السنن المرتبطة بالنصر(1) - سنّة التداول
النصر الإلهي
النصر كما تقدّم نعمة إلهيّة محكومة بمجموعة من الشروط. وهو سنّة وقانون إلهيّ. والحالة المعاكسة للنصر وهي الهزيمة تخضع أيضًا لقوانين تنطبق على من لا يوفِّرون شروط النصر ولا يؤمّنون مقدّماته الضروريّة واللازمة.
عدد الزوار: 319
موعظة قرآنية
﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ
الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ
وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾1.
مقدّمة
النصر كما تقدّم نعمة إلهيّة محكومة بمجموعة من الشروط. وهو سنّة وقانون إلهيّ.
والحالة المعاكسة للنصر وهي الهزيمة تخضع أيضًا لقوانين تنطبق على من لا يوفِّرون
شروط النصر ولا يؤمّنون مقدّماته الضروريّة واللازمة. وإذا لم يتحقّق النصر فلا بدّ
أن يتحقّق شيء آخر محلّه وهذا الشيء الآخر بدوره لا يحصل بالصدفة ودون قوانين تحكمه.
ففي الكون الذي خلقه الله تعالى لا شيء يحصل صدفة:
﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ
عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾2. ويقول عزّ
وجلّ:
﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا
وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ
تَقْدِيرًا﴾3,
إذًا لا محلّ للفوضى والخلل في نظام الوجود الصادر عن الحكيم القادر
والمقدّر.
النصر مشروط بالمبادرة
وبناء على هذا يضحي من الطبيعيّ أن نطرح السؤال الآتي: إذا لم يستفد الإنسان من
سنّة النصر ولم يحقّق الشروط الواجب تحقّقها لنيله النصر وانطباق قوانينه عليه، فما
هي السنّة أو السنن الأخرى التي تطلّ برأسها وتنطبق على الإنسان فتخضعه لها؟
وبعبارة أخرى: إحدى الصياغات القانونيّة التي عبّر بها عن النصر هي:
﴿يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾4. وهذه الجملة التي أخبرنا الله بمقتضاها عن النصر تدلّ على أنّ النصر مشروط
بالمبادرة وبالنهوض بأعباء المسؤوليّة، فإذا لم يتوفّر الشرط، تصدق القاعدة التي
يذكرها علماء الأصول عندما يقولون: "المشروط عدمٌ عند عدم شرطه". ومن هنا ينفتح باب
البحث عن السنن والقوانين الأخرى التي تنطبق على الإنسان، ومن هذه السنن سنّتا:
التداول، والاستبدال. وهذا ما سوف نبدأ بالحديث عنه فيما يأتي.
سنّة التداول
يمكن إثبات وجود مثل هذه السنّة من آيات عدّة من القرآن الكريم. سوف نعرض لها
لاحقًا ولكن نبدأ أوّلًا بالحديث عن معنى التداول في اللغة وفي المصطلح القرآنيّ
العامّ، ثمّ ندلف إلى البحث عن المعنى الذي تفيده الآية التي تقّرر سنّة التداول.
التداول في اللغة
المادّة الأصلية لهذه الكلمة هي الحروف الثلاثة الآتية: الدال والواو واللام. ومنها
اشتُقّ عدد من الكلمات تحوي جميعًا هذا المعنى مع زيادات تتفاوت باختلاف الاشتقاق.
تداول القومُ الشيءَ تداولًا هو حصوله في يد هذا تارةً وفي يد هذا أخرى... ودالت
الأيّام تدول، مثل دارت تدور، وزنًا ومعنًى5. ويقول صاحب مقاييس اللغة: دول أصلان،
أحدهما يدلّ على تحوّل شيء من مكان إلى آخر، والآخر يدلّ على ضعفٍ واسترخاء. فأمّا
الأول فقال أهل اللغة: اندال القوم إذا تحوّلوا من مكان إلى مكان. ومن هذا الباب
تداول القوم الشيء بينهم: إذا صار من بعضهم إلى بعض. والدَّولة والدُّولة لغتنان،
وإنّما سُمّيا بذلك من قياس الباب, لأنّه أمرٌ يتداولونه فيتحوّل من هذا إلى ذاك
ومن ذاك إلى هذا"6. ويقول صاحب المصطفوي: الأصل الواحد في هذه المادّة هو الانتقال
مع حصول تحوّل في الحالة والكيفيّة، وهذا الأصل له مصاديق: فمنها انتقال مال من
مورد إلى آخر، مع تغيّر فيه من جهة وأقلّه تبدّل مالكه. ومنها انتقال جند من مكان
إلى مكان آخر للخصم مع تحوّل من جهة الغالبيّة والمغلوبيّة... ومنها انتقال النبت
من مقام النضارة إلى مقام اليبس والجفاف..."7.
وبناء على هذا المعنى اللغويّ يمكن تفسير التداول في الساحة الاجتماعيّة، بانتقال
الغلبة والتفوّق من جماعة إنسانيّة إلى جماعة أخرى وفق شروط وضوابط يمكن البحث عنها
من زوايا عدّة، ووفق منهجيّات علميّة متنوّعة. وما يعنينا فعلًا هو البحث عنها من
وجهة نظرٍ دينيّة قرآنيّة وحديثيّة.
التداول في القرآن الكريم
في القرآن الكريم آيات عدّة تفيد هذا المعنى بعضها أوضح من بعض وفيما يأتي أهمّ
الآيات التي تفيد هذا المعنى:
- قال الله تعالى:
﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ
مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ
الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ﴾8.
- قال الله تعالى:
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن
تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن
تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾9.
قال الله تعالى:
﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن
يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ
لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ
اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ
عَزِيزٌ﴾10.
قال الله تعالى:
﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ
الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ﴾11. وغيرها من الآيات التي تتحدّث عن توريث الله الأرض ونقلها من
أشخاص إلى آخرين ومن جماعة بشريّة إلى جماعة أخرى. ولنكتفِ بهذا المقدار من الآيات،
على أن نتّخذ من الآية الأولى مثالًا نموذجيًّا لتحليله واستفادة الدروس والعبر
المحيطة بسنّة التداول منها.
تحليل آية
﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْح﴾ والعبر المستفادة منها تشتمل الآية الكريمة
على مجموعة من الدروس والعبر المستفادة يمكن استعراض أهمّها فيما يأتي:
إنّ الله لا يضمن بقاء الأحوال على ما هي عليه لأحدٍ من الناس فالدنيا دار عمل
وتضحية وليست دار نعيم مقيم، فالنعيم الدائم والخلود موطنه الآخرة فقط. أمّا الدنيا
فهي دار عملٍ وعناءٍ. وبالتالي يتساوى المؤمنون وغيرهم في الخضوع للقوانين التي
تحكم حركة المجتمعات الإنسانيّة.
- النصر والهزيمة ليس أيٌّ منهما قدرًا لازمًا، فإذا انتصر المسلمون عليهم أن لا
يغترّوا بهذا النصر ولا يغفلوا عن قدرة الله على إدالة السلطة منهم إلى غيرهم. وإذا
انهزموا فعليهم أن يسمحوا لليأس بأن يعشّش في قلوبهم فالله قادرٌ على تحويل موازين
القوى مرّةً أخرى. وخاصّةً أنّ سنّة التداول تقضي في نهاية المطاف بأن يؤول الأمر
إلى انتصار الحقّ على الباطل وإن ربح الباطل جولة من الجولات:
﴿وَنُرِيدُ أَن
نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً
وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾12. ومن هنا يلفت الله تعالى نظر الناس إلى أنّ الأمر
وصل إليهم بعد أن أفلت شمس أممٍ سبقتهم:
﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي
الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾13.
يعطي قانون التداول للمسلمين وللحركات الاجتماعيّة التي تنشط في أوساطهم الحق
بإعادة النظر في الأدعياء الذين يسقطون في منتصف الطريق عند أوّل امتحان وهو
التمحيص الذي تشير إليه الآية. وفي هذا السياق يقع الكلام المنسوب إلى الإمام
الحسين عليه السلام حيث يقول: "إنَّ النّاسَ عَبِيدُ الدُّنْيا وَالدِّينُ لَعِقٌ
عَلى ألسِنَتهم، يَحُوطُونَهُ ما دَرَّت مَعائِشُهُم، فَإذا مُحِّصُوا بِالبَلاءِ
قَلَّ الدَّيّانُونَ"14.
شروط التداول وقيوده
يذكر القرآن الكريم مجموعة من الشروط لتحقّق سنّة التداول وإصابتها من تصيبه سلبًا
وإيجابًا. وأهمّ هذه الشروط:
الظلم والطغيان، وذلك كما في قوله تعالى:
﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن
قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ
لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾15. وذلك أنّ هذه الآ أنّ
هذه الآية الأرض تعاقبت عليها أجيال وأمم، والإهلاك الذي حاق ببعض الأمم ليس
بالضرورة أن يكون إهلاك إبادة ماديّة، بمعنى أن يموت أفراد الأمّة كلّهم بعذاب
ينزله الله عليهم, بل هو أعمّ من ذلك فقد يكون إهلاكًا للأمّة بمعنى تبديد الوحدة
الاجتماعيّة التي تربط بين أفرادها. وقد تقدّمت الإشارة إلى هذا الأمر سابقًا.
والمعصية والتمرّد على إرادة الله وشريعته كما يفيد قوله تعالى:
﴿أَلَمْ يَرَوْاْ
كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ
نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا
الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا
مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ﴾16. تحدّثنا هذه الآية عن تمكين إحدى الجماعات
البشريّة وتوفير الله عزّ وجلّ لها كلّ مقومّات البقاء, ولكن لمّا تمرّدت على إرادة
الله التشريعيّة وأدارت الظهر للقيم الدينيّة طحنتها سنّة التداول وأنشأ الله قومًا
آخرين محلّها.
وقفّة تأمّلية
﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾
﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾17
أي: نصرفها مرّة لفرقة، ومرّة
عليها...، وإنّما يصرف الله الأيام بين المسلمين، وبين الكفّار، بتخفيف المحنة عن
المسلمين أحياناً، وتشديدها عليهم أحياناً، لا بنصرة الكفّار عليهم، لأنّ الله لا
ينصر الكفّار على المسلمين، لأنّ النصرة تدلّ على المحبة، والله تعالى لا يُحبّ
الكافرين، وإنّما جعل الله الدنيا متقلّبة، لكيلا يطمئن المسلم إليها، ولتقلّ رغبته
فيها، أو حرصه عليها، إذ تفنى لذاتها، ويظعن مقيمها، ويسعى للآخرة التي يدوم نعيمها.
وإنّما جعل الدولة مرّة للمؤمنين، ومرّة عليهم، ليدخل الناس في الإيمان على الوجه
الذي يجب الدخول فيه كذلك، وهو قيام الحجّة، فإنّه لو كانت الدولة أبداً للمؤمنين،
لكان الناس يدخلون في الإيمان على سبيل اليمن والفأل. على أنّ كل موضع حضره
النبيصلى الله عليه وآله وسلم لم يخل من ظفر، إمّا في ابتداء الأمر، وإمّا في
انتهائه.
تفسير مجمع البيان، الشيخ الطبرسي، ج2، ص400.
1- سورة آل عمران، الآية 140.
2- سورة الحجر، الآية 21.
3- سورة الفرقان، الآية 2.
4- سورة محمد، الآية 7.
5- الفيومي، المصباح المنير، مادّة: "دول".
6- مقاييس اللغة، مادّة: "دول".
7- التحقيق في كلمات القرآن، ج 3، ص 302-303.
8- سورة آل عمران، الآية 140.
9- سورة آل عمران، الآية 26.
10- سورة الحجّ، الآية 40.
11- سورة الأعراف، الآية 128.
12- سورة القصص، الآية 5.
13- سورة يونس، الآية 14.
14- ابن شعبة الحرّاني، تحف العقول عن آل الرسول، الطبعة الثانية، مؤسسة النشر
الإسلامي، قم، 1404هـ.ق.، ص 245.
15- سورة يونس، الآيتان 13و 14.
16- سورة الأنعام، الآية 6.
17- سورة آل عمران، الآية 140.