يتم التحميل...

التقوى

محاضرات رمضانية

الحمد لله الذي لا مقنوطٌ من رحمته، ولا مخلوٌّ من نعمته، ولا مُؤيَسٌ من روحه، ولا مستنكَفٌ عن عبادته، بكلمته قامت السماواتُ السبع، واستقرَّت الأرض المهاد، وثبتت الجبال الرّواسي، وجرت الرياح اللواقح، وسار في جو السماء السحاب،

عدد الزوار: 373

بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله الذي لا مقنوطٌ من رحمته، ولا مخلوٌّ من نعمته، ولا مُؤيَسٌ من روحه، ولا مستنكَفٌ عن عبادته، بكلمته قامت السماواتُ السبع، واستقرَّت الأرض المهاد، وثبتت الجبال الرّواسي، وجرت الرياح اللواقح، وسار في جو السماء السحاب، وقامت على حدودها البحار. نحمده كما حمد نفسه وكما هو أهله، ونستعينه ونستغفره ونصلي على أشرف خلقه محمد وآله الأطهار.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ .

تحدّد الآية الكريمة غاية الصوم بأنّها التقوى التي هي:

أ- معيار الأفضل عند الله تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ .

ب- جاذبة الحبّ الإلهي: ﴿ فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ

ج- أجمل ثوب إنساني: ﴿ وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ .

د- براقُ الإنسان إلى الغاية العليا: ﴿ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .

والتقوى التي من خلالها نُحافظ على مكتسبات شهر رمضان هي صاحبة مفهوم دفاعي يعني المنعة والتحصين في مواجهة الشيطان الذي يقوم في حربه مع الإنسان بنوعين من الأدوار:

أ- منع.

ب- وإسقاط منعة.


فالدور الأول وهو المنع يحاول به الشيطان أن يمنع الإنسان من التكامل والتطوّر، فإذا انتصر الإنسان على الشيطان في هذه المرحلة واكتسب خيراً وتكامل في مساره يأتي:

الدور الثاني للشيطان الذي يحاول به أن يُفقد الإنسان مناعة المحافظة على مكتسباته.

وهنا تأتي أهمية التقوى التي هي غاية رسالة الصوم.

فالتقوى بمعنى المنعة، والصوم هو مدرسة صناعة هذه المنعة في وجه الشيطان.والشيطان لا يقتصر على شيطان الجن، فإن شياطين الإنس يسيرون في نفس مسار إبليس.

رحم الله الإمام الخمينيقدس سره الذي طالما استخدم مصطلح الشيطان على قوى الاستكبار العالمي فسمّى أمريكا بالشيطان الأكبر وإسرائيل بالشيطان الأصغر؛ وذلك لأنَّ دور قوى الاستكبار العالمي ليس فقط حروباً خشنة تُخاض من خلال حروب عسكرية بل هناك حروب ناعمة قد تكون في بعض جوانبها أكثر خطراً من تلك الحروب، وهدفهم هو ما ذكرته:

- منع التطور
- إسقاطه إن حصل

وقد استطاعوا لفترة طويلة من القرن العشرين أن يحقّقوا نتائج واسعة في هذا الإطار، فمنعوا أن تُضاء مشاعل الأمل، وإذا أُضيئت شعلة منها حاولوا أن يطفئوها، كما حاولوا في عام 1979 إطفاء شمعة رفع الحرمان ومقاومة الصهاينة من خلال اختطاف القائد الرؤيوي المقاوم الإمام السيد موسى الصدر عبر مؤامرة نفّذها الطاغية اللعين معمّر القذّافي.

لكن ما صدمهم بعد أشهر قليلة هو ثورة الإمام الخمينيقدس سره المباغتة التي فاتهم منعها فعملوا على إسقاطها بشتّى الوسائل عسكرياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً، لكنّها صمدت بوجه ذلك كلّه والسبب الأساس -تحت عين الله تعالى- هو أمران:

الأول: أنها اعتمدت على المنهج الإسلامي الإيماني الذي يقوّي من عزيمة الناس ومنعتهم.

كان الإمام الخمينيقدس سره في أحلك الظروف الاقتصادية يتحدّث عن دور مدرسة شهر رمضان في تحقيق منعة الناس فيقول: "نحن قوم اعتدنا أن نصوم في السنة شهراً، ونحن مستعدون أن نصوم كل السنة ولا نرضخ لأعداء الله".

الثاني: أنها اعتمدت على قبول الشعب لمبادئ الثورة ومواكبته الدائمة لمسارها عبر الاستفتاءات والانتخابات.

بهذين الأمرين -تحت عين الله تعالى- صمدت الجمهورية الإسلامية في إيران بل تطوّرت وتطوّرت حتى وصلت المستوى الريادي الذي نشهده اليوم. وقد أقلق هذان الأمران الكثير من الممالك والإمارات والدول في المنطقة خوفاً على العروش والكراسي من إيمان يجذب، وشعب يستيقظ، اليقظة التي دعا إليها الإمام الخمينيقدس سره.

فعند اغتيال السادات دعا الإمام الخميني شعب مصر إلى الاستفادة من هذه الفرصة ليعبِّر عن إرادته الحرَّة في رسم مسار بلاده، معلناً أنّ الشعب قادر على تحقيق النصر، وإن لم يفعل فإنه يحتاج إلى سنوات طويلة.
ومرّت السنون والشعوب ترى تلك التجربة الناجحة تمتثل أمامهم والتي واكبها مقاومة في لبنان استمدت نورها من نفس فيض الإمام الخمينيقدس سره، مقاومةٌ انصهر فيها المجاهدون مع مجتمعهم فاستطاعوا تحت عين الله أن يحقّقوا النصرين في الـ 2000 و 2006.

إنّ مواكبة الشعوب في المنطقة لتجربة الدولة الإيمانية الشعبية الناجحة زاد من تطلِّعهم نحو مستقبل مشرق يحقّق طموحهم ويخرجهم من حالة الذلّة والهوان التي طالما شعروا بها، إلا أن حاجز خوف مصطنع كان يمنعهم من المسير.

وجاءت حرب تموز لتعيد انتصار ذات المسلم والعربي على ذاته المقهورة، وتكسر ذلك الحاجز الموهوم، فكانت الثورات العربية. وهنا لم يستطع الشيطان الأكبر أن يمنعها فدخل في النوع الثاني في أسلوبه الشيطاني بأن يسقطها ولو إسقاطاً ناعماً. كما حاول ويحاول أن يستغل تلك العناوين الجذّابة من الحرية وغيرها، ليقضي على منعة بعض الدول التي وقفت أمام مشروعه مستغلاً نقاط ضعفٍ في هذه الدول.

اليوم نحن مع ثورة قام بها الشعب المصري نأمل أن تعيد مصر إلى موقعها الريادي في منعة الأمة وتقدّمها، محصِّنة لها من ضغوطات سياسة الاستكبار العالمي وأموال الملوك والأمراء، لعلّ ما حصل من موقف مصري أخير تزامن مع عملية المقاومة الفلسطينية النوعية يضيء شعلة أمل في ذلك.

كما نشهد اليوم ثورة ليبيا على الطاغيّة المعمِّر "ليزدادوا اثما" ، والتي نأمل أن يكون من يقودها في المستقبل هو وعي الشعب الليببي من المؤامرة الدولية من الناتو وغيره والذين لم يقوموا بما قاموا به لخدمة الإنسانية أو لحبّ هذا الشعب، بل لأجل مطامع في هذه الدولة الغنية بثرواتها النفطية، ولأجل إحكام قبضتهم على شعوب المنطقة في خدمة مشاريعهم.

كما نأمل أن تنتج هذه الثورة الجواب القطعي الذي انتظرناه عشرات السنين حول مصير إمام المقاومة المغيَّب السيد موسى الصدر.

وفي مقابل هذه الثورات وعلى نفس القاعدة الشيطانية حاول الاستكبار العالمي أن يُسقط النموذج الراقي المحرِّك لشعوب المنطقة وهو دولة إيران الإسلام وفشل ببركة ولاية الإيمان ويقظة الشعب.

كما يحاول اليوم وبشعارات برَّاقة أن يقضي على منعة سوريا بإرضاخها لفكّ ارتباطها بإيران والمقاومتين اللبنانية والفلسطينية.

كما حاول الاستكبار أن يُسقط النموذج الراقي الذي أحيا نفوس الشعوب وأرشدها إلى مكامن قوّتها ألا وهو المقاومة في لبنان من خلال المحكمة الدولية. وهو أيضاً فشل في ذلك بسبب المواكبة الإلهية وتلك اليقظة المباركة، حتى أصبحت المحكمة الدولية اليوم لا يتعدّى مفعولها حبر أوراق الصحف، وأثير ألسنة المذيعين.

في عيد الفطر وكمجتمع مقاومة ينبغي لنا أن نلتفت إلى أمرين هامين في حياتنا:

الأول: أن نشكر الله تعالى على ما منّ به علينا من عزٍّ وكرامةٍ في الوطن والأمة بفضل إخلاص المجاهدين وصبرهم ومصابرة مجتمعهم، وبفضل جهوزية المجاهدين، وسلاح المقاومة التي تسير على قاعدة سنَّها النبيّ(ص) "من استوى يوماه فهو مغبون" فالمقاومة اليوم أقوى مما كانت عليه في السابق، ونحن بسبب هذا الإخلاص والجهوزية والسلاح نعيش بإبائنا وعزّتنا وكرامتنا.

بل نحن ننظر إلى اليوم الذي يخطئ فيه الصهاينة في شنِّ حرب على لبنان بأنّه اليوم الذي سينظر العالم كلّه إلى أبناء الإمام علي بن أبي طالبعليه السلام كيف يقتلعون باب خيبر ويحقّقون عزّاً لم يسبق للأمّة أن نالته.

الثاني: يتعلّق بالمحافظة على مكتسباتنا التي أنعم الله تعالى بها على مجتمعنا بفضل المقاومة. وهذا ما يتحقّق من خلال مقاومةٍ من نوع آخر ضدّ الحرب الناعمة التي يخوضها الأعداء مركِّزاً فيها على مجتمع المقاومة، لا سيّما شريحة الشباب الذين يشكِّلون العمود الفقري للمقاومة. حرب رصاصها حبوب مخدِّرات، وطائراتها صحون لاقطة لفساد تنشره في مجتمعنا، وهذا ما يجب أن نكون يقظين واعين متحمّلين للمسؤولية في أنفسنا وأبنائنا وإخوتنا وجيراننا وأصدقائنا ومدارسنا وجامعاتنا.

وأن نستعين لذلك كلّه بالدعاء لله تعالى.

اللهم عجِّل فرج وليِّك الأعظم واجعلنا من أنصاره ومن المستشهدين بين يديه،
اللهم احفظ وليّ أمرنا الإمام الخامنئي دام ظله حتى ظهور وليك،
اللهم احفظ سيد المقاومة وأعزَّه بعزَّك وسدِّده بتسديدك،
اللهم ارحم شهداءنا لا سيما السيِّد عباس والشيخ راغب والحاج عماد،
اللهم أعز مجاهدينا بعزِّك.
اللهم و ما ألممنا به في شهرنا هذا من لمم أو أثم، أو واقعنا فيه من ذنب واكتسبنا فيه من خطيئة على تعمد منا، أو على نسيان ظلمنا فيه أنفسنا، أو انتهكنا به حرمة من غيرنا، فصل على محمد وآله، واسترنا بسترك، واعف عنا بعفوك.


وبارك لنا في يوم عيد فطرنا واجعله من خير يوم مرَّ علينا أجلَبَه لعفو وأمحاه لذنب.

يا أكرم من رُغِبَ إليه وأكفى من توكّل عليه صلِّ على محمد وآل محمد وعجِّل فرجهم الشريف.


والحمد لله ربّ العالمين.


* سماحة الشيخ أكرم بركات

2015-07-11