ما معنى معرفة القرآن؟
التعرّف على القرآن
عند تحليل القرآن ومعرفة محتواه، يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: أيمكن تعرف القرآن ودراسته أصلا؟ أيمكننا أن نتدبر القرآن ونفكر في آياته؟أم إنه لم ينزل لكي يتعرفه الناس، بل نزل لمجرد التلاوة والقراءة، ولنيل الثواب والتبرك والتيمن ليس غير؟
عدد الزوار: 204
عند تحليل القرآن ومعرفة محتواه، يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: أيمكن تعرف
القرآن ودراسته أصلا؟ أيمكننا أن نتدبر القرآن ونفكر في آياته؟أم إنه لم ينزل لكي
يتعرفه الناس، بل نزل لمجرد التلاوة والقراءة، ولنيل الثواب والتبرك والتيمن ليس
غير؟ قد يبدو لأول وهلة أن لا داعي لإيراد مثل هذا السؤال، وإنه لا شك في أن القرآن
نزل لكي يعرف.ولكن بما انه قد ظهرت في دنيا الإسلام أمور يؤسف لها بحيث ما زالت ذات
جذور لأفكار منحطة خطيرة في مجتمعنا، فقد رأينا إن علينا أن نورد ما يوضح هذا
الجانب من الأمور.
قبل ثلاثة قرون أو أربعة، ظهر من بين علماء الشيعة افراد اعتقدوا إن القرآن ليس حجة،
ورفضوا القبول بثلاثة من أصول الفقه الأربعة التي كان علماء الإسلام قد اعتبروها
معيارا لمعرفة المسائل الإسلامية، وهي: القرآن، والسنة، والعقل، والإجماع.
ففيما يتعلق بالإجماع كانوا يقولون: إن هذا من تقاليد أهل السنة فلا يمكن اتّباعه.
وبخصوص العقل كانوا يقولون: كيف يجوز اعتماد العقل وهو كثير الأخطاء.
أما عن القرآن فكانوا يدعون من باب التقدير والاحترام: إنه اكبر من أن نتمكن نحن
التافهين من البشر أن نطالعه ونتفكر فيه، بل إن الرسول والأئمة وحدهم الذين يحق لهم
أن يتلو آياته.وهؤلاء هم الأخباريون.لذلك كان مرجع الأخباريين الوحيد الجائز هو
الأحاديث والأخبار. وقد ينتابكم العجب إذا علمتم أن في بعض التفاسير التي كتبها
هؤلاء، كانوا يدرجون الآية إذا كان لها ثمة حديث، ويغفلون إدراجها إذا لم يكن لها
حديث، وكأنها ليست من القرآن. هذا لون من الظلم والجفوة بحق القرآن.
ومن البديهي إن مجتمعا يهمل كتابه السماوي. كتابا كالقرآن، بهذه الصورة ويطرحه في
زاوية النسيان، لا يمكن أن يكون سائرا على هدي القرآن.
كان هناك غير هؤلاء جماعات أخرى أيضا، اعتقدت بضرورة إبعاد القرآن عن أيدي
العامة.ومن هؤلاء الاشاعرة الذين كانوا يعتقدون بأن معرفة القرآن لا تعني تتدبر
آياته، بل تعني فهم معانيها الحرفية، أي إن علينا أن نقبل بالمعنى الظاهر للآيات،
ولا شأن لنا بعد ذلك بالباطن.
لا شك في إن هذه النزعة تؤدي إلى الإنحراف والضلال، وذلك لأن هؤلاء كانوا مضطرين
إلى توضيح معاني الآيات ولكنهم، بالغائهم عمل العقل، لم يكن امامهم من القرآن إلا
مفهوم هو أقرب إلى مفهوم العوام. وهم لذلك سرعان ما انحرفوا عن جادة الصواب،
واعتنقوا معتقدات غير صحيحة.
من ذلك مثلا تجسيدهم الله (سبحانه) ومئات أخرى من المعتقدات الخرافية، كإمكان رؤية
الله تعالى عيانا ومخاطبته، وإلى غير ذلك.
وفي مقابل هذه الجماعات التي تركت القرآن فعلا، ظهرت جماعة أخرى جعلت من القرآن
وسيلة للوصول إلى غاياتهم وأهدافهم، أخذ هؤلاء يؤولون القرآن كيفما اقتضت منافعهم،
ونسبوا إلى القرآن أمورا لم تكن فيه إطلاقا. وكانوا يردون على كل اعتراض قائلين
بأنهم وحدهم الذين يدركون المعاني الباطنية للقرآن وإن تأويلاتهم تلك متأتية من
معرفتهم بآياته.
إن أبطال هذه الجماعات فئتان: الفئة الأولى هم الاسماعيلية، ويعرفون بالباطنية أيضا.
والثانية هم المتصوفة. واكثر الاسماعيلية في الهند وقليل منهم في ايران. وقد بلغ
بهم الأمر أنهم أنشأوا حكومتهم ايضاً، وهي الدولة الفاطمية في مصر. ويعرف
الإسماعيليون بانهم من الشيعة الذين يعترفون بستة من الأئمة. غير أن المقطوع به،
وبإجماع واتفاق تام من علماء الشيعة الاثني عشرية، إن هؤلاء أبعد ما يكونون حتى عن
غير الشيعة. أي إن أهل السنة الذين لا يرون في أئمة الشيعة ما يرى الشيعة فيهم،
أقرب إلى التشيع من هؤلاء المحسوبين على الشيعة
إن هؤلاء، بسب تشبثهم بالباطنية، أساءوا إلى الإسلام وخانوه خيانات عديدة في
التاريخ الاسلامي، وكان لم دور كبير في إيجاد الإنحرافات في أمور الإسلام.
بعد هؤلاء نأتي إلى المتصوفة الذين كانت لهم اليد الطولى في تحريف الآيات وتأويلها
بحسب عقائدهم الخاصة. وكمثال على ذلك، نذكر نموذجا من تفاسيرهم، ليتبين طرز
تفكيرهم، بحيث يستطيع القارئ أن يقرأ المفصل من هذا المجمل: لقد جاء في القرآن ذكر
إبراهيم وابنه إسماعيل، وأن الله قد أمر إبراهيم في المنام عدة مرات بذبح إسماعيل
تقربا إليه. ويعجب إبراهيم أول الأمر لهذا الأمر، ولكنه بعد تكرر الرؤيا يؤمن بذلك
ويسلم امره لله، ويفاتح ابنه بذلك، فيستسلم إسماعيل استسلام المخلص له:
﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ
مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ
مِنَ الصَّابِرِينَ﴾..
المقصود هنا هو هذا التسليم أو الرضا بقضاء الله، ولذلك عندما قام الأب والإبن، بكل
خلوص نية ونقاء سريرة بإعداد العدة لتنفيذ أمر الله تعالى، توقف التنفيذ بأمر من
الله ايضا.
أما المتصوفة فيرون في تفسير هذه الآية إن إبراهيم هو العقل، وإن إسماعيل هو النفس،
وإن العقل ههنا كان ينوي قتل النفس.
من الواضح ان هذه المفهوم لا يعدو أن يكون تلاعبا بالقرآن، ولونا من المعرفة
التحريفية.
إن هذه المفاهيم المنحرفة المبنية على الأهواء الشخصية، هي التي قال فيها الرسول
صلى الله عليه واله: "من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار". إن هذا التلاعب خيانة للقرآن
بل خيانة عظمى.
والقرآن، في قبال جمود الأخباريين وجفاف تفكيرهم، وكذلك في مواجهة انحرافات
الباطنية ومفاهيمهم الخاطئة وأمثالهم، يعرض سبيلا وسطا هو التأمل والتدبر الخالص
المنصف وبغير تغرض. إن القرآن لا يحرض المؤمنين فحسب على التفكير في آياته، بل إنه
يحث المخالفين له على ذلك أيضا، ويطلب منهم ألا يتحزبوا، بل يتأملوا في آياته،
ويقول:
﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾.
وفي آية اخرى يقول:
﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ
وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾.
أي انه كتاب غزير الثمر، كثير البركة، وإن تدبر آياته لا يعني تقبيله ومن ثم وضعه
على الرف، بل يعنى تدبر آياته والتفكير فيها.
إن هذه الآيات وعشرات أخرى في توكيد تدبر القرآن، تجيز كلها تفسير القرآن وتؤيده،
ولكن لا التفسير المبني على هوى النفس، بل المبنى على أساس من الصدق والإنصاف
والتجرد عن الغرض. فعندما نتأمل في القرآن صادقين وغير مغرضين، لن تكون هناك ثمة
ضرورة إلى أن تكون لنا القدرة على حل كل مسائله.
إن القرآن من هذا المنظور أشبه بالطبيعة. ففي الطبيعة كثير من الأسرار التي ما زالت
تفتقر إلى الحل، وليس بالإمكان حلها في الظروف السائدة فعلا، ولكنها سوف تحل في
المستقبل.ثم إن الإنسان في سعيه لمعرفة الطبيعة ينبغي عليه أن يلائم بين تفكيره
والطبيعة كما هي، لا أن يفسر الطبيعة على حسب ما يشاء هو.وكذلك هو القرآن، فانه لم
ينزل لزمان واحد، ولو لم يكن الأمر كذلك، لانكشفت أسراره منذ أمد، ولفقد هذا الكتاب
السماوي كل جاذبيته وجدته وتأثيره. غير أننا نرى أن الرغبة في تدبره والتفكير فيه
واستكشاف جديد لم يزل باقيا كما كان، وهذه ملاحظة سبق أن شرحها النبي والأئمة.
فقد ورد في حديث عن الرسول صلى الله عليه واله أنه قال: "مثل القرآن كمثل الشمس والقمر، فهو مثلهما
في جريان دائم". أي إنه ليس على وتيرة واحدة ولا هو قد سمرّ في مكان واحد. وقال
ايضا: "القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق".
وجاء في عيون اخبار الرضا عليه السلام عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنه سئل
عن السر في إن القرآن تزداد طراوته وجدته بتقادم الزمان عليه وبتكرار تلاوته. فقال:
لأن القرآن لم ينزل لزمان دون زمان ولناس دون ناس، بل إنه نزل لكل الازمان ولكل
الناس. إن منزّله قد صاغه بحيث إنه يتقدم على كل تطور في العلم والتفكير، على الرغم
من التطور الهائل في المعارف والعلوم، كما إنه يعرض من المعاني والمفاهيم القابلة
للدرك بما يتسع لظرفية الزمان واشباعه.
*
معرفة القرأن / العلامة الشهيد مطهري