حقيقة الجهاد
التربية الجهادية
اشتقّت كلمة "الجهاد" من "الجَهْد" و"الجُهْد" بمعنى "المشقّة والعناء"1 وبمعنى "الوسع والطّاقة"، وعليه، يكون معنى الجهاد: هو بذل الوسع والطّاقة أو تحمّل العناء والمشقة.
عدد الزوار: 183الجهاد في اللغة والاصطلاح:
الجهاد في اللغة:
اشتقّت كلمة "الجهاد" من "الجَهْد" و"الجُهْد" بمعنى
"المشقّة والعناء"1 وبمعنى "الوسع
والطّاقة"، وعليه، يكون معنى الجهاد: هو بذل الوسع والطّاقة أو تحمّل العناء
والمشقة.
الجهاد والقتال في القرآن:
استخدم القرآن المجيد في آياته التي تحدّثت عن موضوع بذل الجهد والوسع في قتال
العدو، مفردتين اثنتين هما: الجهاد والقتال، في قوله تعالى
﴿انْفِرُوا خِفافاً
وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾2، وقوله عزّ وجلّ
﴿وَقاتِلُوا في سَبيلِ
اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَميعٌ عَليمٌ﴾3.
وتطلق كلمة الجهاد غالباً على عملية صَدِّ العدوّ عن طريق الحرب، إلاّ أنّ معناها
يتّسع ليشمل دفع كل ما يمكن أن يصيب الإنسان بالضرر، كالمواجهة مع الشيطان الذي
يُضلّ الإنسان، أو النفس الأمّارة التي تدعو إلى ارتكاب السيئات وترك العمل
بالطاعات، حيث وصفت بعض الروايات مخالفة هوى النفس بالجهاد الأكبر، فعن الرسول
الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم
الجهاد الأكبر"4.
وقد اعتبر بعض المفسِّرين أنّ آيات الجهاد الواردة في القرآن الكريم ناظرة في
الواقع إلى هذين النوعين من الجهاد: جهاد النفس وجهاد العدو. فعلى سبيل المثال، فسّر العلامة الطبرسي قدس سره معنى الجهاد في قوله تعالى
﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا
فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾5
بجهاد
الكفار، وبمجاهدة أهواء النفس6. أمّا كلمة "القتال" فهي بمعنى الحرب، ولم تستعمل في
القرآن المجيد سوى للإشارة إلى الحرب مع العدو الظاهري والخارجي.
الجهاد في الاصطلاح:
وأمّا اصطلاحاً فقد عرّف الفقهاء مصطلح الجهاد بأنّه: "بذل النفس وما يتوقّف عليه
من المال في محاربة المشركين أو الباغين على وجهٍ مخصوص أو بذل النفس والمال والوسع
في إعلاء كلمة الإسلام، وإقامة شعائر الإيمان"7.
أما من حيث معنى الجهاد ومعياره، فقد شرح الإمام القائد الخامنئي دام ظله بعض ذلك
حينما قال: "الجهاد هو كل كفاح من أجل تحقيق هدف سامٍ مقدّس. والملاك في صدق الجهاد
هو أن تكون هذه الحركة موجّهة، وتواجه عقباتٍ تنصبّ الهمم على رفعها. فهذا هو
الكفاح. والجهاد هو مثل هذا الكفاح الذي إذا كان ذا منحىً وهدفٍ إلهي فسيكتسب بذلك
طابعاً قدسياً"8.
فضل الجهاد وأهميّته في الآيات والروايات:
1- في الآيات:
عندما ننظر إلى آيات القرآن الكريم نجد أنّه قلّما نزلت آيات بشأن فرعٍ من فروع
الدين الإسلامي كما هو الحال بشأن الجهاد. ثم نجد أنّه نزلَ البعضُ منها بلسانٍ
صريحٍ، ينصّ على الجهاد والقتال، والبعض الآخر بلسانٍ غير مباشر، يتعرّض إلى
المسائل الجانبية المتعلّقة به.
ولأجل أن يبيّن القرآن المجيد أهمّيّة الجهاد، عمد إلى مقارنته بخدمة الحجاج وعمارة
المسجد الحرام اللذين كانا محلاً للافتخار والمباهاة في الجاهلية، ثم صرّح بأفضلية
الجهاد عليهم، حيث قال تعالى:
﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي
سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ
الْفَائِزُونَ﴾9.
كما أن سورة "العاديات" تشير إلى عظمة الحركة الجهادية حيث أقسم القرآن الكريم
بخيول المجاهدين وقدح النار من تحت حوافرها وسنابكه، قال تعالى:
﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ بِهِ
نَقْعاً﴾10، إنّ هذه الآيات لشاهد قويٌّ على عظمة الجهاد لأنَّه تعالى لا يُقسم إلا
بالأمر العزيز.
ويلاحظ المرء أنَّ كل الآيات التي تحدّثت عن فضل وعلوّ منزلة المجاهدين في سبيل
الله، تحكي في الوقت نفسه عن أهمّيّة الجهاد وفضله، حيث إن الجهاد يتقوّم
بالمجاهدين ولا ينفكّ عنهم كما في قوله تعالى:
﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدينَ
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ
الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدينَ عَلَى الْقاعِدينَ أَجْراً عَظيماً﴾11.
وفي آية أخرى جعل الله تعالى نفسه مشتريَ أرواحِ المؤمنين المجاهدين وأموالهم، في
صورة تدلّل على قبول الله تعالى لجهاد المجاهدين المؤمنين، فهو تعالى يمتدحهم
ويقدّم الوعد الجميل، حيث يقول تعالى:
﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ
اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ
وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ
بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾12.
كما أشار تعالى إلى أنّ المجاهدين هم أحباؤه واقعاً:
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾13، ووعدهم بالأجر العظيم والجزيل:
﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ
يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ
فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾14، واعتبرهم
الفائزين في هذا العالم وبشّرهم برحمةٍ منه ورضوان، وجنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار، وخصّهم بها دون العالمين:
﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي
سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ
وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ
وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ﴾15.
ويكفي لمعرفة أهمّيّة الجهاد الالتفات إلى ما وعد الله تعالى به من الأجر العظيم
حيث قال عزّ من قائل:
﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ
أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾16. إذ أطلق الله تعالى لفظ
الأجر العظيم ولم يحدّد ماهيته وقدره، لكي يوضح لنا أنّ هذا الأجر هو فوق ما
يتصوّره الإنسان، فقال عزّ اسمه:
﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ
لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن
تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ
تَعْلَمُونَ﴾17، لأجل تحريك العواطف الإنسانية قال عزوجل:
﴿أَلاَ تُقَاتِلُونَ
قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم
بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن
كُنتُم مُّؤُمِنِينَ﴾18، ثمّ بلسان الأمر في نهاية المطاف لما للجهاد من بركاتٍ
وفوائد يعجز الإنسان نفسه عن إحصائه، قال:
﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ
وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾19.
2- في الروايات:
لقد أوضحت الروايات الكثيرة أهمّية الجهاد وحقيقته وفضله، ومنها:
- أنّ أبا ذرّ الغفاري سأل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "أيُّ الأعمالِ
أحبُّ إلى الله عزّ وجلّ؟ فقال: إيمان بالله، وجهادٌ في سبيله. قال: قلتُ: فأي
الجهاد أفضل؟ قال: من عقرَ جواده وأُهريقَ دمُه في سبيل الله"20.
- وفي حديث آخر رُوي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال "الخير كلّه في
السيف، وتحت ظلّ السيف"21.
- ورُوي عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال "من لقي الله بغير أثرٍ
من جهاد لقي الله وفيه ثلمة"22.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً أنه قال "من مات ولم يغز، ولم يحدّث به نفسه، مات على شعبةٍ من نفاق"23.
وفي رواية أنّ رجلاً أتى جبلاً ليعبد الله فيه، فجاء به أهله إلى الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم فنهاه عن ذلك، وقال: "إنّ صبر المسلم في بعض مواطن الجهاد يوماً
واحداً خير له من عبادة أربعين سنة"24.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الجهاد أشرف الأعمال بعد الإسلام، وهو قوام
الدين، والأجر فيه عظيم مع العزَّة والمنعة، وهو الكَرَّةُ، فيه الحسنات والبشرى
بالجنة بعد الشهادة"25.
- وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث بسريّةٍ كان فيها ابن رواحة، وتحرّك
الجيش مع الفجر نحو المنطقة المحدّدة، ولكنّ ابن رواحة تخلّف عنه ليصلي وراء النبي
الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. وبعد الصلاة، رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فقال: "ألم تكن في ذلك الجيش؟ فأجاب: بلى، ولكنّي أحببتُ أن أصلّي خلفك هذه الصلاة
ثم ألحقَ بهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: والذي نفسُ محمدٍ بيده لو
أنفقتَ ما في الأرض جميعاً ما أدركتَ فضلَ غدوتهم"26.
- ومن خطبة خطبها أمير المؤمنين عليه السلام في أواخر عمره، حيث يقول: "إنّ الجهاد
بابٌ من أبواب الجنّة، فتحهُ الله لخاصّة أوليائه، وهو لباس التقوى، ودِرعُ الله
الحصينةُ، وجُنّتهُ الوثيقة"27.
- وعن الإمام الباقر عليه السلام قال لأحد أصحابه: "ألاَ أُخبرك بالإسلام وفرعه
وذروته وسنامه؟ قال: قلتُ: بلى جعلت فداك، قال عليه السلام: أمّا أصله فالصلاة، وفرعه فالزكاة، وذروته وسنامه الجهاد"28.
وبالإضافة إلى ما ذُكِرَ منَ الآيات والروايات، فإنّ التدقيق في دور الجهاد في
الإسلام، ومنزلته بالنسبة لسائر الواجبات الدينية، يطلعنا أيضاً على أهمّيّته
وعظمته. فالجهاد الدفاعي سبب في توفير الأمن، والذي في ظلّه فقط يمكن إقامة سائر
الواجبات والحدود الإلهية. وفي الجهاد الابتدائي أيضاً رفع للموانع من أجل تبليغ
الدين الإلهي، وهو موجب لميل عددٍ من المجتمعات البشرية نحو الدين الحقّ، ومن
الواضح أنّه مع تحقّق هذا الميل وازدياد عدد المسلمين يصبح بالإمكان إرساء قواعد
حكومة العدل وتنفيذ الأحكام الإسلامية بشكلٍ أوسع. وباختصار، إنّ تبليغ أصول الدين
والعمل بفروعه، وحفظ الكرامات والدماء والأعراض والأرض وسائر المقدّسات مرهون في
كثيرٍ من الموارد بأداء هذه الفريضة الإلهية الكبرى، وهو ما يدلّ بدوره على عظمتها
وفضلها. وخير شاهدٍ على هذا في هذا العصر جهاد الثورة الإسلامية في إيران والمقاومة
الإسلامية في لبنان.
الجهاد تكليف إلهي وواجب شرعيّ:
في بداية الدعوة كان المسلمون في مكّة يتعرّضون لأذى المشركين كثير، وكانوا يأتون
إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما بين مشجوجٍ ومضروبٍ يشكون إليه ما يعانون
من قهرٍ وأذى، فكان صلوات اللّه عليه وآله يقول لهم: "اصبروا فإنّي لم أُؤمر
بالقتال"29. واستمرّ الحال كذلك حتّى هاجر صلى الله عليه وآله وسلم، فأنزل اللّه
عليه قوله تعالى:
﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وإِنَّ
اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ
حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾30.
فبعد طول انتظارٍ أذن الله تعالى
- لمن يتعرّض لعدوان الأعداء - بالقتال والجهاد، والسبب في ذلك أنهم قد وصلوا في
نهاية الأمر إلى مرحلة لا يمكنهم فيها دفع الأذى والظلم عنهم إلا بالجهاد والقتال.
إذاً فجهاد المظلوم ضد الظالم - الذي يريد محو ذكر الله وجعل الناس عبيداً له - من
الحقوق الطبيعيّة التي يؤكّدها عقل الإنسان وفطرته كما سوف يأتي معنا في حقِّ
الدفاع. ولقائلٍ أن يقول: لماذا أُجيز للمسلمين استخدام القوّة وخوض الحرب لتحقيق
أهدافهم؟! ألم يكن بالإمكان تحقيق الأهداف الإسلاميّة باللجوء إلى العقل والحوار
والمنطق؟!
ولكن هل يمكن أن يكون الحوار والمنطق مفيداً لظالمٍ ترَك لغة الحوار واستبدل اللسان
بالسنان وراح يهجّر المسلمين من ديارهم لا لذنبٍ اقترفوه سوى اعتقادهم بتوحيد اللّه، وتراه يستولي على منازلهم وأموالهم، ولا يلتزم بأيّ قانونٍ ومنطقٍ تجاههم؟! فهل
يمكن ردع هؤلاء الطغاة بغير لغة السلاح والقوّة بعد استنفاذ كل الوسائل السلمية؟!
وبعد الإذن بالجهاد أصبح الجهاد واجباً وتكليفاً إلهيّاً على كلّ مؤمنٍ مستطيع:
﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً
وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾31.
فقوله تعالى
﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾
إشارةٌ إلى أن القتال حكمٌ وتشريعٌ إلهيٌّ حتميٌّ
ومقطوع، وهو فرض على كافّة المؤمنين بدليل أن الخطاب متوجّه إليهم جميع، إلا من كان
معذوراً.
والقتال المكتوب يستبطن في داخله شدّةً لا بدّ منها على المؤمنين، فالقتال مستلزمٌ
لإفناء النفوس، وتعب الأبدان، وتلف الأموال، وذهاب الأمن والراحة والرفاهية، لاقترانه بأنواع المشقّات والمصائب، وغير ذلك ممّا تكرهه النفس الإنسانية وتجده
شاقّاً ومتعباً.
وبعد إعلان تشريع التّكليف الإلهي بالجهاد والقتال وعدم جواز الرّضوخ للظّالمين من
الكفّار والمشركين وغيرهم مهما كانت الظروف قاسيةً وصعبة، حتى لو اضطرّ المجاهد
المسلم الواحد أن يقاتل العشرة في المرحلة الأولى، ويقاتل الاثنين بعد أن خفّف الله
تعالى عنهم.
قال تعالى
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ
يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ
لَا يَفْقَهُونَ﴾
و﴿الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ
ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ
يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ﴾32.
هذا إضافة إلى الآيات التي حثَّت على الإعداد الإيمانيّ والبنيويّ للجهاد والقتال، وتهيئة المسلمين لما يمكن أن يُصابوا به من الخسائر والأذى والألم بسبب القتال في
سبيله. فالواضح من هذا التّكليف الإلهيّ في القرآن، ومن سيرة النبي الأعظم صلى الله
عليه وآله وسلم، وأمير المؤمنين عليه السلام وأبي عبد الله الحسين عليه السلام في
الجهاد والحرب والقتال، بأنّ الجهاد يرتبط بالدِّفاع عن الدِّين والمقدَّسات
والأعراض والكرامات حتى لو كانت التَّضحيات كبيرة وغالية. وفي كلّ الحالات يجب أن
يلبّي المجاهدون نداء الدّفاع عن الحق والقتال في سبيل الله حتّى لو أدى ذلك إلى
المشقّة وترك الأعزّاء، أو كرهته النّفوس التزاماً وتعبّداً بالتّكليف الشرعي
الإلهي.
ما الحكمة من وجوب القتال مع كراهيته؟
فلسائلٍ أن يسأل أنّه إذا كان الجهاد أحد أركان الشّريعة المقدّسة والأحكام
الإلهيّة، فكيف أصبح مكروهاً في طبع الإنسان، مع أنّنا نعلم أنّ الأحكام الإلهيّة
أمور فطريّة وتتوافق مع الفطرة؟! فالمفروض في الأمور التي تتوافق مع الفطرة أن تكون
مقبولة ومطلوبة؟!
في البداية يجب أن نعرف أن الأمور الفطريّة إنّما تنسجم وتتوافق مع طبع الإنسان
فيما لو اقترنت بالمعرفة. فصحيح أن الإنسان يطلب النّفع ويتجنّب الضرر بفطرته، ولكنّ
هذا يتحقّق في الموارد التي يعرف الإنسان فيها مصاديق النفع والضرر. أما لو اشتبه
عليه الأمر في تشخيص المصداق، ولم يميّز بين الموارد النافعة والضّارّة، فمن الواضح
في هذه الحالة أنّ فطرته وبسبب هذا الاشتباه سوف تكره الأمر النافع، والعكس صحيح
أيضاً.
وفي مورد الجهاد فإن الذين لا يرون فيه سوى الآلام والمصائب، والقتل والجرح، من
الطبيعي أن يكون مكروهاً لديهم.
أمّا بالنسبة إلى الأفراد الّذين ينظرون إلى أبعد من هذا المدى المحدود فإنهم
يعلمون أنّ شرف الإنسان وكرامته وحريّته تكمن في الجهاد، لذا هم يرحّبون به
ويستقبلونه بفرحٍ وشوق. كما هو حال الّذين لا يعرفون آثار الأدوية المرّة والمنفّرة، فهم في أوّل الأمر يظهرون عدم رغبتهم فيه، إلّا أنّهم بعد أن يروا تأثيرها الإيجابي
على سلامتهم وصحّتهم يتقبّلونها برحابة صدر.
من هنا يشير الحق تعالى في هذه الآية الكريمة إلى مبدأ أساسٍ حاكم على القوانين
التكوينيّة والتشريعيّة الإلهيّة فيقول:
﴿وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ
خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾33. فلا عبرة
بكرهكم وحبّكم لأنكم ربما تخطئون الواقع، لجهلكم فلا تقدرون على الاهتداء بأنفسكم
إلى حقيقة الأمر.
وفي الختام يؤكّد الخالق جلّ وعلا بشكلٍ حاسم أنّه لا ينبغي للبشر أن يحكّموا
أذواقهم ومعارفهم الخاصّة في الأمور المتعلّقة بمصيرهم، لأنّ علمهم محدود من كلّ
جانب، وما علموه بالنسبة إلى ما يجهلونه كقطرةٍ في البحر، لذا يقول عزّ وجلّ:
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾34.
فالناس لأنهم لم يدركوا إلا
القليل من أسرار الخلقة ومن القوانين التكوينيّة الإلهيّة، تجدهم في بعض الأحيان
يهملون أمراً ما ولا يعيرونه الاهتمام المطلوب، في حين أنّ أهميّته وفائدته قد تكون
كبيرة.
والكلام هو نفسه بالنسبة إلى القوانين التشريعيّة، فالإنسان لا يعلم بكثيرٍ من
المصالح والمفاسد الموجودة فيه، لذا فقد يكره شيئاً في حين أنّ سعادته تكمن فيه، أو
يفرح بشيءٍ ويطلبه في حين أنّه يستبطن شقاوته. وعليه فلا يحقّ للإنسان مع الالتفات
إلى علمه المحدود والناقص أن يعترض على علم الحق اللامحدود، ولا على أحكامه الإلهية، بل عليه أن يعلم يقيناً أن الله تعالى، الرحمن والرحيم، عندما يشرّع تشريعاً ما
كالجهاد مثلاً؛ فإنه لا يشرّعه إلّا لأنه يرى فيه الخير والسعادة والنجاة. لذا على
المؤمن أن ينظر إلى الأوامر والأحكام الإلهية على أنها كالأدوية الشافية له من كل
علّة، وعليه أن يطبّقها بمنتهى الرضا والقبول والتسليم.
إذ، إن التزم الإنسان بأحكام الحق فالنفع يعود إليه لا إلى الحق، كما أخبر تعالى في
قوله:
﴿وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يجُاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنىٌِّ عَنِ
الْعَالَمِينَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ
سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ﴾35.
فاللّه تبارك وتعالى وجود غير متناهٍ من جميع الوجوه وهو الكمال المطلق، وغير مفتقر
لأي شيء، ولا ينقصه شيء حتى يكمله الآخرون، بل كل ما عندهم منه، وليس لهم شيء من
أنفسهم!! إذ، فجميع منافع الجهاد ترجع إلى الشخص المجاهد نفسه، فهو بجهاده سيفوز
بخير الدنيا والآخرة. والفائدة الكبيرة الأولى لجهاده هي تكفير الذنوب والعفو عنها
وستره، كما أن الثواب سيكون من نصيبه كما يقول تعالى في نهاية هذه الآية المباركة:
أنه سيرفع درجة المجاهدين إلى ما يناسب أحسن أعمالهم. فإذا كانت بعض أعمالهم تشوبها
المشاكل فإنه تعالى سيعاملهم في كل واحد منها معاملة من أتى بأحسن الأعمال، فتحتسب
صلاتهم أحسن الصلاة وإن اشتملت على بعض الشوائب وهكذا...
الجهاد وتهذيب النَّفس:
تعدَّدت الأخبار التي تصف جهاد النَّفس بأنّه أكبر من جهاد العدوّ، وأنّ من غلب
نفسه وجاهده، فهو الشّديد والمنتصر، ومن الواضح أنّ منشأ أرجحيّة جهاد النَّفس على
جهاد العدوّ، هو أنّ جهاد العدوّ مع ما فيه من صعوباتٍ ومحن إنَّما ينهض به المجاهد
بعد أن يغلب نفسه، ويطوّعها لحمل تلك المشاقّ وتجاوز تلك الصُّعوبات والمحن، ولو
غلبته نفسه وأبت عليه أنْ يُجاهد لما جاهد، فجهاد العدو ما هو إلا فرعٌ من أصلٍ
بالنِّسبة إلى جهاد النّفس.
ومع هذا يجب أن نلتفت إلى أنّ الجهاد العسكريّ في سبيل الله الذي يكون لنشر الإسلام
وإعلاء كلمة التوحيد والدفاع عن المستضعفين هو إحدى العبادات الكبرى الموجبة لتكامل
النّفس، والتقرّب إلى الله، والارتقاء إليه، وهذا ما يفهم من الآيات والروايات
الكثيرة التي تحدَّثت عن الدّرجات العظيمة، والمنزلة الرّفيعة للمجاهدين، من الفوز
والبشرى برحمة الله تعالى، والخلود في جنّته في الآخرة. فالله تعالى يعطي الذي
يجاهد ويقتل في سبيله أفضل المقامات وأرفعه، كلّ ذلك لأنّ المجاهد لا ينطلق في
جهاده لتأمين أهداف شخصيّة أو ماديّة، بل إنّه يستثمر أكثر الأشياء قيمةً في سبيل
السّير والسّلوك إلى الله والوصول إلى الهدف، فهو يضحّي بروحه وكلّ وجوده ويسلّمه
إلى الله مخلص، تاركاً كلّ متعلِّقات الدّنيا والمادّة والشّهوات باختياره ويسلّم
روحه دفعةً واحدةً إلى الله. بل يمكن القول إنّ ما يصل إليه المجاهد في خنادق
الجهاد قد لا يحصل على ما يشابهه في العبادات الأخرى، فهو يحطّم قفص المادّة، ويحلّق في عالم رضوان الله، ويرتقي عبر أرفع المقامات نحو ربّه بنحو أشرع وأقوى.
* كتاب التربية الجهادية، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- راجع تاج العروس، ج4، ص407-409.
2- التوبة،41.
3- البقرة، 244.
4- بحار الأنوار،ج67،ص65.
5- العنكبوت، 69.
6- يُراجع: تفسير مجمع البيان، ج8، ص41.
7- جواهر الكلام، ج21، ص3.
8- الجهاد من وجهة نظر الإمام السيد علي الخامنئي دام ظله. نقلاً عن:
WWW.KHAMENEI.IR
9- التوبة، 19-20.
10- العاديات، 1- 4.
11- النساء، 95.
12- التوبة، 111.
13- الصف، 4.
14- النساء، 74.
15- التوبة، 20-21.
16- النساء، 74.
17- البقرة، 216.
18- التوبة، 13.
19- البقرة، 244.
20- بحار الأنوار، ج97، ص11.
21- م.ن، ص9.
22- كنز العمال، ح10495.
23- صحيح ميزان الحكمة، ج1، ص444.
24- مستدرك الوسائل، ج11، ح12324، ص21.
25- نور الثقلين،ج1، ص408.
26- جامع الصحيح، ح525، ص20.
27- نهج البلاغة، الخطبة 27.
28- بحار الأنوار، ج66، ص392.
29- بحارالأنوار، ج19، ص157
30- الحج، 39.
31- البقرة، 216.
32- الأنفال، 65-66.
33- البقرة، 216.
34- البقرة، 216.
35- العنكبوت، 7،6.