يتم التحميل...

دلائل كون العقل حجة

التعرّف على القرآن

إن كون العقل حجة وسندا في نظر الإسلام أمر ثابت، كما إن علماء الإسلام جميعا، ومنذ البداية وحتى الآن - عدا مجموعة صغيرة - لم يشكوا في سندية العقل، واعتبروه أحد مصادر الفقه الاربعة.

عدد الزوار: 201

إن كون العقل حجة وسندا في نظر الإسلام أمر ثابت، كما إن علماء الإسلام جميعا، ومنذ البداية وحتى الآن - عدا مجموعة صغيرة - لم يشكوا في سندية العقل، واعتبروه أحد مصادر الفقه الاربعة.

1- الدعوة إلى التعقل في القرآن
بما اننا نبحث في القرآن فلا بد لنا من الرجوع إلى القرآن نفسه للحصول على الدليل الذي يثبت كون العقل حجة.إن القرآن يضع توقيعه على مستند سندية العقل بطرق مختلفة. وأوكد: بطرق مختلفة. فمن الآيات يمكن أن نعد ستين أو سبعين آية وردت في القرآن تشير إلى أن موضوعا ما قد طرح لكي يتدبره العقل. ولنضرب مثلا احدى الآيات العجيبة في القرآن: (إنّ شرّ الدّواب عند الله الصّم البكم الذين لا يعقلون).

من الواضح بالطبع، إن المقصود بالصم البكم ليس العضوي منهما، بل المقصود هو الجماعة من الناس الذين لا يريدون أن يسمعوا الحقيقة، وإذا سمعوها لا يعترفون بها بألسنتهم.

فالاذن التي تعجز عن سماع الحقائق، ولا تعجز عن سماع لغو الكلام الفارغ، لهي في القرآن أذن صماء.واللسان الذي يقتصر على الشقشقة والهراء، لهو في القرآن لسان أبكم.

أما "الذين لا يعقلون" فهم الذين لا ينفعهم تفكيرهم. وهؤلاء لا يراهم القرآن جديرين بصفة (الإنسان)، فادرجهم في سلك الحيوانات والدواب، فيخاطبهم بهذا المنظور.

وفي اية أخرى تطرح مسألة التوحيد، بقوله: (وما كان لنفس أن تؤمن إلاّ بأذن الله) .

وعلى اثر طرح هذه المسألة الغامضة التي لا يتسع بعض القول لدركها. تستأنف الآية قولها: (ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون).

في هاتين الآيتين اللتين اوردتهما مثالين، يدعو القرآن إلى إعمال العقل بدلالة التطابق، حسب تعبير أهل المنطق. هنالك آيات كثيرة أخرى يؤكد فيها القرآن سندية العقل بدلالة الالتزام اي إنه يتكلم بأمور يستحيل قبولها دون القبول بسندية العقل وحجته. فهو مثلا يطلب من الخصم استدلالا عقليا، حيث يقول: (قل هاتوا برهانكم).

أي إنه يريد أن يبين، بدلالة الالتزام، إن العقل حجة وسند. أو إنه لكي يثبت وحدة الوجود صراحة يعتمد القياس المنطقي: (لو كان فيهما الهة إلاّ الله لفسدتا).

وهنا يقيم القرآن قضية شرطية، فقد استثنى المتقدم وأهمل المتأخر. إن القرآن، بتوكيده العقل، يريد إبطال أقوال بعض الأديان التي تقول إن الإيمان غريب على العقل وانه لكي يؤمن المر عليه ان يعطل عمل العقل، وأن يكتفي بعمل القلب، لكي يدخله نور الله.

2- الاستفادة من العلة والمعلول.
إن من الأدلة الأخرى على قول القرآن باصالة العقل هو تبيان بعض المسائل باستخدام العلية والمعلولية. فالعلة والمعلول، وأصل العلية، قواعد للفكر العقلاني، وهذا ما يحترمه القرآن ويعمل به.

وعلى الرغم من أن القرآن كلام الله، وأن الله هو خالق العلة والمعلول، وأن الكلام يدور على ما وراء ما تقع العلة والمعلول دونه، فانه مع ذلك لا يغفل عن ذكر السببية والمسببية لهذا العالم، ويضع الوقائع والظواهر تحت سيطرة هذا النظام.

من ذلك الآية التي تقول: (إنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم).

وهو بهذا يريد أن يقول إنه مع إن كل المصائر بيد الله، فإن الله يحمّل البشر مصائرهم بسبب اختيارهم وتصميمهم وعملهم، ولا يقوم بعمل جزافا، بل حتى المصائر لها نظام، ولن يغير الله مصير مجتمع على عواهنه وبغير بديل، إلا إذا غير المجتمع ما به، كأن يغير نظامه الأخلاقي أو الأجتماعي...

والقرآن من ناحية أخرى يحث المسلمين على النظر في احوال الاقوام السالفة ومصائرها، يستخلصون منها الدروس والعبر.من البديهي إنه لو كانت مصائر الاقوام والملل وانظمتها قد سارت خبط عشواء، ومصادفة.أو لو كانت تلك المصائر مفروضة من فوق، لما كان ثمة داع لدرس أو عبرة.فبهذا التوكيد يريد القرآن أن يشير إلى أن مصائر الاقوام تتحكم بها أنظمة واحدة، لو تشابهت ظروف مجتمع ما مع مجتمع آخر لتشابه مصيراهما.

وقد جاء في آية أخرى:
(فكأيّن من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها).
نجد في كل هذا ان قبول النظم بدلالة الالتزام يؤيد النظام المبني على العلة والمعلول. والقبول بحجة العلة والمعلول، قبول بسندية العقل.

3 - فلسفة الاحكام
من الدلائل الاخرى على القبول بحجة العقل في نظر القرآن، هو القول بوجود فلسفة للدساتير والاحكام.أي إن العلة في وضع الدستور هي المصلحة. يقول علماء الاصول ان المصالح والمفاسد تتدرج في سلسلة علل الاحكام.فمثلا، يقول القرآن: اقيموا الصلاة.

ثم يذكر في مكان آخر فلسفة هذا الأمر: (إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر).

فيشرح الأثر الروحي للصلاة، وكيف أنها ترتفع بالانسان عن الفحشاء، فيبتعد عن المفاسد والموبقات.أو أنه يذكر الصوم، ويأمر الناس به، ثم يقول: (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلّكم تتّقون).

وهكذا الأمر فيما يتعلق باحكام اخرى، كالزكاة والجهاد، فقد بين القرآن في جميع الموارد مردوداتها الفردية والاجتماعية.وعليه فإن القرآن يمنح هذه الاحكام جانبها الدنيوي، على الرغم من كونها سماوية ومن الأعلى، ويطلب من الإنسان أن يتأملها، ويتفكر فيها، لكي يستبين له كنه الامور، ولئلا يحسبها مجرد سلسلة من الرموز أسمى من فكر البشر.

4- مكافحة شطحات العقل
ثمة دليل آخر، اقوى مما سبق، على اصالة العقل في نظر القرآن، وهو مكافحة القرآن لشطحات العقل.ولكي نوضح هذا الأمر لا بد لنا من إيراد مقدمة قصيرة.

لا شك ان فكر الإنسان يقع في الخطأ في كثير من الاحيان، وهذا أمر معروف وشائع، ولكنه ليس مقصورا على العقل، فالحواس والمشاعر تخطئ أيضا، وقد أحصوا لحاسة البصر عشرات ا لانواع من الاخطاء.ففيما يتعلق بالعقل، كثيرا ما يتفق ان يستدل الإنسان على امر، ويتوصل إلى نتيجة، ومن ثم يتضح ان استدلاله كان خطأ من أساسه.وهنا يطرح هذا السؤال نفسه: أيجب علينا ن نلغى عمل العقل بسبب خطأه هذا، أم ينبغي أن نوجد وسائل وأسبابا تحول دون العقل وارتكاب الخطأ؟ في الرد على هذا السؤال يقول السفسطائيون إن الاعتماد على العقل غير جائز، بل إن الاستدلال لغو لا طائل وراءه.ويرد الفلاسفة عليهم ردودا مفحمة، قائلين، مثلا، إن الحواس تقع ايضا في الخطأ كالعقل، غير إن أحدا لم يحكم بتعطيل الحواس وبعدم استعمالها.ولما لم يكن بالامكان الاستغناء عن العقل، اضطر المفكرون إلى الحيلولة دون وقوعه في الخطأ.

وفي غضون بحثهم في هذا الموضوع لاحظوا أن كل استدلال يتكون من قسمين: المادة، والصورة، كما هي الحال عند تشييد عمارة، إذ نكون بحاجة إلى السمنت والحديد والجص الخ.. (المادة) وإلى هيكل البناء وشكله (الصورة).

ولكي تبنى العمارة على خير ما يكون، علينا أن نهئّ أفضل المواد، وأجمل خريطة مكتملة لا نقص فيها.كذلك الأمر في الاستدلال، فلكي يكون صحيحا لا بد أن تكون مادته وصورته صحيحتين.للتوصل إلى صورة صحيحة للاستدلال، ظهر منطق ارسطو، أو المنطق الصوري.وكانت وظيفة المنطق الصوري هذا أن يبين صحة صورة الأستدلال، أو عدم صحتها، فيعين العقل لكيلا يخطئ في صورة الإستدلال.

إن القضية الرئيسة في ضمان صحة الإستدلال هي إن المنطق الصوري وحده لا يكفي لأثبات صحة الإستدلال.فهذا المنطق إنما يضمن جانبا واحدا، ولكي نطمئن إلى صحة مادة الإستدلال لا بد من اللجوء إلى منطق المادة أيضا، أي إننا نحتاج إلى معيار نقيس به المادة الفكرية كذلك.

لقد سعى علماء من أمثال "بيكن" و"ديكار" لوضع منطق لمادة الإستدلال، مثلما وضع أرسطو منطقه لصورة الإستدلال. ولقد نجحوا في ذلك إلى حد ما، ولكنهم لم يبلغوا به الكمال الذي اتصف به منطق أرسطو.وإن استطاع الإنسان أن يستعين به لدرء أخطاء الإستدلال. ولكن الذي قد يثير عجبكم هو أن القرآن قد عرض بهذا الخصوص أمورا لها على مقترحات أمثال ديكارت فضل التقدم وتقدم الفضل .


* معرفة القرأن / العلامة الشهيد مطهري.

2015-02-05