التوريةُ وحسن التعليل
البلاغة
التوريةُ لغةً - مصدر - ورّيتُ الخبرَ توريةً: إذا سترتُه، وأظهرتُ غيره
عدد الزوار: 310
أولاً: التوريةُ1
التوريةُ لغةً - مصدر - ورّيتُ الخبرَ توريةً: إذا سترتُه، وأظهرتُ غيره2.
واصطلاحاً: هي أن يذكُرَ المتكلمُ لفظاً مفرداً له معنيان: أحدهُما قريبٌ
غيرُ مقصودٍ ودلالةُ اللفظِ عليه ظاهرةٌ، والآخرُ بعيدٌ مقصودٌ، ودلالةُ اللفظِ
عليه خَفِيَّةٌ، فيتوهَّمُ السَّامعُ: أنَّه يُريدُ المعنَى القريبَ، وهو إنَّما
يُريدُ المعنى البعيدَ بقرينةٍ تشيرُ إليه ولا تُظهرُه، وتسترُه عن غير المتيقظِ
الفطِنِ، كقولِهِ - تَعَالَى -: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ
وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ﴾3 أرادَ بقولِهِ جرحتُم معناهُ البعيدَ،
وهُوَ ارتكابُ الذنوبِ، ولأجلِ هذا سُمِّيتِ التَّوريةُ إيهاماً وتخييلاً.
- وكقولِ سراجِ الدِّينِ الورَّاقِ4:
يَرُومُ حَياتَهُ مَا بَيْنَ قَوْمٍ لِقَاءُ المَوْتِ عِنْدَهُمُ الأَدِيبُ
وَرَبُّ الشِّعْرِ مَمْقُوتٌ بَغِيضٌ وَلَوْ وَافَى بهِ لَهُمُ "حَبِيبُ"
فكلمةُ "حَبيبٍ" - هُنَا - لَهَا
معنيانِ: أحدُهُمَا "المحبوبُ" وهُوَ المَعنَى القريبُ الَّذي يَتَبادَرُ إِلَى
الذِّهنِ بسببِ التَّمهيِدِ لهُ بكلمةِ "بغيض"، والثانِي اسمُ أبِي تمَّام الشَّاعرِ
وهُوَ "حبيبُ بنُ أَوْس"، وهَذَا المعنى بعيدٌ. وقَدْ أَرادَهُ الشَّاعرُ، ولكنَّه
تَلطَّفَ فَورَّى عنهُ وسترَهُ بالمعنَى القريبِ.
ثانياً: حُسْنُ التعليلِ
هوَ أنْ ينكرَ الأديبُ صراحةً، أو ضمناً، علةَ الشيءِ المعروفةِ، ويأتِي بعلةٍ
أخرَى أدبيةٍ طريفةٍ، لهَا اعتبارٌ لطيفٌ، ومشتملةٌ على دقةِ النظرِ، بحيثُ تناسبُ
الغرضَ الذي يرمي إليهِ، يَعنِي أنَّ الأديبَ: يدّعي لوصفٍ علّةً مناسبةً غيرَ
حقيقيةٍ، ولكنَّ فيها حسناً وطرافةً، فيزدادُ بهَا المَعنَى المرادُ الَّذي يَرمِي
إليهِ جمالاً وشرَفَاً، كقولِ ابنِ أبِي الحديدِ المعتزلِي5 فِي مدحِ أميرِ
المؤمنينَ عليّ عليه السلام:6
يَصفرُّ وجهي حين أَنظر وجههُ خَوفاً فَيدركه الحياء فيخجلُ
فكأنَّما بِخدُودِه من حُمرةٍ ظَلَّت إليها من دَمي تَتحوَّلُ
الحمرةُ تحدثُ مِنَ الحَيَاءِ، والصُّفرةُ مِنَ الخوفِ، وهَذِهِ هِيَ الحقيقةُ ومَا
تقتضيهِ الطبيعةُ، ولكنَّه ينكرُ هَذِهِ الحقيقةَ ويقولُ: إنِّي إذَا قابلتُ وجهَ
الممدوح اصفرَّ وجهِي واحمرَّ وجهُهُ، والسَّببُ فِي ذَلِكَ أنَّ دمِي الِّذي ذَهَبَ
مِنْ وجهِي بالخوفِ انتقلَ إلَى وجهِهِ بالخَجَلِ.
وكقولِ ابنِ الروميّ7:
أَما ذُكاءُ فَلمْ تَصْفَرَّ إذْ جَنَحَتْ إلا لِفُرْقَةِ ذَاكَ الْمَنْظَر
الْحَسَن
فابنُ الروميّ يَرَى أَنَّ الشمسَ لم تَصفَرَّ عندَ الجنوحِ إلَى المغيبِ للسَّببِ
الكونيِّ المعروفِ عندَ العلماءِ، ولكنَّها اصفرَّتْ مخافةَ أنْ تفارقَ وجهَ
الممدوحِ.
* كتاب البلاغة الميسّرة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- (هو فنٌّ بَرَعَ فيه شعراء
مصر والشام في القرن السابع والثامن من الهجرة، وأَتوْا فيه بالعجيب الرائع الذي
يدلُّ على صفاءَ الطبع والقدرة على اللعب بأَساليب الكلام).
2- الجوهري، الصحاح، ج6، ص 23 - 25.
3- سورة الأنعام، الآية: 60.
4- عمر بن محمد بن حسن، أبو حفص، سراج الدين الوراق 615 - 691 هـ / 1219 - 1292 م
شاعر مصر في عصره، برع في التورية وغيرها من أنواع البديع كان كاتباً لواليها
الأمير يوسف بن سباسلار. له (ديوان شعر) كبير، في سبعة مجلدات، اختار منه الصفدي (لمع
السراج- خ)، وله (نظم درة الغواص- خ)، (وشرحه - خ)، توفي بالقاهرة.
5- عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن الحسين بن أبي الحديد، أبوحامد، عز الدين.
586 - 656 هـ / 1190 - 1258 م عالم بالأدب، من أعيان المعتزلة، له شعر جيد واطلاع
واسع على التاريخ. ولد في الدواوين السلطانية، وبرع في الإنشاء، وكان حظياً عند
الوزير ابن العلقمي. تُوُفِّيَ ببغداد.
6- هذان البيتان من احدى قصائده السبع التي مدح بها الإمام علي بن ابي طالب عليه
السلام وهي من أروع القصائد.
7- علي بن العباس بن جُرَيْج أو جورجيس، الرومي. 221 - 283 هـ / 836 - 896 م شاعر
كبير، من طبقة بشّار والمُتَنَبِّي، روميّ الأصل، كان جده من موالي بني العباس. ولد
ونشأ ببغداد، ومات فيها مسموماً قيل: دَسَّ له السمَّ القاسم بن عبيد الله -وزير
المعتضد- وكان ابن الرومي قد هجاه. قال المُرْزُبَانِيّ: لا أعلم أنه مدح أحداً من
رئيس أو مرؤوس إلا وعاد إليه فهجاه، ولذلك قلّت فائدته من قول الشعر وتحاماه
الرؤساء وكان سبباً لوفاته.