العرفان النظري
علم العرفان
أشرنا إلى أنّ العرفان النظري جزء من علم العرفان وهو يدرس أحوال الواجب تعالى من حيث أسماؤه وصفاته وتجلّياته وكيفية العلاقة بينها وبين الله تعالى، حيث يُتوقّع من العرفان النظري تقديم نظرية تبيّن تلك الأمور, لذلك سنحاول في هذا الفصل الإطلالة على مجموعة من العناوين ذات العلاقة.
عدد الزوار: 470
أشرنا إلى أنّ العرفان النظري جزء من علم العرفان وهو يدرس أحوال الواجب تعالى من
حيث أسماؤه وصفاته وتجلّياته وكيفية العلاقة بينها وبين الله تعالى، حيث يُتوقّع من
العرفان النظري تقديم نظرية تبيّن تلك الأمور, لذلك سنحاول في هذا الفصل الإطلالة
على مجموعة من العناوين ذات العلاقة.
الرؤية الكونية العرفانية
المقصود من الرؤية الكونية العرفانية، النظرية التي يقدّمها العرفاء، والتي تفسّر
رؤيتهم لله تعالى والعالم والإنسان، بالاعتماد على المعرفة القلبية والشهودية،
وكذلك بالاعتماد على المعرفة العقلية الاستدلالية، وهذا ما نشاهده بوضوح في أفكار
القيصري وابن تركة.
وبما أنّ العرفاء يعتقدون بأنّ الوجود لله فقط، وأنّه هو الموجود والوحيد الذي يصح
أن يُطلق عليه هذا المفهوم، وأنّ كافة ما سواه ما هي إلا تجلّيات ومظاهر لله تعالى،
فالرؤية الكونية العرفانية تبدأ من مسألة وحدة الوجود.
لقد بنى العرفاء كافة أفكارهم على نظرية الوحدة الشخصية للوجود واعتبارية الكثرات.
وبهذا المعنى يكون وجود الله تعالى هو الوجود والموجود الحقيقي والوحيد وما سواه
ليس إلا ظلاً وتجلياً الله تعالى. ثمّ إنّ العرفاء يتحدثون عن بعدين عند حديثهم عن
ذات الإله: الأوّل هو كنه الذات التي لا يمكن إدراكها، الخفيّة على كلّ ما سواه،
والثاني البعد الظاهر الذي يقبل التجلّي، وهو الذي يمكن معرفته وإدراكه للبشر.
أمّا في ما يتعلّق بإثبات الوحدة الشخصية للوجود، قدّم العرفاء أبحاثهم على نحوين:
الأوّل: إثبات الوحدة الشخصية عن طريق الكشف والشهود، والثاني: عن طريق الاستدلال
والبرهان العقلي.
الأوّل: هو سيرة أكثر العرفاء الذين يعتقدون
بأنّهم وصلوا إلى هذه المرحلة من التوحيد عن طريق الكشف والشهود. وبعبارة أخرى
يعتقد العرفاء بأنّ مَنْ نوّر الله بصيرته يرى أن ليس في الوجود إلا الله، وكلّ ما
عدا ذلك فهو سراب وتجلّ1.
الثاني: أي طريق الاستدلال العقلي، فقد قدّم
بعض العرفاء أدلّة برهانية لإثبات أنّ الوجود لا يمكن أن يكون إلا الواجب، وبما أنّ
الواجب واحد فالوجود كذلك. طبعاً العرفاء يعتقدون بأنّ الطريق الأوّل لإثبات الوحدة
الشخصية للوجود هو الأكثر قدرة على إيجاد اليقين، فهو كافٍ في الإيمان بهذه الرؤية،
وأما الطريق الثاني فهو لمن لم يتمكن من الاستفادة من مشاهدات العرفاء، بل هو للذين
حصروا معرفتهم بالعقلية فقط2.
نظرة العارف إلى الوجود
إنّ كلمة "الوجود" هي أهمّ العبارات عند العرفاء أوضحها على أساس أنّ كافّة
نظرياتهم من دون استثناء تتمحور حوله، وهو عندهم الحقّ تعالى. ويوضح العرفاء أنّ
الوجود بديهي وواضح بحيث لا يحتاج الإنسان إلى دليل للقبول به، بل هو أمر بديهي
مقبول عند كافة العقول السليمة. ثمّ يبيّنون أنّ هذا الوجود واحد، بمعنى أنّه يطلق
على كافّة الأشياء بمعنى واحد.
من جهة أخرى فإنّ كلّ ما سوى الله تعالى ظلّ وتجلٍّ له، فوجوده وظلّيته تابعة لوجود
الحقّ تعالى3.
يتحدّث العرفاء حول أحكام الوجود، وهي على النحو الآتي:
1- الوجود بديهي، وليس هناك ما هو أوضح منه، ولا يحتاج إلى
دليل لإثباته.
2- ليس للوجود سوى مصداق واحد، هو الحقّ تعالى.
3- إنّ كلّ كمال وخير يعود إلى الوجود, إذ لولاه لما ظهر الكمال والخير.
4- ليس للوجود الواحد مراتب، بعضها قوي وبعضها ضعيف.
5- الوجود مساوٍ للوحدة.
6- الوجود مساوٍ للوجوب4.
نظرة العارف إلى العالم
العالم عند العرفاء عبارة عن كلّ ما يعلم به الله تعالى, لأنّ العالم مأخوذ من
العلامة، وهي التي بها يعلم الشيء5. وبهذا المعنى يصبح كلّ ما هو موجود
في العالم من مظاهر وتجلّيات علامات تدلّ على الله تعالى، فهي عوالم.
يتحدّث العرفاء عن عالمين، الكبير والصغير. والعالم الصغير هو الوجود الإنساني الذي
استحقّ الخلافة الإلهية، والعالم الكبير هو الإنسان الكبير، أي الكون. فالكون خلق
على شاكلة الإنسان الصغير, لأنّ الصغير خليفة الله والمظهر الأول والتجلي الأكمل6.
وللعالم في الرؤية العرفانية خصائص، أبرزها:7
1- العالم مرآة وآية: إنّ العالم مخلوق للحقّ
تعالى، ومنه استمدّ كافة كمالاته، فهو يحكي عن كمالات الحقّ ويدلّ عليها, لذلك كان
مرآة لكمالات الحقّ وعلامة تدلّ عليها.
2- نظام العالم هو الأحسن: بما أنّ العالم ظلّ
الله ومظهر أسمائه، وبما أنّ كلّ اسم من الأسماء هو الاسم الأحسن بحكم الأسماء
الإلهية الحسنى، فالنظام في العالم هو الأحسن. وإلى هذا يشير ابن عربي عندما يبيّن
أنّ الحقّ تعالى إذا كان يشكل هويّة العالم، فأحكام وصفات العالم ليست إلا منه
تعالى، وعلى هذا الأساس فليس من الممكن وجود عالم أعلى وأجمل منه, لأنّ هذا العالم
ظلّ الرحمان8.
3- سريان الحياة والشعور في العالم: يعتقد
العرفاء أنّ العالم وكافة أركانه أعمّ من الجماد والنبات والحيوان أو غير ذلك تمتلك
حياة وشعوراً. وهذه حقيقة يمكن فهمها بواسطة الكشف بداية، وبهذا نطقت الآيات
الشريفة التي تحدّثت عن تسبيح كافة الموجودات9.
يتحدّث العرفاء عن خمسة عوالم أساسية، مع اعتقادهم بأنّ العوالم لا تتناهى, لأنّ
العلامات التي تدلّ على الحقّ تعالى لا تتناهى، والسبب في كونها خمسةً أنّه يمكن
جمعها على سبيل التقريب, أي إنّ الاستقراء يبيّن أنّ الأنواع التي تندرج تحتها
العوالم خمسة فقط.
والمقصود أنّ العالم الذي هو العلامة، يدلّ على الحقّ تعالى, فيطلق على ما تدلّ
عليه العلامة الحضرة، وهذا يعني أنّ الحضرات الخمس هي الإله في ظهور وتعين خاصّين.
وأما الحضرات والعوالم فهي:
1- حضرة الناسوت،
وعالمها عالم الأجسام والمواد.
2- حضرة الملكوت، وعالمها عالم المثال.
3- حضرة الجبروت، وعالمها عالم المجرّدات من
العقول والنفوس.
4- حضرة الواحدية، وعالمها عالم الأعيان
الثابته.
5- الحضرة الجامعة، وعالمها الإنسان الكامل.
نظرة العارف إلى الإنسان
يحتلّ الإنسان موقعاً هامّاً للغاية في الرؤية العرفانية تميّزه عن باقي التجلّيات
والمظاهر. يعتقد العرفاء أنّ الإنسان الكامل يحتلّ موقعاً أرفع وأعلى من كافة
العوالم, إذ إنّه الجامع لكافة كمالات العوالم الأربعة الأخرى.
الإنسان الكامل، إنسان نوعي وأكمل تجلّيات الحقّ، وهو الموجود، والذي سجدت الملائكة
له. وهو الذي يظهر في عالم الناسوت على شكل إنسان خارجي. من جهة أخرى، فإنّ الاسم
الأعظم الإلهي، جامع لكافة صفات الحقّ تعالى، ومظهر الحقّ يجب أن يكون جامعاً لكافة
كمالات المظاهر، وعليه فالإنسان الكامل إذا كان مظهر الاسم الأعظم فيجب أن يمتلك
كافة كمالات المظاهر10.
ويمتاز الإنسان الكامل بخصائص:
1- الجامعية: وقد تقدّم أنّه مظهر الاسم الأعظم
الجامع لكافة صفات الكمال.
2- الوساطة: يعتقد العرفاء أنّ الإنسان الكامل
هو أوّل مظهر للحق، تعالى, لأنّه خليفة الله، ولهذا فهو أكمل الموجودات، وهو واسطة
في فيضانها عن الحقّ.
3- الخلافة: الإنسان الكامل، وعلى أساس أنّه
التعيّن الأوّل، هو المظهر الوحيد الذي يستحقّ الخلافة الإلهية. ومن حيث خلافته
الإلهية يمكنه التصرف في العالم بواسطة الأسماء الإلهية التي علمه الله إياها.
4- الاختيار: يعتقد العرفاء أنّ الإنسان من
بين كافة موجودات العالم مظهر إرادة واختيار الحقّ تعالى، ومنشأ اختياره ليست سوى
كونه مظهراً لأسماء الله بالأخصّ المريد والمختار11.
* كتاب علم العرفان، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- راجع: ابن عربي الفتوحات
المكية، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ج 3، ص 247.
2- المصدر نفسه، ص 17 ـ 18.
3- راجع: شرح فصوص الحكم، المقدمة، ص12
4- رحيميان، سعيد، مباني عرفان نظري، ص 113 ـ 114.
5- شرح فصوص الحكم، المقدمة، ص 89.
6- المصدر نفسه، ص 91.
7- رحيميان، سعيد، مباني عرفان نظري، ص 222 ـ 225.
8- ابن عربي، محي الدين، فصوص الحكم، الفص الأيوبي.
9- شرح فصوص الحكم، المقدمة، ص 90.
10- المصدر السابق.
11- مباني عرفان نظري، ص 242 ـ 248.