أسباب النصر(1) - الأسباب الماديّة
النصر الإلهي
على الرغم من كون النصر نعمةً وسنّة من السنن الإلهيّة إلا أنّ إرادة الله اقتضت أن لا تجري الأمور بأسبابها سواء كانت هذه الأسباب ضعيفة أو قويّة. وقد قارنّا في محلٍّ سابق بين النصر والرزق، ونعيد هذه المقارنة لنرى أنّ الرزق وإن كان بيد الله حصرًا كما في عدد من الآيات الكريمة
عدد الزوار: 458
موعظة قرآنية
﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ
تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ
تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ
اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾1.
مقدّمة
على الرغم من كون النصر نعمةً وسنّة من السنن الإلهيّة إلا أنّ إرادة الله اقتضت أن
لا تجري الأمور بأسبابها سواء كانت هذه الأسباب ضعيفة أو قويّة. وقد قارنّا في محلٍّ
سابق بين النصر والرزق، ونعيد هذه المقارنة لنرى أنّ الرزق وإن كان بيد الله حصرًا
كما في عدد من الآيات الكريمة ومنها على سبيل المثال لا الحصر، قوله عزّ وجلّ:
﴿وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾2, ولكنّ الله لم يقدّمه دائمًا مجّانًا
بل رتّبه على أمور منها السعي في سبيل الرزق كما في قوله تعالى:
﴿هُوَ الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن
رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾3. وفي قصّة السيّدة مريم عليها السلام عبرةٌ إذ
أمرَها الله تعالى بهزّ النخلة كي يسقط عليها الرطب الجنيّ،
ألم يكن الله الذي رزقها طفلًا دون المقدّمات المتعارفة للحمل والولادة قادرًا على
تقديم الطعام إليها دون عناءٍ:
﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ
عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾4. ولمّا كان النصر لا يُقدّم مجانًا ودون مقدّمات كان
من الطبيعيّ البحث عن الأسباب والمقدّمات التي تؤدّي إلى النصر. وهنا سؤال يطرحه
الشهيد الصدر في بحثه عن السنن الاجتماعيّة نعيد طرحه لما له من صلةٍ بمحلِّ بحثنا.
ثمّ ننتقل بعد ذلك إلى الحديث عن أسباب النصر ومقدّماته.
سنّة النصر واختيار الإنسان
يثير الحديث عن سنن التاريخ والقوانين الإلهيّة التي تحكم المجتمعات التساؤل عن دور
الإرادة الإنسانيّة في تحقيق الآثار والنتائج التي تحصل في المجتمعات. فإذا كان
التقدّم والتخلّف، والنصر والهزيمة، وغيرهما من الحالات التي تصيب المجتمع أو تحدث
فيه، نتائج للسنن الإلهيّة والقوانين التي تحكم هذه المجتمعات، فأين دور الإنسان
وأين فاعليّته؟ وهل تشبه النظرة الإسلاميّة هذه النظرة الماركسيّة التي ترى أنّ
المجتمعات تسير وفق قوانين تشبه القوانين التي تتحكّم بحركة الطبيعة فلا يد للإنسان
فيها إلا القبول والخضوع؟
يجيب الشهيد الصدر عن هذا السؤال بالنفي. ويرى أنّ الطريقة التي عرض الله عزّ وجلّ
فيها السنن التي تحكم حركة التاريخ تعطي للإنسان دورًا فاعلًا ومؤثّرًا وبالتالي لا
تنافي بين إلهيّة السنن وبين تأثير الإرادة الإنسانيّة. فقد توهّم بعض الناس: أنّ
هناك تعارضًا وتناقضًا بين حرّيّة الإنسان واختياره وبين سنن التاريخ، فإمّا أن
نقول إنّ للتاريخ سننه وقوانينه، وبهذا نتنازل عن إرادة الإنسان واختياره وعن
حريّته، وإما أن نسلّم بأنّ الإنسان كائنٌ حرٌّ مريدٌ مختارٌ، وبهذا يجب أن نلغي
سنن التاريخ وقوانينه ونقول إنّ هذه الساحة قد أعفيت من القوانين التي لم تعف منها
بقية الساحات الكونية... هذا الوهم كان من الضروريّ للقرآن الكريم أن يزيحه وهو
يعالج هذه النقطة بالذات. ومن هنا أكّد سبحانه وتعالى على أنّ المحور في تسلسل
الأحداث والقضايا إنّما هو إرادة الإنسان..."5. وبعد أن يستشهد ببعض الآيات على ما
يريد يعلّق قائلًا: "انظروا كيف أنّ السنن التاريخيّة لا تجري من فوق رأس الإنسان
بل تجري من تحت يد الإنسان، فإنّ الله لا يغيّر ما بقومٍ حتّى يغيّروا ما بأنفسهم،
وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقًا"6.
أسباب النصر ومقدّماته
يمكن تقسيم أسباب النصر ومقدّماته بطرقٍ عدّة، ولكنّنا سوف نعتمد خيار التقسيم
الثلاثيّ لها وفق هذا المعيار. فهذه المقدمات إما أن تكون ماديّة طبيعيّة، وإمّا أن
تكون غيبيّة من جهة الله تعالى، وإمّا أن تكون أخلاقيّة وصفات نفسيّة يتّصف بها
الإنسان الذي ينعم الله عليه بالنصر. وسوف نحاول استعراض عددٍ من الآيات التي
تتضمّن مثل هذه الأسباب وفق هذا التقسيم. ولا ندّعي أنّه الخيار الوحيد ولا الخيار
الأحسن، ولكنّه الخيار الأيسر والأقلّ تعقيدًا بحسب ما يبدو لنا.
الأسباب الماديّة للنصر
1- العدّة:
لا شكّ في أنّ العدّة لها دورها في تحقيق النصر والغلبة. وهذا الأمر ممّا اعترف به
الإسلام وندب المسلمين إليه بأشكال مختلفة. وقد ورد في القرآن الكريم أكثر من آية
تدعو إلى الاستعداد للحرب ومواجهة العدوّ. كما ورد مثل هذا الأمر في السنّة الشريفة
بأشكال مختلفة نعرض لها فيما يأتي:
أ- العدّة في القرآن:
قال الله تعالى:
﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ
الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ
لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ
اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾7. ورد في بعض كتب التفسير أنّ
هذه الآية نزلت بعد معركة بدرٍ التي خرج المسلمون إليها دون أن يكونوا قد أعدّوا
العدّة الكافية لها، فحذّرهم الله تعالى من العودة إلى ذلك ثانيةً8. والإعداد في
الآية هو التهيئة، والقوّة هي كلّ ما يتقوّى به على العدوّ وقيل هي الرمي على وجه
الخصوص، والرباط هو الخيل التي تربط في سبيل الله. وفي الآية نكتةٌ تستحقّ الالتفات
إليها والتوقّف عندها وهي الفعل ترهبون إذ يُراد منه الخوف الذي يدخل على قلب العدوّ
فيزيل طمعه في المسلمين وبالتالي يجعله يتردّد في فتح المعركة وهو ما يُعرف في
عصرنا هذا بالردع. وربّما يكون المراد من الفعل هو أنّ العدّة لا تحقّق النصر بل
أقصى ما تحقّقه هو إدخال الرهبة في قلوب الأعداء. وأخيرًا لا يخفى أنّ القوّة من
العناصر المرنة التي تختلف من زمان إلى آخر تبعًا لتطوّر العلوم وتبدّل أسلحة العدوّ.
قال الله تعالى:
﴿وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن
كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ
الْقَاعِدِينَ﴾9. تتحدّث هذه الآية عن بعض المنافقين الذين كانوا يستأذنون النبيّ
صلى الله عليه وآله وسلم تهرّبًا من القتال فكان النبيّ يأذن لهم كي يخرجهم من
معسكره ويريح حشد المسلمين من شرّ وجودهم بينهم. ووجه دلالة الآية على ضرورة
الإعداد للحرب والاستعداد لها، أنّ الله يحكم على هؤلاء القوم بأنّهم كاذبون في
دعواهم العزم على الخروج للقتال والاستئذان بعد ذلك بالانسحاب، ومستند هذا الحكم
عليهم هو عدم ظهور أمارات الاستعداد عليهم.
قال الله تعالى:
﴿َّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى
الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِه
ِ... وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ
مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ
حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ﴾10. تتحدّث هاتان الآيتان عن جماعة من
المخلصين من المسلمين الذي يريدون الخروج إلى القتال مع النبيّ صلى الله عليه وآله
وسلم ولكنّه لا يأذن لهم بالخروج معه لعدم توفّر الراحلة التي يحملهم عليها، وهم من
جهتهم غير قادرين على تأمين رواحل تحملهم. والامتناع عن حملهم وفيض عيونهم بالدمع
شوقًا إلى الجهاد يدلّ على أنّ المقاتل الذي لا يتوفّر له السلاح ووسيلة النقل لا
يؤدّي خدمة مهمّة في ساحات القتال بل قد يتحوّل إلى عبء على المجاهدين الذين قد
ينشغلون بالدفاع عنه والتفكير في حمايته وقت الحرب.
هذه الآيات الثلاث دليل واضح على اهتمام الإسلام بالعدّة مع التوكّل على الله
والاعتماد عليه في تحقيق النصر. ومن التجربة المعاصرة يمكن الإشارة إلى تجربتين
استقتا من هذا المنبع هما تجربة المقاومة الإسلاميّة التي راكمت خلال سنين ما أتيح
لمجاهديها من قوّة وأسلحة دفاعيّة وهجوميّة حقّقت توازن ردع في مواجهة العدوّ, بحيث
صار العدوّ أبعد ما يكون عن التهوّر والجرأة على الإقدام على فتح الحرب ساعة يشاء.
والتجربة الثانية والأهمّ على مستوى الإعداد والقوّة العسكريّة هي تجربة الجمهوريّة
الإسلاميّة التي جعلت قيادتها الحكيمة في رأس أولويّاتها الاكتفاء الذاتيّ في مجال
التصنيع العسكريّ. وقد بدأ مفجّر الثورة الإسلامية التفكير في هذا الأمر مبكّرًا،
وقال في إحدى محاضراته في النجف الأشرف: "إنّ قوله تعالى:
﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا
اسْتَطَعْتُم ...﴾ يدلّ على وجوب الاستعداد بكل ما تيسّر من وسائل الدفاع والهجوم.
ولو أنّ المسلمين عملوا بهذا الحكم وأسّسوا دولة إسلاميّة مجهّزة بأساليب القوّة
والاستعداد للتضحية، لما استطاع حفنة من اليهود احتلال بلاد المسلمين والتهديد
بتخريب المسجد الأقصى وحرقه..."11. بل كان رحمه الله يفكّر في هذا الأمر قبل خروجه
من إيران وذلك كما ورد في كتابه المشهور كشف الأسرار الذي نشر في بداية عهد محمد
رضا بهلوي، إذ يقول فيه: "إذا كان الدفاع واجبًا على الجميع، فمقدّمات الدفاع واجبة
أيضًا. ومن بين مصاديق الإعداد التشكيلات العسكريّة، وتعلّم فنون القتال على
القادرين على ذلك"12.
ب- العدّة في الفقه الإسلاميّ:
من المعلوم أنّ الفقه الإسلاميّ يحرّم الرهان والمسابقة التي فيها عوض ماليّ يأخذه
الرابح. ويعدّ الفقهاء هذا الأمر من القمار. ولكن نجد أنّ الفقهاء الذين حرّموا
الرهان واستندوا في تحريمه إلى أدلّة فقهيّة عدّة مرويّة عن النبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم وعن الأئمّة عليهم السلام، نجدهم يجوّزون الرهان في أمرين هما السبق
والرماية، ويخصّصان لهاتين اللعبتين بابًا في الفقه الإسلاميّ يتحدّث عن
أحكامهما13. ومن الأدلّة التي يستدلّون بها لجواز المسابقة والرماية مجموعة من
الروايات عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام منها: "إنّ رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلمأجرى الخيل وجعل سبقها أواقي من الفضّة"14. وعن الإمام
أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "لا سبق إلا في خفٍّ أو حافرٍ أو نصل"15.
ولا
يحتاج تفسير تجويز مثل السبق والرماية إلى جهد كبيرٍ, إذ ارتباط هذين الأمرين
بالاستعداد للحرب والقتال من الواضحات.
2- تجهيز الغازي:
تجهيز الغازي من المفاهيم المعروفة في الأدبيّات الإسلاميّة، وذلك أنّ التسليح في
بداية الدولة الإسلاميّة كان أمرًا فرديًّا, ولأجل ذلك ورد أعلاه أنّ بعض المسلمين
كانوا يأتون إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وليس معهم ما يتجهّزون به للقتال.
ومن هنا ورد الحثّ على تجهيز المقاتلين والإنفاق على التسليح. وقد ورد الحثّ على
هذا الأمر في القرآن الكريم, إذ إنّ بعض الآيات التي تدعو إلى الإنفاق في سبيل الله
يُراد منها الإنفاق على التسليح أو المجهود الحربيّ بحسب التعبير المتعارف في
زماننا، وأوضح منها دلالة على ما نحن فيه الآيات التي تتحدّث عن الجهاد بالأموال
إلى جانب الجهاد بالأنفس، ومن ذلك قوله تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ
وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ
وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ﴾16.
وفي
الأخبار الواردة في السنّة الشريفة دعوة واضحة إلى استحباب أو وجوب تجهيز المقاتلين
على المقتدرين ماليًّا، ومن ذلك ما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "من
جهّز غازيًا فقد غزا"17.
3- العديد:
إلى جانب العدّة لا شكّ في أهميّة العديد وتأثيره في توازن القوى بين المسلمين وبين
العدوّ. وهذا ما يفسِّر الأمر الإلهيّ المتكرّر في القرآن الكريم بالنفير للقتال
ومواجهة المشركين وغيرهم من الأعداء الذين خاض المسلمون معهم معارك في عصر نزول
القرآن الكريم. ولأجل هذا أيضًا وردت إدانات عدّة للذين يتخاذلون عن اللحاق بصفوف
المسلمين وهم الذين يُعبّر عنهم في الأدبيّات الإسلاميّة بالقاعدين، أو الخوالف.
ومن هذه الآيات ما يأتي:
- قال الله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ
انفِرُواْ
فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ
الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ
قَلِيلٌ﴾18. وفي هذه الآية دلالة واضحةٌ على ذمّ الذين يتثاقلون عن الخروج إلى
القتال مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عندما يدعوهم إلى النفر والخروج.
- قال الله تعالى:
﴿انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ
وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ
تَعْلَمُونَ﴾19. ودلالة هذه الآية أوضح من سابقتها إذ يأمر الله تعالى فيها بالنفر
على كلّ حال ولو من دون توفّر السلاح على الرغم من أهميّته وضرورته كما تقدّم، إلا
أنّه عندما تدعو الحاجة إلى النفير العامّ لا ينبغي للمسلم أن يتذرّع بأيّ ذريعة
للتهرّب من النفير ولو كانت عدم توفّر ما يكفي من السلاح لأداء الواجب: الخفاف
والثقال جمعا خفيف وثقيل، والثقل بقرينة المقام كناية عن وجود الموانع الشاغلة
الصارفة للإنسان عن الخروج إلى الجهاد نظير كثرة المشاغل الماليّة وحبّ الأهل
والولد والأقرباء والأصدقاء الذي يوجب كراهة مفارقتهم، وفقد الزاد والراحلة والسلاح
ونحو ذلك، والخفّة كناية عن خلاف ذلك. فالأمر بالنفر خفافًا وثقالًا وهما حالان
متقابلان في معنى الأمر بالخروج على أيّ حال وعدم اتّخاذ شيء من ذلك عذرًا يعتذر به
لترك الخروج"20.
أ- الاهتمام بنوعيّة العدد:
ولم يهتمّ الإسلام بالعدد وحده بل اهتمّ بنوعيّة هذا العدد. وكان المطلوب إظهار ما
توفّر من العدد في أحسن صورة تثير الرعب في قلب العدوّ ولو بالاعتماد على بعض
التكتيكات التي تظهر صورة المسلمين على غير واقعها طلبًا لإثارة الرعب في قلوب
الأعداء. وممّا يقع في هذا السياق الأمر بالخضاب في السنوات الأولى من عمر الرسالة
الإسلاميّة. ويبدو أنّ هذا الأمر إجراء اعتمده النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
والمسلمون لإخفاء الشيب وإظهار عسكر المسلمين وكأنّه يغلب عليه عنصر الشباب دفعًا
لطمع العدوّ بهم. ولأجل أنّ هذا التدبير كانت تقتضيه الضرورة ورد في بعض الأخبار أنّ
أمير المؤمنين سئل عن الخضاب فخيّر بينه وبين عدمه: "سئل عليّ عليه السلام عن قول
النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: غيّروا الشيب ولا تشبّهوا باليهود، فقال: "إنّما
قال ذلك والدين قلٌّ، وأما الآن وقد اتّسع نطاقه وضرب بجرانه، فامرؤٌ وما اختار"21. وورد أيضًا أنّه: "قال عليه السلام وقد نظر إلى شيب في لحية رجلٍ: من شاب في
الإسلام كانت له نورًا يوم القيامة، فخضب الرجل بالحنّاء، فلمّا رآه قال: نورٌ
وإسلامٌ، فخضب بالسواد، فقال عليه السلام: نور وإسلامٌ ومحبّة إلى نسائكم، ورهبة في
قلوب أعدائكم"22. ويدور أمر المرويّ عنه بين أن يكون النبيّ صلى الله عليه وآله
وسلم وأن يكون الإمام الصادق عليه السلام.
ب- تنظيم العديد:
وكثرة العدد بحسب ما يقتضيه المنطق مضافًا إلى العلم العسكريّ لا يجدي كثيرًا إن لم
يكن منظّمًا، ولم تُستغلّ الطاقات البشريّة المستعدّة للتضحية وبذل النفس. ومن هنا
ينقل لنا القرآن الكريم بعض صور التنظيم العسكريّ الذي كان يتولّاه رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم. كما ورد في السنّة والسيرة الشريفة ما له صلة بهذا, الأمر
الذي سمح لبعض الباحثين تأليف الكتب في الخطط العسكرية التي كان يعتمدها النبيّ صلى
الله عليه وآله وسلم.
من القرآن:
﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ
لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾23. غدوت من الغدوّ وهو الخروج غداة والتبوئة
تهيئة المكان للغير أو إسكانه وإيطانه المكان والمقاعد جمع (مقعد)... والمراد بأهل
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاصّته..."24 والآية على أيّ حالٍ ظاهرة الدلالة
على تنظيم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم صفوف المسلمين وأمرهم باتخاذ مواقع
قتاليّة استعدادًا لبدء المعركة.
من السيرة: السيرة النبويّة الشريفة مليئة بالأخبار التي تحكي عن كيفية إدارة النبيّ
صلى الله عليه وآله وسلم معاركه وكيفيّة توزيع الصفوف وتنظيمها. ونكتفي بذكر واقعة
واحدة تحكي عن شيء من هذا. وذلك ما ورد في أخبار معركة أحد التي انقلب النصر فيها
إلى هزيمة، بعد أن ترك الرماة مواقعهم طلبًا للغنيمة فعاد جيش المشركين الذي كان
منهزمًا مستغلًّا فرصة انكشاف ظهر المسلمين وانشغال بعضهم بتقسيم الغنائم. وقد
تحوّل النصر السابق إلى هزيمة حتّى قال أبو سفيان معبّرًا عن فرحته بالثأر ممّا
ناله وحزبه يوم بدر: "يوم بيوم بدر، ألا إنّ الأيام دول، وإنّ الحرب سجال وحنظلة
بحنظلة"25. ولولا ثبات مجموعة من المسلمين على رأسهم النبيّ صلى الله عليه وآله
وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام وآخرين ربّما كان يوم أحد هو المعركة الأخيرة التي
خاضها المسلمون.
ج- العديد بين الكمّ والكيف:
لم يخلُ القرآن الكريم من بيان أهميّة العديد ودور كثرة المقاتلين في تقوية جبهة
الإسلام وتحصين معسكره ولكن لفت إلى أنّ الكثرة ليست مطلبًا بحدّ ذاته فربّ كثرة لا
تغني بل تفسد. وتخرّب ووردت في هذا المجال أكثر من آية في كتاب الله عزّ وجلّ منها:
- قال الله تعالى:
﴿لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً
ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ
وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾26. تتحدّث هذه الآية عن المنافقين الذين لا
ينبغي الرهان عليهم لا في السلم ولا في الحرب. والخبال هو الفساد واضطراب الرأي.
والإيضاع الإسراع في الشر، والخلال البين، والبغي هو الطلب فمعنى يبغونكم الفتنة أي
يطلبون لكم أو فيكم الفتنة... وهي المحنة كالفرقة واختلاف الكلمة... وتفرّق الجماعة
من قبل هذه الغزوة وهي غزوة تبوك كما في غزوة أحد حين رجع عبد الله بن أبي سلول
بثلث القوم وخذل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وقلبوا لك الأمور بدعوة الناس إلى
الخلاف وتحريضهم على المعصية وخذلانهم عن الجهاد وبعث اليهود والمشركين على قتال
المؤمنين والتجسّس وغير ذلك..."27.
- قال الله تعالى:
﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن
فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ﴾28. تقصّ لنا هذه الآية شيئًا من قصّة النبيّ داود عليه السلام وتحكي
لنا خبر جنود طالوت الذين كان فيهم من أهل الإيمان الكامل وفيهم غير المؤمنين ومن
هم غير كاملي الإيمان، وقد صدر هذا الكلام الحكيم عن الجماعة الأولى الذين وصفهم
الله تعالى بأنّهم يظنّون أنّهم ملاقو الله، "والظنّ بلقاء الله إما بمعنى اليقين،
وإمّا كناية عن الخشوع"29. وعلى أيّ حال نقل هذا الكلام عن جماعة يصفها الله بهذا
الوصف مع عدم إبطاله ونقضه يدلّ على التأييد الإلهيّ له وإقرار أصحابه على صحّته.
ويؤيّد واقع الحال المعاصر للمسلمين هذا التقييم القرآنيّ للكثرة والقلّة فربّ كثرة
كغثاء السيل، كما ورد في الحديث المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يوشك
أن تداعى عليكم الأمم من كلّ أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قيل: يا رسول الله:
فمن قلّة بنا يومئذٍ؟ قال: لا, ولكنّكم كغثاء السيل يجعل الوهن في قلوبكم وينزع
الرعب من قلوب عدوّكم لحبّكم الدنيا وكراهتكم الموت"30. وقد شهد تاريخنا الإسلاميّ
المعاصر كثرة كغثاء سمحت لشذّاذ الآفاق بالسيطرة على بلاد المسلمين وثرواتهم وتأسيس
كيان غريب عن جسم الأمّة في قلبها. وكل المؤشّرات تدلّ على أنّنا نشهد تحوّلًا في
تاريخ الأمّة يغيّر حالها بعد أن بدأت تغيّر ما بها. ونسأل الله أن تكون في هذه
الأمّة في مستقبلها كثرة كالسيل وليس كغثائه.
وقفّة تأمّلية
الإعداد والاستعداد سبيل النصر
﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ﴾31 أمر عام بتهيئة المؤمنين مبلغ استطاعتهم من القوى الحربية ما يحتاجون إليه قبال ما
لهم من الأعداء في الوجود أو في الفرض والاعتبار، فانّ المجتمع الإنساني لا يخلو من
التألّف من أفراد أو أقوام مختلفي الطباع ومتضادي الأفكار لا ينعقد بينهم مجتمع على
سنة قيمة ينافعهم إلا وهناك مجتمع آخر يضاده في منافعه، ويخالفه في سنته، ولا
يعيشان معاً برهة من الدهر إلا وينشب بينهما الخلاف ويؤدّي ذلك إلى التغلّب
والقهر.فالحروب المبيدة والاختلافات الداعية إليها ممّا لا مناص عنها في المجتمعات
الإنسانية والمجتمعات هي هذه المجتمعات، ويدلّ على ذلك ما نُشاهده من تجهّز الإنسان
في خلقه بقوى لا يُستفاد منها إلا للدفاع كالغضب والشدّة في الأبدان، والفكر العامل
في القهر والغلبة، فمن الواجب الفطري على المجتمع الإسلامي أن يتجهّز دائماً بإعداد
ما استطاع من قوّة ومن رباط الخيل بحسب ما يفترضه من عدو لمجتمعه الصالح. والذي
اختاره الله للمجتمع الإسلامي بما أنزل عليهم من الدين الفطري الذي هو الدين القيّم
هي الحكومة الإنسانية التي يحفظ فيها حقوق كل فرد من أفراد مجتمعها، ويراعي فيها
مصلحة الضعيف والقوي والغني والفقير والحر والعبد والرجل والمرأة والفرد والجماعة
والبعض والكل على حدٍّ سواء دون الحكومة الفردية الاستبدادية التي لا تسير إلا على
ما تهواه نفس الفرد المتولّي لها الحاكم في دماء الناس وأعراضهم وأموالهم بما شاء
وأراد، ولا الحكومة الأكثرية التي تطابق أهواء الجمهور من الناس وتبطل منافع آخرين
وترضى الأكثرين (النصف + واحد) وتضطهد وتسخط الأقلّين (النصف - واحد). ولعلّ هذا هو
السرّ في قوله تعالى:
﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم﴾32 حيث وجّه الخطاب
إلى الناس بعد ما كان الخطاب في الآيات السابقة موجّهاً إلى النبي صلى الله عليه
وآله وسلم كقوله:
﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ
خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾33
وقوله:
﴿فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى
سَوَاء﴾34 وقوله:
﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ﴾35 وكذا في
الآيات التالية كقوله:
﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾36
إلى غير ذلك.
وذلك أنّ الحكومة الإسلامية حكومة إنسانية بمعنى مراعاة حقوق كل فرد وتعظيم إرادة
البعض واحترام جانبه أي من كان من غير اختصاص الإرادة المؤثّرة بفرد واحد أو بأكثر
الأفراد. فالمنافع التي يُهدّدها عدوّهم هي منافع كل فرد، فعلى كل فرد أن يقوم
بالذبّ عنها، ويعد ما استطاع من قوة لحفظها من الضيعة، والإعداد وإن كان منه ما لا
يقوم بأمره إلا الحكومات بما لها من الاستطاعة القوية والإمكانات البالغة لكن منها
ما يقوم بالأفراد بفرديّتهم كتعلّم العلوم الحربية والتدرُّب بفنونها فالتكليف
تكليف الجميع.
الميزان في تفسير القرآن،
السيد محمد حسين الطباطبائي، ج9، ص115.
1- سورة الأنفال، الآية 60.
2- سورة آل عمران، الآية 27.
3- سورة الملك، الآية 15.
4- سورة مريم، الآية 25.
5- المدرسة القرآنية، ص 75.
6- (م.ن)، ص 76.
7- سورة الأنفال، الآية 60.
8- الفخر الرازي، التفسير الكبير، الطبعة 3، مكتبة أهل البيت الإلكترونيّة، ج 15، ص
184.
9- سورة التوبة، الآية 46.
10-سورة التوبة، الآيتان 91 و 92.
11- الإمام الخميني، ولايت فقيه، ص 33.
12- در جستجوي راه از كلام امام، دفتر 2، ص 6، نقلا عن: كشف الأسرار (فارسي)، ص
45-46.
13- انظر كنموذج: السيد الخوئي، منهاج الصالحين، ج 2، ص 119.
14- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الطبعة 2، مؤسسة آل البيت، قم، 1414هـ.ق.، ج 11،
ص 494.
15- (م.ن).
16- سورة الأنفال، الآية 72.
17- لم نعثر على هذا الحديث بهذه الصيغة في المصادر الحديثيّة الإماميّة ولكنّه ورد
في عدد من كتب فقهاء الإماميّة، انظر: الشيخ الطوسي، الخلاف، الطبعة الثانية، قم،
1420هـ.ق.، ج 5، ص 517, العلامة الحلّي، منتهى المطلب، مكتبة أهل البيت
الإلكترونيّة، ج 2، ص 900.
18- سورة التوبة، الآية 38.
19- سورة التوبة، الآية 41.
20- الميزان في تفسير القرآن، ج 9، ص 277.
21- الحر العاملي، هداية الأمّة إلى أحكام الأئمّة، مجمع البحوث الإسلاميّة، مشهد،
1412هـ.ق.، ج 1، ص 146.
22-(م.ن).
23-سورة آل عمران، الآية 121.
24-الميزان في تفسير القرآن، ج 4، ص 4.
25-الحاكم النيسابوري، المستدرك، ج 2، ص 297.
26-سورة التوبة، الآية 47.
27-الميزان في تفسير القرآن، ج 9، ص 290.
28-سورة البقرة، الآية 249.
29-الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 292.
30-حديث مشهور لم نعثر عليه في المصادر الإماميّة، وهو مرويٌّ في كتب أهل السنّة،
انظر: المتّقي الهندي، كنز العمّال، ج 11، ص 132.
31- سورة الأنفال، الآية 60.
32- سورة الأنفال، الآية 60.
33- سورة الأنفال، الآية 57.
34- سورة الأنفال، الآية 58.
35- سورة الأنفال، الآية 59.
36- سورة الأنفال، الآية 61.