثقيلة والمشاركة في الحروب .
يكتب أحدُ الكتّاب الإيرانيين وهو الاستاذ سعيد نفيسي في هذا الصعيد قائلا: ان ما
كان يثير روح النفاق بين الايرانيين اكثر هو سياسة التمايز الطبقي القاسي جداً
الّذي كان الساسانيون يتبعونها في التعامل مع الشعب، وكان لها جذورٌ في العهود
والحضارات السابقة، ولكنها بلغت ذورتها في العهد الساساني بالذات!!
ففي الدرجة الاُولى كان للعائلات السبع من النبلاء، ثم للطبقات الخمس إمتيازاتٌ
خاصة حُرمَتْ منها عامة أبناء الشعب .
فالملكية كانت محصورة ـ تقريباً في تلك العائلات السبع مع العلم أن الشعب في العهد
الساساني كان يقاربُ عدد نفوسه مائة وأربعين مليوناً في حين لا يبلغ عددُ كل واحد
من تلك العائلات الممتازة والمتميّزة في شؤونها مائة ألف شخص، فيكون مجموعُها سبع
مائة ألف6 .
وإذا افترضنا أنَّ حراسَ الحدود وأمراءهم والمُلاك الذين كانوا يتمتعون هم الآخرون
بشيء من حق الملكية كان يبلغ عددهم أيضاً سبع مائة ألف أيضاً فيكون حق التملك
والمالكية حينئذ خاصاً بمليون ونصف من مجموع مائة واربعين مليوناً، فقد كانت تلك
الزمرة القليلة هي الّتي تملك، وأما الآخرون وهم الاكثرية الساحقة فقد كانوا
محرومين من هذا الحق الطبيعي الموهوب لهم من جانب اللّه أساساً وأصلا .
لقد كان الكسبة والفلاحون الذين كانوا محرومين من جميع الحقوق، والإمتيازات ولكنّهم
كانوا يتحمَّلون نفقات حياة البذخ والرفاهية الّتي كان يرفل فيها النُبلاء والأشراف
والطبقات العليا، لا يأملون خيراً وراء استمرار هذه الاوضاع، ودوامها، ولهذا كثيراً
ما كان المزارعون والفلاحون والطبقات الدنيا من الشعب يغادرون أعمالهم، ومزارعهم
ويلجأون إلى الأديرة فراراً من الضرائب الباهضة والاتاوات القاصمة للظهور، المبددة
للثروات7 .
يقول مؤلف كتاب "ايران في عهد الملوك الساسانيين" 8.
إن حروب إيران ـ الروم الطويلة بدأت من عهد حكومة الملك الإيراني انوشيروان 531 ـ
589 م .
وخلاصة القول أنه كان في الامبراطورية الساسانية يملك أقلية صغيرة تقلّ نسبتُها عن
5/1 % واحد ونصف بالمائة من مجموع الشعب كل شيء بينما كان اكثر من 89 % من الشعب
الإيراني محرومين من حق الحياة تماماً كالعبيد .
حَقٌّ التعلّم خاصُ بالطبقات الممتازة!!:
في العهد الساساني كان ابناء الاغنياء والبيوتات الرفيعة هم وحدهم الذين يتمتعون
بحق التعليم، بينما كان عامة جماهير الشعب، والطبقات الوسطى والدنيا محرومين من
تحصيل العلوم واكتسابها .
وقد كانت هذه المنقصة بادية وواضحة في عصور ايران التاريخية جداً بحيث ذكرها
الشعراء الكبار في ملاحمهم ودواوينهم الملكية المعروفة بالرغم من ان الهدف من تلك
الملاحم والدواوين كان هو الحماسة، والتفاخر بالبُطولات وتجييش العواطف، بعد مدح
الملوك والامراء .
فها هو "الفردوسي"9 الشاعر
الملحمي الفارسي المعروف، بل اشهر شعراء ايران قد ذكر في شاهنامته وهي الملحمة
الشعرية الّتي يذكر فيها أمجاد ملوك الفرس في قرابة ستين ألف بيت قصة في هذا الصدد
تعتبر أفضل شاهد على ما قلناه .
وقد وقعت هذه القصة في زمن "أنو شيروان"، أي في الوقت الّذي كانت الامبراطورية
الساسانية تمرُّ فيه بعهدها الذهبي .
وهذه القصة تشهد بأن اكثرية الشعب في عهد هذا الملك أيضاً كانت محرومة من حق
التعلم، وممنوعة عن اكتساب الثقافة .
يقول الفردوسي: لقد
أبدى حذّاء استعداده لتحمّل نفقات الجيش الإيراني ـ في حربه مع الروم ـ بدفع ما
يحتاجون إليه من ذهب وفضة .
ومع أن السلطة في عهد "انوشيروان" كانت بحاجة ماسة إلى مساعدات مالية كبيرة إذ كان
يتعين عليها أن تجهز ما يقرب من ثلاثمائة الف مقاتل قد اصيبوا بالمجاعة وقلة
العتاد، بحيث أدى ذلك إلى وقوع بعض الاعتراضات، وإلى ظهور الفوضى في الجنود، ممّا
أدى بدوره إلى قلق الملك الإيراني "أنوشيروان" .
والتخوف من مضاعفات هذه الحالة، وآثاره السيئة في قتاله للروم، ولذلك بادر إلى
استدعاء وزيره المحنك "بزرجمهر" للتشاور معه في المخلص من ذلك الوضع المحرج، ثم
امره بالتوجه إلى منطقة "مازندران" وجمع الاموال اللازمة من سكانها .
ولكن "بزرجمهر" حذَّر الملك من مغبّة هذا العمل، وأضاف بأن هذا من شأنه أن يضاعف من
الخطر ثم اقترح جمع الاموال اللازمة عن طريق القروض الشعبية فاستحسن "انوشيروان"
اقتراحه وأمره باتخاذ الترتيبات اللازمة على التو فيرسل الوزير مندوبين له إلى
المدن الإيرانية ليكلم التجار واصحاب الثروة في الامر .
فيبدى الحذّاء المذكور استعداده لتحمل كل نفقات الجيش لوحده الاّ انه اشترط ذلك بان
يسمحوا لولده الوحيد الراغب في تحصيل العلم جداً ان يتعلم .
فاستحقر الوزير شرطه ووعده بالانجاز، والسماح لولده بالتعلم وتحصيل العلم، ثم عرض
الامر على الملك انو شيروان وهو يأمل في ان يتجاوب الملك مع رغبة الحذّاء وطلبه
الصغير إذا ما قيس بما سيعطيه من اموال طائلة في تلك الاوضاع الحرجة .
ولكن الملك استشاط غضباً لهذا الطلب، ونهر الوزير قائلا: دع هذا، ما أسوأ ما تطلبه،
ان هذا لا يمكن ان يكون، لان ابن الحذّاء بخروجه من وضعه الطبقي يهدم التقليد
الطبقّي المتبع، فينفرط بذلك عقد الدولة، ويكون ضرر هذا المال علينا اكثر من نفعه،
وشره اكثر من خيره .
ثم إنّ الفردوسي يعمد إلى شرح المنطق الميكافيلي حكاية عن لسان انوشيروان إذ يقول
ناظما ذلك في ابيات10:
وإذا اصبح ابن الحذّاء عالماً كاتباً عارفاً فعندما يجلس ولدنا على مسند الحكم
والسلطنة واحتاج إلى كاتب، فانه سيضطر إلى الاستعانة بابن ذلك الحذّاء ـ الكاتب ـ
وهو من عامة الشعب ومن ابناء الطبقة الدنيا وفي حين جرت عادتنا إلى الآن على أن
نستعين بابناء الاشراف والنبلاء لا أبناء الطبقة الدنيا!!!
وإذا حصل ابن الحذّاء وبائع الاحذية على العلم والمعرفة أعاره العلم والمعرفة حينئذ
عيوناً بصيرة، وآذاناً سميعة فيرى حينئذ ما يجب أن لا يراه،
ويسمع ما يجب أن لا يسمعه، وحينئذ لا يبقى لأبناء الملوك إلا الحسرة والتأسف11 .
وهكذا يعيد الملك دراهم الحذّاء المسكين إليه رافضاً طلبه ويعود الحذاء خائباً وهو
يتوسل بما يتوسل به المستضعفون والمحرومون المظلومون وهو الدعاء والضراعة إلى اللّه
في الليل وفي هذا قال الفردوسي: عاد مبعوث الملك بدراهم الحذاء إليه فاصيب الحذاء
لذلك بغمّ شديد ثم لما جن الليل تضرع الحذاء إلى اللّه وشكا إليه الملك طالباً
عدالته12.
والعجيب هو أن يصف البعض هذا السلطان بالعادل وهو الّذي لم يعالج أسوأ مشكلة في
المجتمع الإيراني أيام حكمه وسلطانه وهي المشكلة الثقافية، بل تسبب في أن يصاب
الشعبُ الإيراني بالمزيد من المشاكل الاجتماعية وغيرها .
فقد وأد ودفن في القبور احياء ما يقرب من ثمانين الف انسان اومائة الف كما قيل في
حادثة واحدة، وهي فتنة مزدك، حتّى أنه ظنَّ انه قد قضى على جذور تلك الفتنة وهو لا
يعلم أنها لم تُستأصل لأن مثل هذه الأساليب القمعية انما تقضي فقط على المسبَّب دون
السبب وتكافح المجرم لا الجرم .
لقد كان السبب الحقيقي وراء تلك الفتنة هو الظلم الاجتماعي، والاختلاف الطبقىّ،
واحتكار الثروة، والمنصب على أيدي طبقة خاصّة وحرمان الاكثرية الساحقة من الشعب
وغير ذلك من المفاسد وكان عليه لو أراد الاصلاح أن يعالج هذه الاُمور ليأتي على
المشكلة من أساسها، ولكنه بدل ذلك كان يريد ـ بالقهر والقمع وفي ظلّ الحراب والسياط
ـ أن يظهر الناس انفسهم بمظهر الراضي وعن السلطة، الموافق على تصرفاتها، وأحوالها
وأوضاعها السيئة!
ومن هنا نعرف بطلان الحديث المروىّ عن النبىّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ الّذي
قال فيه: وُلدتُ في زمن الملك العادل ويقصد به انوشيروان13 .
صفحةٌ سوداءٌ من جرائم خسروبرويز
ومن جرائم الملك خسروبرويز ومظالمه المنكرة ما فعله بوزيره الشهير "بزرجمهر" الّذي
خدم البلاط الشاهنشاهي الايرانىّ ثلاثة عشر عاماً وكان ذلك موجباً لشهرته في البلاد
وحسن صيته بين الناس .
فقد عَمَدَ هذا الملك إلى سجن الوزير المذكور، والنكاية به، وقدكتب إلى الوزير
المسجون رسالة يقول فيها: إنَّ حظَّك مِنَ العلم والمعرفة أنه عرضك للقتل!!
فاجابه "بزرجمهر" بقوله: "فقد انتفعتُ بعلمي مادام قد حالفنى الحظُ، وحيث عاكسني
الآن، فانّني اصبر وأنتفعُ بصبري، فإذا فاتني فعلُ خير كثير فانني سعيدٌ لأنَّني لم
أرتكب كذلك شرّاً كثيراً وإذا ما سلبني منصب الوزارة فاني في الوقت نفسه قد استرحت
كذلك من غم الحيف بالناس، فلا ابالي بما أنا فيه" .
ولما بلغَت هذه الرسالة إلى الملك "برويز" استشاط غضباً، وأمر بقطع شفتي الوزير،
وجَدْع أنفه، وعندما عرف الوزيرُ بهذا الأمر الظالم قال: أجل أن شفتي تستحقان اكثر
من هذا .
فسأله خسروبرويز: ولماذا؟ فقال: لأنهما وصفتاك عند العامة والخاصة بما لا تستحق من
الأوصاف، واعطتاك ما ليس فيك من الخصال، فامالتا اليك القلوب، ورغَّبتا فيك النفوس،
والافئدة، وآشاعتا عنك أمجاداً لم تستحقها، يا اسوأ الملوك وأظلم الحكام، تقتلني
الآن بسوء الظن بعد أن كنت على يقين من وفائي، وصدقي، واخلاصي، وسلامتي، فمن بعد
هذا يأمل في عدلك، ومن بعد هذا يثق بقولك؟!
فازداد "خسروبرويز" لسماع هذه الكلمات الساخنة غضباً على غضب، وأمر من فوره بقتل
الوزير، فضرب عنقه في التوّ14 .
وتلك هي معاملة ذلك الملك الموصوف زوراً بالعادل مع اقرب مقربيه، واكثر معاونيه
إخلاصاً، ووفاء له فكيف كانت تُرى معاملته مع سائر أفراد الرعية وبقية أفراد
الشعب؟؟
حكم التاريخ في الملوك الساسانيين
لقد اتخذ الحكام الساسانيُّون في عهودهم وحكوماتهم سياسة خشنة قاسية، وقد أخضعوا
الناس بسلطانهم بالسيف والعنف .
كانوا يفرضون على الناس ضرائب ثقيلة وأتاوات باهضة قاصمة للظهور، ولهذا السبب كان
عامة الشعب الايراني غير راضين على حكمهم وسيرتهم، ولكنهم خوفاً على نفوسهم، ما
كانوا يتمكنون من الاعلان من استيائهم هذا بل لم يكن لأرباب الفكر والرأي والعارفين
بالامور شأن ولا قيمة في البلاط الشاهنشاهي .
لقد بلغ الاستبدادي لدى الحكام الساسانيين حداً لم يستطع معه أحدٌ من إظهار رأيه،
ولم يجرأ احد على إبداء أية ملاحظة في شأن من الشؤون .
لقد بلغت القوة بخسروبرويز حداً عجيباً وصفه الثعالبي بقوله:قيل لخسرو برويز كسرى
دعونا فلانا الوالي فتباطأ عن الامتثال، فأمر الملك من فوره قائلا ان كان يصعب عليه
مجيئه ببدنه كله، فاننا يكفينا شيء منه، فليؤتى براسه فحسب15 .
الفوضى في الحكومة الساسانية
وممّا يجب ان لا نغفل عن ذكره هو ما تعرضت له الحكومة الساسانية في اواخر عهدها من
الفوضى الادراية، وتفاقم الهرج والمرج في جهازها الحكومي .
فقد دبّ الصراع والنزاع ونشب التنافس الحاد بين الامراء، والاعيان وقاده الجيش في
ذلك العهد وذهب كلُ فريق يختار أميراً من أبناء العائلة المالكة، ويقوم بتصفية
الطائفة الاُخرى الّتي اختارت أميراً آخر .
وعندما فكّر العرب المسلمون في فتح إيران كانت العائلة الساسانية المالكة قد بلغت
ذروة الضَعف والانقسام .
وممّا يدل على ذلك تعاقبُ ما يقرب من 14 ملكاً على مسند الحكم والسلطان خلال مدّة
اربعة اعوام من مقتل الملك "خسرو برويز" وجلوس شيرويه مجلسه وحتّى آخر ملك من ملوك
بني ساسان .
وهذا يعني أن حكومة إيران انتقلت خلال مدة لا تتجاوز اربعة اعوام من يد إلى يد
اُخرى 14 مرة!! ومن الواضح ما يلحق باية دولة ومملكة تتعرض لـ 14 انقلاب يُقتل فيه
ملك، ويحل محله ملك آخر في مثل هذه المدة القصيرة .
فقد كان كلُ حاكم يتسلَّم زمام الحكم ويستولي على عرش السلطان يعمد إلى قتل واغتيال
كل من كان يطمع في العرش، ولا يتورع في سبيل إرساء قواعد حكمه من ارتكاب كل ما يراه
ضرورياً، فكان الأب يقتل ابنه، والابنُ يقتل أباه، وربما يقتل الاخ إخوته، والزوجة
زوجها وهكذا...
فقد قتل "شيرويه" أباه16 للحصول
على مقعد الحكم والسلطان، كما أباد اربعين شخصاً من أبناء الملك "خسروبرويز" اي
إخوته!!17 .
وكان "شهر براز" يقتل كل من لا يثق به، وقد أدّى هذا إلى أن يقضي على كل أبناء
سلالته من الامراء الساسانيين ممّن كان قد تسنَّم عرش السلطان والملوكية قبله، رجلا
كان ذلك أم إمراة، صغيراً كان ام كبيراً، لكيلا يبقى في الوجود من يطمع في السلطان
أو يدّعيه!!
وصفوة القول: أن الفوضى السياسية بلغت في أواخر العهد الساساني حداً بحيث كانوا
يجلسون فيه الأطفال والصبيان والنساء على اريكة الحكم، ثم يثورون عليهم ويقتلونهم
بعد ايام أو أشهر ويحلون محلَّهم أشخاصاً آخرين!!
وعلى هذا فإن الدولة الساسانية رغم قوتها الظاهرية كانت آخذة في الانحطاط والانحلال
وسائرة نحو التمزق والفناء .
الفوضى الدينية في ايران الساسانيين
لقد كان أهم عامل للفوضى الّتي كانت تعاني منها الاوضاع في العهد الساساني هو
الاختلاف في المعتقدات الدينية الّتي كانت سائدة آنذاك .
فحيث أن "اردشير بن بابك" مؤسس السلسلة الساسانية كان ابن مؤبد وهو رجل دين زردشتي
وقيّماً على بيت نار وقد تمكن من السلطان بفضل الموابدة فانه اجتهد في الترويج لدين
آبائه في ايران .
وفي عهد الساسانيين كان الدين الرسمي والشائع في أوساط الشعب الإيراني هو الدين
الزرادشتي، ولما كانت السلالة الساسانية قد توصلت إلى الحكم بواسطة الموابدة ـ كما
أسلفنا ـ لذلك كان الموابدة والقيمون على بيوت النار ونعني بهم رجال الدين
الزرادشتي يحظون بمكانة كبرى لدى البلاط الساساني إلى درجة أنهم أصبحوا يشكّلون في
أواخر العهد الساساني أقوى طبقة، وأشد الاجنحة نفوذاً في المجتمع الإيراني آنذاك .
ولقد كان الحكام الساسانيّون دائماً ممَّن رشحهم للحكم الموابدة ورجال الدين
الزردشتي المجوسي، ولذلك كان الحكام يأتمرون بأوامرهم، ولو أن أحداً منهم خالف
الموابدة عارضوه أشدَّ المعارضة، وسحبوا عنه تأييدهم ودَعْمهمْ، ولهذا اجتهد الملوك
الساسانيون في كسب رضا الموابدة، والعناية بهم اكثر من غيرهم من الطبقات، وقد
تسبَّبت عناية اُولئك الملوك بالموابدة وحمايتهم لهم في تزايد عددهم، يوماً بعد يوم
.
وقد كان الساسانيون يستغلون رجال الدين المجوس أكبر استغلال لتثبيت قواعد حكمهم،
وتقوية مواقعهم في السلطان ولذلك أقاموا في مختلف مناطق القطر الإيراني العريض بيوت
النار، وهي معابد المجوس جاعلين في كل واحد من هذه المعابد ثلة كبيرة من الموابدة
كسدنة .
فقد كتب المؤرخون يقولون: ان "خسرو برويز" شيد بيتاً للنار عظيماً ووكل به 12 الف
هيربد وهو منصب خاص ورتبة خاصة في نظام القيادة الدينية المجوسية لينشدوا فيه
الاناشيد الدينية، ويؤدوا الطقوس والشعائر المجوسيّة!!18 .
وعلى هذا الاساس كان الدين المجوسي دين البلاط، وكان رجاله في خدمة الملوك .
هذا وقد اجتهد الموابدة ـ بكل ما في وسعهم ـ في إبقاء الطبقات الكادحة والمحرومة من
ابناء الشعب الإيراني في حالة من الركود والجمود وحالة عدم الاحساس بالآلام والرضا
بالأمر الواقع .
ولقد تسببت الصلاحياتُ الواسعة والحريات المطلقة المخولة إلى الموابدة في ابتعاد
الناس عن الدين المجوسي والنفور منه، فجماهير الشعب كانت تبحث لنفسها عن غير ما
يتدين به الأشراف من عقيدة ودين .
يقول مؤلف كتاب "تاريخ اجتماعي ايران" وقد سعى الشعب الإيراني ـ في المآل ـ إلى ان
يتخلص من ضغوط الاشراف والموابدة واضطهادهم، ولهذا ظهر بيت الزردشتيين في قبال
الدين الرسمي "المزدية الزردشتية" الّذي كان دين البلاط كما عرفنا، وكان يدعى:
بهدين اى الدين الافضل مذهبان آخران19 .
اجل وبسبب ضغوط الاشراف وتشددات الموابدة في العهد الساساني ظهرت في ايران مذاهب
مختلفة الواحد تلو الآخر، وقد حاول "مزدك" ومِنْ قبله "ماني" ان يوجدا بأنفسهِما
تحولا في الاوضاع الدينية وفي العقائد والمؤسسات، ألاّ أنهما منيا بالفشل في هذا
السبيل20 .
فحوالي سنة 497 ميلادية قام "مزدك"، وألغى المالكية الانحصارية الخاصة، ونسخ عادة
تعدد الزوجات، ونظام الحريم وكان ذلك في مقدمة برامجه الاصلاحية، وقد لقيت أفكاره
هذه تأييداً قوياً من قِبل الطبقات المحرومة المسحوقة الّتي فجرت بقيادة "مزدك"
ثورة كبرى، وانقلاباً هائلا في المجتمع الإيراني .
ولقد كانت هذه الثورات والانتفاضات الشعبية لأجل أن يتوصل الناس إلى حقوقهم
المشروعة، الممنوحة لهم من قبل اللّه خالقهم وبارئهم .
ولقد قوبل مذهب "مزدك" باعتراض شديد من قِبَل الموابدة، وامراء الجيش، وجرّ إلى
فتنة كبيرة، وإلى تردي الاوضاع في ايران آنذاك .
كما ان المذهب الزردشتي قد فقد ـ في أواخر العهد الساساني ـ حقيقته بصورة كاملة،
ووصل الأمر بعبادة النار وتقديسها إلى درجة أنهم كانوا يحرِّمون الدقّ على حديدة
محماة اكتسبت لون النار ولهيبها بمجاورتها لها.
وبكلمة واحدة; لقد كانت اكثر المعتقدات الزردشتية المجوسية تتألف من الخرافات
والأساطير، وقد أعطت حقائق هذا الدين ـ في هذا العهد ـ مكانها لحفنة من الشعائر
الجوفاء، والطقوس الفارغة، الّتي أضاف إليها الموابدة سلسلة من التشريفات الطويلة
العريضة تثبيتاً لمواقعهم، ودعماً لمكانتهم في المجتمع الإيراني يومئذ .
لقد بلغت سيطرة الخرافات والاساطير البعيدة عن العقل والمنطق على هذه العقيدة،
ورسوخها في هذا الدين حداً أقلق حتّى رجال الدين الزردشتي انفسهم أيضاً، وقد كان
بين الموابدة أنفسهم من أدرك منذ البداية تفاهة الطقوس والشعائر الزردشتية الجوفاء
فتخلى عنها .
هذا من جانب
ومن جانب آخر كان قد انفتح على الشعب الإيراني
منذ أيام الملك "أنوشيروان" فما بعد طريق التفكير، والتأمل، والتحقيق، وممّا قد
قوّى هذا الامر ما حصل من اتصالات بين العقائد الزردشتية والمعتقدات المسيحية
وغيرها من العقائد والاديان وما تحقق من تلاقح بينها نتيجة تسلل الثقافة اليونانية
والهندية، وغيرها إلى الوسط الإيراني، وتسبب كل ذلك في يقظة الشعب الإيراني، ولذلك
اصبح يعاني من هذه الخرافات والاساطير الّتي كانت الديانة الزردشتية تعج بها اكثر
من أي وقت مضى .
وعلى أية حال فان الفساد الّذي ظهر في أوساط رجال الدين الزردشت، وتطرق الخرافات
والاساطير الواهية الكثيرة إلى المعتقدات الزردشتية تسَبّبَ في حصول مزيد من التشتت
والاختلاف والتشرذم في آراء الشعب الإيراني وعقيدته .
ومع ظهور هذا الاختلاف وعلى أثر إنتشار المذاهب المتنوعة ظهر روح الشك والتردد لدى
الطبقة المفكرة والمثقفة، وسرت منهم إلى بقية الاصناف والفئات ممّا أدى ذلك إلى أن
يفقد جماهير الشعب ثقتها وايمانها القطعي، واعتقادها الكامل السابق بتلك المعتقدات
.
وهكذا استشرى الهرج والمرج وعمَّت الفوضى واللادينية كل مناطق إيران والمجتمع
الإيراني، كما رسم "برزويه" الطبيب الشهير في العهد الساساني حيث صوّر نموذجاً
كاملا عن الاختلاف الاعتقادي والتشرذم الفكري، وبالتالي اضطراب الأوضاع الإيرانية
في العهد الساساني، في مقدمة "كليلة ودمنة" .
الحروب الإيرانية الرومية
لقد انقذ "بزرجمهر" ـ الوزير الإيراني الشهير الّذي كان يحتل مكان الصدارة في حكومة
"انوشيروان" وكان موصوفاً بالتدبير والكفاءة العالية ـ ايران من الاخطار الّتي
احدقت بها في اكثر الاحايين، ولكن علاقته بالسلطان انوشيروان كانت تتأثر احياناً
بسعاية الساعين ووشاية الوشاة الذين كانوا يوغرون صدر الملك ضدّه فيستصدرون منه
قراراً بحبسه وسجنه .
وقد أوغرّ هؤلاء السعاة والواشون أنفسُهم صدرَ "انوشيروان" ضد امبراطور الروم،
وألّبوه عليه، وشجّعوه على توسيع رقعة نفوذه، وتوسيع حدود بلاده واضعاف سيطرة
منافسه الخطير، متجاهلا وثيقة "الصلح الخالد" الّتي عقدها مع الروم واتفق فيها
الجانبان على عدم التعرض بعضهم لبعض .
وأدى هذا التحريض بأنوشيروان إلى مهاجمة الروم، واشتعلت على اثرها نيران الحرب،
واستطاع جنود ايران ان يفتحوا سورية وقد كانت مستعمرة رومية في مدة قصيرة تقريباً،
وحرق انطاكية ونهب آسيا الصغرى .
وبعد عشرين عاماً من القتال وسفك الدّماء، والكرّ والفر بين الروم وايران وبعد أن
فقد الجانبان قدراتهم وطاقاتهم في تلك المعارك الطاحنة، وبعد الخسائر العظيمة الّتي
تحمّلهما الطرفان إضطرّا إلى عقد وثيقة الصلح مرة ثانية، وحدّدوا حدود بلادهما،
ومناطق نفوذهما كما كانت عليه في السابق شريطة أن تدفع دولة الروم كل عام ما يعادل
عشرين الف دينار إلى دولة ايران .
ومِنَ الواضح الّذي لا يخفى ولا يحتاج إلى البيان أن حروباً طويلة الامد تدور رحاها
بعيداً عن مركز الدولة من شأنها ان تأتي بالنتائج السيئة والتبعات الثقيلة على
اقتصاد الشعب المحارب، وصناعته وتوجه إلى هذه الجوانب ضربات قوية، لا تزول آثارها
إلاّ بعد زمان طويل خاصة مع ملاحظة الوسائل والأدوات في تلك العصور .
ومهما يكن فان هذه الحروب، وهذه الحملات المكلفة هيأت المقدمات الموجبة لسقوط
الحكومة الإيرانية الحتمي .
فان آثار هذه المعارك لم تَزُل بعد إلاّ وقد نشبت حرب اُخرى دامت سبعة اعوام فان
"تي باريوس" امبراطور الروم بعد ان تسنم عرش السلطان هدد بحملاته الكبيرة استقلال
الدولة الإيرانية بدافع الانتقام .
وفي الأثناء ـ وقبل ان يتضح موقف الطرفين وموقعهما في تلك المعارك من الهزيمة أو
الانتصار ـ مات "انوشيروان" وخلفه في إدراة البلاد ابنه "خسروبرويز" .
وقد حمل هذا الأخير على الروم ايضاً، وذلك عام 614 بحجج معينة، وفتح في أول حملة من
حملاته: بلاد الشام وفلسطين وأفريقية ونَهب اورشليم، وأحرق كنيسة القيامة ومزار
السيّد المسيح ـ عليه السلام ـ وهدم المدن، ودمرها .
وقد انتهت هذه الحرب بعد مقتل تسعين الف من النصارى لصالح الإيرانيين .
في مثل هذه المرحلة الّتي كان فيها العالمُ المتحضر آنذاك يحترق ـ في نيران الحروب
والظلم، بُعِث رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بالرسالة الإسلامية، وبلغ
نداؤه المحيي للنفوس والعقول سمع البشرية، وقام يدعو الناس إلى الصلح والسلم، وإلى
النظم والامن .
ولقد أدّى انهزامُ الروميين المتدينين، المؤمنين باللّه على أيدي المجوس الكفار،
عبدة النار، إلى ان يتفاءل اهل مكة الوثنيون بهذا الحدث، ويحدّثوا ويمنّوا أنفسهم
بالانتصار على المسلمين المؤمنين باللّه عما قريب، وانطلقوا يرددون هذه الاُمنية
أمام المسلمين وهم يحاولون بها إضعاف معنويّاتهم، وزعزعة إيمانهم، الامر الّذي أقلق
المسلمين .
ولم يتخذ النبيُ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ موقفاً تجاه هذه الظاهرة انتظاراً لما
سينزل به عليه الوحيُ إلى ان نزلت آيات في هذا المجال هي الآيات الاُولى من سورة
الروم الّتي تقول: ﴿الم،
غُلِبَتِ الرُّوْم في أدْنى الأَرْض وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غلَبهِمْ سَيَغْلِبُونَ في
بِضْع سنين للّه الأمرُ منْ قبْل وَ من بَعْد وَ يَوْمئذ يَفْرَحُ الْمُؤءمِنُونَ
بَنَصْر اللّه يَنصُرُ مِنْ يَشاء وَ هُوَ الْعَزيزُ الرَّحيمُ. وَعَدَ اللّهِ لا
يُخْلِفُ اللّه وَعْدَهُ وَلكِنَّ اكْثَر النّاسِ لا يَعْلَمُون ﴾21 .
وقد تحقّقت ن
2015-12-01