المدارس الفقهيـّة الشيعيـّة (2) قمّ والريّ
علم الفقه
يبتدئ هذا العصر من الغيبة الكبرى، والربع الأوّل من القرن الرابع إلى النصف الأوّل من القرن الخامس.في هذه الفترة انتقلت حركة التدريس والكتابة والبحث إلى مدينتيّ قمّ والريّ1، وظهر فيهما شيوخٌ كبارٌ من أساتذة الفقه الشيعيّ
عدد الزوار: 272
المدارس الفقهيـّة الشيعيـّة (2)
قمّ والريّ
نشأة مدرسة قمّ
يبتدئ هذا العصر من الغيبة الكبرى، والربع الأوّل من القرن الرابع إلى النصف الأوّل
من القرن الخامس.
في هذه الفترة انتقلت حركة التدريس والكتابة والبحث إلى مدينتيّ قمّ والريّ1،
وظهر فيهما شيوخٌ كبارٌ من أساتذة الفقه الشيعيّ،كان لهم الأثر الأكبر في تطويره.
فقد كانت (قمّ) منذ أيّام الأئمّة عليهم السلام من أمّهات المدن الشيعيّة، وحصناً
من حصون التشيّع، وعشّاً لآل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وموضع عناية خاصّة من
أهل البيت عليهم السلام.
وكانت (الريّ)- وهي قريبةٌ من (قمّ)- في هذا التاريخ بلدةً عامرةً بالمدارس
والمكاتب، وحافلةً بالعلماء والفقهاء والمحدّثين.
أسباب الانتقال
من أبرز أسباب انتقال مدرسة أهل البيت عليهم السلام من الكوفة إلى إيران، هو الضغط
الشديد الذي كان يلاقيه فقهاء الشيعة وعلماؤهم من العباسيّين، فقد كانوا يطاردون
كلَّ من يظهر باسم الشيعة بمختلف ألوان الأذى والتهمة، ممّا جعل فقهاء الشيعة
وعلماؤها ينتقلون إلى قم والريّ، ووجدوا في هاتين البلدتين ملجأً آمناً يطمئنّون
فيه لنشر فقه وحديث أهل البيت عليهم السلام، وكانتا تحت حكومة سلاطين آل بويه،
الذين عُرفوا في التاريخ بنزعتهم وولائهم للتشيّع.
ازدهار المدرسة
ويظهر أنّ (قم) في عصر الغيبة، وعهد نيابة النواب الأربعة، كانت حافلةً بعلماء
الشيعة وفقهائها، ومركزاً فقهيّاً كبيراً من مراكز البحث الفقهيّ، يعتمد على
فقهائها حتّى أمثال الحسين بن روح. ويدلّل على ذلك روايةٌ تاريخيّة ذكرها الشيخ في
كتاب الغيبة وهي: "أنفذ الشيخ حسين بن روح (رضي الله تعالى عنه) كتابَ التأديب
إلى (قم)، وكتب إلى جماعة الفقهاء بها وقال لهم: انظروا ما في هذا الكتاب، وانظروا
هل فيه شيءٌ يخالفكم، فكتبوا إليه: إنّه كلّه صحيحٌ، وما فيه شيءٌ يخالف إلا قوله:
(في) الصاع في الفطرة نصف صاعٍ من طعام، والطعام عندنا مثل الشعير من كلّ واحدٍ صاع"2.
ويكفي للدلالة على ضخامة مدرسة قم في هذا العصر ما ذكره العلامة المجلسيّ
الأوّل محمّد تقيّ رضوان الله عليهفي شرحه لمن لا يحضره الفقيه بالفارسيّة ما
تعريبه: "إنّ في زمان عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه المتوفّى سنة 329 هـ
كان في قم من المحدّثين مائتا ألف رجل"3.
ووصف الحسن بن محمّد بن الحسن القميّ المتوفّى سنة 378 هـ الفترةَ التي نتحدث عنها
قائلاً: "الباب السادس عشر: في ذكر بعض علماء قم، وعدد خواصّهم مائتان وستّة
وستّون، وذكر مصنفاتهم ورواياتهم وبعض أخبارهم"4.
وهذه الكلمات تدلّ على أنّ مدرسة قم كانت في هذه الفترة من أوسع المدارس الشيعيّة
في الفقه والحديث وأضخمها، وكانت تضمّ مئات المدارس والمساجد والمكاتب، وندوات
البحث والمناقشة، ومجالس الدرس والمذاكرة.
أبرز علماء هذه المدرسة ومصنّفاتهم
لقد حفلت مدرسة قم والريّ في القرن الرابع الهجريّ بشيوخٍ كبارٍ في الفقه والحديث.
ونشطت حركة التأليف والبحث الفقهيّ، وتدوين المجاميع الحديثيّة الموسّعة.
نذكر من علماء هذه المدرسة ومصنّفاتهم
1- عليّ بن إبراهيم القميّ شيخ الكلينيّ في الحديث، يقول عنه النجاشيّ: "ثقة في
الحديث ثبتٌ معتمدٌ، صحيح المذهب، سمع فأكثر، وصنّف كتباً،... منها: قرب الإسناد،
وكتاب الشرائع، وكتاب الحيض"5.
2- الشيخ محمّد بن يعقوب الكلينيّ المتوفّى سنة 329 هـ. كان معاصراً لعلي بن الحسين
بن بابويه، والد الشيخ الصدوق، وتوفيا في سنةٍ واحدةٍ، وهي المعروفة عند الفقهاء
تناثر النجوم بسنة (موت الفقهاء).
له كتاب الكافي في الأصول- والفروع. ويعدّ تأليفه أوّل محاولةٍ من نوعها لجمع
الحديث وتبويبه، وتنظيم أبواب الفقه والأصول.
يقول رضوان الله عليهفي مطلع كتابه: "كتابٌ كافٍ يجمع من جميع فنون علم الدين ما
يكتفي به المتعلّم، ويرجع إليه المستر شد، ويأخذ منه من يريد علم الدين، والعمل
بالآثار الصحيحة عن (الصادقين) عليهم السلام "6.
يقول عنه الشيخ المفيد: من أجلّ كتب الشيعة، وأكثرها فائدة7.
3- أبو القاسم جعفر بن محمّد بن جعفر بن موسى بن قولويه، كان من تلامذة الكلينيّ
والراوين عنه، وأستاذ الشيخ المفيد.
قال عنه النجاشيّ: "كان من ثقات أصحابنا وأجلائهم في الحديث والفقه،... وكلّ ما
يوصف به الناس من جميلٍ وفقهٍ وثقةٍ فهو فوقه، له كتبٌ حسانٌ (عدّ منها جملةً
كبيرةً)"8.
4- آل ابن بابويه: من بيوتات الفقه والحديث في (قم)، وموضع عناية خاصّة من الحجّة
القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف ونوّابه، ومن فقهاء الشيعة ومحدّثيهم، وكان
أبرزهم الصدوق الأوّل علي بن بابويه القميّ الذي كان من رؤساء المذهب وفقهائهم
الكبار. يقول عنه العلامة في الخلاصة: "شيخ القمّيين ومتقدّمهم وفقيههم وثقتهم"9.
والابن وهو الشيخ الصدوق محمّد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي أبو جعفر،
قال عنه النجاشيّ: " نزيل الريّ، شيخنا وفقيهنا ووجه الطائفة بخراسان... وله
كتبٌ كثيرةٌ (عدّدها)"10.
دوّن الشيخ الصدوق الابن مجموعته الحديثيّة الكبيرة من لا يحضره الفقيه وهو
الموسوعة الحديثيّة الجامعة الثانية التي ألّفت في الفقه في هذه الفترة بمدرسة قم
والريّ. وقد حاول الصدوق في موسوعته هذه أن يجمع أبعاد الفقه وينظمّه في كتابٍ،
ويجمع ما صحّ لديه من أحاديث فيه، ويجعله في متناول الفقيه، أو في متناول من لا
يحضره الفقيه من العامّة حينما تعرضه مسألةٌ من المسائل، وأحصيت أحاديث الكتاب،
فكانت خمسة آلاف وتسعمائة وثلاثة وستين حديثاً(5963)، وكان الكتاب فتحاً ثانياً في
تدوين الحديث وجمعه بعد تأليف الكافي.
ملامح المدرسة
بلغ النشاط الفكريّ في التأليف والبحث الفقهيّ، وتدوين الأحاديث وجمعها وتنسيقها
غايته في هذه الفترة، وترك لنا ثروةً ضخمةً من أهمّ ما أنتجته مدارس الفقه والحديث
الشيعيّ، ونحن ذاكرون أهمّ ميّزات هذه المرحلة:
1- التوسعة في تدوين الحديث وجمعه: فقد كان تدوين الحديث قبل هذه الفترة- كما أشرنا
إليه في الحديث عن العصر الثاني- لا يتجاوز التدوين الشخصيّ لما سمعه الراوي من
أحاديث من الإمام مباشرةً أو بصورةٍ غير مباشرةٍ، مبعثرةً حيناً، ومنتظمةً حيناً
آخر. ولم يتّفق لأحدٍ من المحدّثين والفقهاء في العصر الثاني أن يجمع ما صحّ في
الأحكام من الأحاديث عن أهل البيت عليهم السلام وينظّم ذلك، كما لوحظ في (الكافي)،
(ومن لا يحضره الفقيه).
وخطوة جمع الأحاديث هذه وتنظيمها تعدّ من ميّزات هذه المدرسة. فقد كثرت حاجة
الفقهاء إلى مراجعة الروايات والأحاديث حين الحاجة، وكانت الأحاديث منتشرةً بصورةٍ
غير منظمةٍ، من حيث التبويب والجمع، في آلاف الكتب والأصول والرسائل التي خلفها
أصحاب الأئمّة ومحدّثو الشيعة. ولم يكن من اليسير بالطبع الإلمام بما ورد من أحاديث
في مسألةٍ لكلّ أحدٍ، فكانت محاولة الجمع والتبويب في هذه الفترة لسدّ هذه الحاجة.
2- ظهور الرسائل الفقهيّة: ففي هذه الفترة ظهر لونٌ جديدٌ من الكتابة الفقهيّة، وهي
الرسائل الجوابيّة. فقد كانت الشيعة تسأل الفقهاء من أطراف العالم الإسلاميّ ما
يعرضها من المسائل بشكل استفسارٍ، فكان الفقهاء يجيبون على هذه الأسئلة، وقد يطول
الجواب، ويستعرض المجيب الأحاديث الواردة في الباب، فيكون من ذلك رسالةٌ جوابيّةٌ
صغيرةٌ في مسألةٍ فقهيّةٍ.
3- تطوّر البحث الفقهيّ: وقد كان لشيوع هذا النحو من الرسائل الفقهيّة دورٌ بارزٌ
في تطوير البحث الفقهيّ في هذه الفترة. فكان الفقيه يدرس المسألة، وقد يلقيها على
طلابه في مجلس الدرس، ويستعرض ما ورد فيها من أحاديث، فكانت نقطة انطلاقٍ للرأي
والنظر.
لكن مع ذلك كان البحث الفقهيّ يقضي مراحل نموّه الأوليّة في هذه الفترة، لأنّ
الرسائل الفقهيّة لم تتجاوز عرض الأحاديث من غير تعرّض للمناقشة والاحتجاج ونقد
الآراء وبحثها، وتفريع فروعٍ جديدةٍ عليها. ولم يتجاوز البحث الفقهيّ في الغالب
حدود الفروع الفقهيّة المذكورة في حديث أهل البيت عليهم السلام، ولم يفرغ الفقهاء
بصورةٍ كاملةٍ لتفريع فروعٍ جديدةٍ للمناقشة والرأي.
4- تطوّر عبارة الفتوى الشرعيّة نسبيّاً: حيث كانت الفتاوى في الغالب عبارةً عن
نصوص الأحاديث مع إسقاط الإسناد وبعض الألفاظ في بعض الحالات.
فلاحظ رسالة علي بن بابويه القميّ إلى ولده الصدوق يذكر فيها فتاواه. وما كتبه
الصدوق كالمقنع والهداية. وما كتبه جعفر بن محمد بن قولويه وغيرهم من هذه الطبقة.
الخلاصة
مدرسة قم والريّ:يبتدئ هذا العصر من الغيبة الكبرى، والربع الأوّل من القرن الرابع
إلى النصف الأوّل من القرن الخامس.
في هذه الفترة انتقلت حركة التدريس والكتابة والبحث إلى مدينتيّ قم والريّ، وظهر
فيها شيوخٌ كبارٌ من أساتذة الفقه الشيعيّ، كان لهم الأثر الأكبر في تطويره.
أهمّ ميّزات هذه المرحلة:
1- التوسعة في تدوين الحديث وجمعه.
2- ظهور الرسائل الفقهيّة.
3- تطوّر البحث الفقهيّ.
4- تطوّر عبارة الفتوى الشرعيّة نسبيّاً.
* علم الفقه, سلسلة مداخل العلوم , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- الريّ: منطقةٌ في جنوب طهران،
دفن فيها الكثير من علماء التشيّع، أبرزهم الشاه عبد العظيم الحسنيّ والشيخ الصدوق.
2- الطوسيّ (ت: 460 هـ): الغيبة، تحقيق: عباد الله الطهرانيّ،وعلي أحمد ناصح،
منشورات مؤسّسة المعارف الإسلاميّة، قم ـ إيران، ط. الأولى 1411 هـ، ص 390.
3- الصدوق(ت: 381 هـ): الغيبة، تحقيق وتقديم: محمّد صادق بحر العلوم، منشورات
المكتبة الحيدريّة ومطبعتها، النجف الأشرف ـ العراق، ط. 1385 هـ مقدّمة محقّق
الكتاب ص 3.
4- الميرزا النوريّ (ت: 1320 هـ): خاتمة مستدرك الوسائل، منشورات وتحقيق: مؤسّسة آل
البيت عليهم السلام لإحياء التراث، قم ـ إيران ط. الأولى 1415 هـ ج 4 ص 486.
5- النجاشي (ت: 450 هـ): رجال النجاشي، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة
المدرّسين، بقم المشرفة ـ إيران، ط. الخامسة 1416 هـ، الرقم 680 ص 260.
6- الكليني: (ت: 329 هـ): الكافي، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، دار الكتب
الإسلاميّة، طهران ـ إيران، ط. الثالثة 1363 هـ ش. ج1 خطبة الكتاب ص 8.
7- المفيد (ت: 413 هـ): تصحيح اعتقادات الإماميّة، تحقيق: حسين دركاهي، منشورات دار
المفيد للطباعة والنشر، بيروت ـ لبنان، ط. الثانية 1414 هـ ص 70.
8- النجاشي (ت: 450 هـ): رجال النجاشي، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة
المدرّسين، بقم المشرفة ـ إيران، ط. الخامسة 1416 هـ، الرقم 318 ص 124.
9- النجاشي (ت: 450 هـ): رجال النجاشي، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة
المدرّسين، بقم المشرفة ـ إيران، ط. الخامسة 1416 هـ، الرقم 648 ص 261.
10- النجاشي (ت: 450 هـ): رجال النجاشي، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة
المدرّسين، بقم المشرفة ـ إيران، ط. الخامسة 1416 هـ، الرقم 1049 ص 389.