يتم التحميل...

حساب الأمة

فكر الشهيد الصدر

المميز العام للظواهر التي تدخل في نطاق سنن التاريخ هو أنّ هذه الظواهر تحمل علاقةً جديدةً لم تكن موجودةً في سائر الظواهر الأخرى الكونيّة والطبيعيّة والبشريّة، الظواهر الكونيّة والطبيعيّة كلّها تحمل علاقةَ ظاهرةٍ بسببٍ، مسبّبٍ بسببٍ، نتيجةٍ بمقدماتٍ، هذه العلاقة موجودةٌ في كلّ الظواهر الكونيّة والطبيعيّة.

عدد الزوار: 81

المميّز العامّ النوعيّ للسنن التاريخيّة
المميز العام للظواهر التي تدخل في نطاق سنن التاريخ هو أنّ هذه الظواهر تحمل علاقةً جديدةً لم تكن موجودةً في سائر الظواهر الأخرى الكونيّة والطبيعيّة والبشريّة، الظواهر الكونيّة والطبيعيّة كلّها تحمل علاقةَ ظاهرةٍ بسببٍ، مسبّبٍ بسببٍ، نتيجةٍ بمقدماتٍ، هذه العلاقة موجودةٌ في كلّ الظواهر الكونيّة والطبيعيّة.

الغليان ظاهرةٌ طبيعيّةٌ مرتبطةٌ بظروفٍ معيّنةٍ، بدرجة حرارةٍ معيّنةٍ، بدرجةٍ معيّنةٍ من قرب هذا الماء من النار. هذا الارتباط ارتباط المسبب بالسبب، العلاقة هنا علاقة السببيّة، علاقة الحاضر بالماضي، بالظروف المسبقة المنجزة.

لكن هناك ظواهر على الساحة التاريخيّة تحمل علاقة من نمط آخر وهي علاقة ظاهرةٍ بهدف، علاقة نشاطٍ بغاية، أو ما يسمّيه الفلاسفة بالعلّة الغائيّة، تمييزاً عن العلّة الفاعليّة. هذه العلاقة علاقةٌ جديدةٌ متميّزةٌ. غليان الماء بالحرارة، يحمل علاقةً مع سببه، مع ماضيه، لكن لا يحمل علاقةً مع غايةٍ ومع هدفٍ، ما لم يتحوّل إلى فعلٍ إنسانيٍّ، وإلى جهدٍ بشريٍّ، بينما العمل الإنسانيّ الهادف يحتوي على علاقةٍ لا فقط مع السبب، لا فقط مع الماضي، بل مع الغاية التي هي غير موجودةٍ حين إنجاز هذا العمل، وإنّما يترقّب وجودها، أي العلاقة هنا علاقة مع المستقبل لا مع الماضي. الغاية دائماً تمثّل المستقبل بالنسبة إلى العمل، بينما السبب يمثّل الماضي بالنسبة إلى هذا العمل.

العلّة الغائيّة وجودٌ ذهنيّ مؤثّر
فالعلاقة التي يتميّز بها العمل التاريخيّ، العمل الذي تحكمه سنن التاريخ، هو أنّه عملٌ هادفٌ، عمل يرتبط بعلّة غائيّةٍ، سواءً كانت هذه الغاية صالحةً أم طالحةً، نظيفةً أم غير نظيفةٍ. على أيّ حال هذا يعتبر عملاً هادفاً، يعتبر نشاطاً تاريخيّاً، يدخل في نطاق سنن التاريخ، على هذا الأساس. وهذه الغايات التي يرتبط بها هذا العمل الهادف المسؤول، حيث إنّها مستقبليّةٌ بالنسبة إلى العمل، فهي تؤثّر من خلال وجودها الذهنيّ في العامل لا محالة، لأنّها بوجودها الخارجيّ، بوجودها الواقعيّ، هي طموحٌ وتطلّعٌ إلى المستقبل، و ليست موجودةً وجوداً حقيقيّاً، وإنّما تؤثّر من خلال وجودها الذهنيّ في الفاعل.

إذاً فالمستقبل أو الهدف الذي يشكّل الغاية للنشاط التاريخيّ، يؤثّر في تحريك هذا النشاط، وفي بلورة هذا النشاط من خلال الوجود الذهنيّ، أي من خلال الفكر الذي يتمثّل فيه الوجود الذهنيّ للغاية ضمن شروطٍ ومواصفاتٍ، حينئذٍ يؤثّر في إيجاد هذا النشاط.

إذاً حصلنا الآن على مميّزٍ نوعيٍّ للعمل التاريخيّ لظاهرةٍ على الساحة التاريخيّة. هذا المميّز غير موجودٍ بالنسبة إلى سائر الظواهر الأخرى على ساحات الطبيعة المختلفة. هذا المميّز ظهور علاقةِ فعلٍ بغايةٍ، نشاطٍ بهدفٍ، وبالتعبير الفلسفيّ، ظهور دور العلّة الغائيّة، كون هذا الفعل حصل من خلال الوجود الذهنيّ، الذي يرسم للفاعل غايته، أي من خلال الفكر. إذاً، هذا هو في الحقيقة دائرة السنن النوعية للتاريخ.

السنن النوعيّة للتاريخ موضوعها ذلك الجزء من الساحة التاريخيّة، الذي يمثل عملاً له غايةٌ، عملاً يحمل علاقةً إضافيّةً إلى العلاقات الموجودة في الظواهر الطبيعيّة، وهي العلاقة بالغاية والهدف، بالعلّة الغائيّة.

 أبعاد العمل التاريخيّ
ليس كلّ عملٍ له غايةٌ فهو عملٌ تاريخيٌّ، هو عملٌ تجري عليه سنن التاريخ، بل يوجد بعدٌ ثالثٌ لا بدّ أن يتوفّر لهذا العمل، لكي يكون عملاً تاريخيّاً، أي عملاً تحكمه سنن التاريخ.

البعد الأول كان هو "السبب"، والبعد الثاني كان هو الغاية "الهدف"، ولا بدّ من بعدٍ ثالثٍ لكي يكون بهذا العمل داخلاً في نطاق سنن التاريخ. هذا البعد الثالث هو أن يكون لهذا العمل أرضيّةٌ تتجاوز ذات العامل، أن تكون أرضيّة العمل هي عبارةٌ عن المجتمع، العمل الذي يخلق موجاً، هذا الموج يتعدّى الفاعلَ نفسَه، وتكون أرضيّته الجماعة، التي يكون هذا الفرد جزءاً منها.

طبعاً الأمواج على اختلاف درجاتها، هناك موجٌ محدودٌ، هناك موجٌ كبيرٌ. لكن العمل لا يكون عملاً تاريخيّاً إلّا إذا كان له موجٌ يتعدى حدود العامل الفرديّ. قد يأكل الفرد إذا جاع، قد يشرب إذا عطش، قد ينام إذا أحسّ بحاجته إلى النوم، لكن هذه الأعمال على الرغم من أنّها أعمالٌ هادفةٌ أيضاً، تريد أن تحقّق غايات، ولكنّها أعمالٌ لا يمتدّ موجها إلى أكثر من العامل، خلافاً لعملٍ يقوم به الإنسان من خلال نشاطٍ اجتماعيٍّ، وعلاقاتٍ متبادلةٍ مع أفراد جماعته. التاجر حينما يعمل عملاً تجاريّاً، القائد حينما يعمل عملاً حربيّاً، السياسيّ حينما يمارس عملاً سياسيّاً، المفكّر حينما يتبنّى وجهةَ نظرٍ في الكون والحياة، هذه الأعمال لها موجٌ يتعدّى شخص العامل، هذا الموج يتّخذ من المجتمع أرضيّةً له.

 المجتمع علّة ماديّة
ويمكننا أيضاً أن نستعين بمصطلحات الفلاسفة والتمييز الأرسطيّ بين العلّة الفاعليّة والعلّة الغائيّة والعلّة الماديّة، لتوضيح الفكرة.

إذا كان المجتمع يشكّل علّةً ماديّةً لهذا العمل، أرضيّة للعمل، في حالة من هذا القبيل يعتبر هذا العمل عملاً تاريخيّاً، يعتبر عملاً للأمّة وللمجتمع، وإن كان الفاعل المباشر في جملة من الأحيان لا يكون إلّا فرداً واحداً، أو عدداً من الأفراد، ولكن باعتبار الموج يعتبر عملَ المجتمع.

إذاً العمل التاريخيّ الذي تحكمه سنن التاريخ، هو العمل الذي يكون حاملاً لعلاقةٍ مع هدفٍ وغايةٍ، ويكون في نفس الوقت ذا أرضيّةٍ أوسع من حدود الفرد، ذا موجٍ يتّخذ من المجتمع علّةً ماديّةً له، وبهذا يكون عمل المجتمع.

 عمل الفرد وعمل المجتمع في القرآن الكريم
وفي القرآن الكريم نجد تمييزاً بين عمل الفرد وعمل المجتمع، ونلاحظ أنّه من خلال استعراضه للكتب الغيبيّة الإحصائيّة، تحدّث القرآن عن كتابٍ يحصي على الفرد عمله، وعن كتابٍ يحصي على الأمّة عملها، وهذا تمييزٌ دقيقٌ بين العمل الفرديّ، الذي ينسب إلى الفرد، وبين عمل الأمّة، أي العمل الذي له ثلاثة أبعاد، والعمل الذي له بعدان.

العمل الذي له بعدان لا يدخل إلاّ في كتاب الفرد، وأمّا العمل الذي له ثلاثة أبعاد، فهو يدخل في الكتابين مع، باعتبار البُعدين في كتاب الفرد، ويحاسب الفرد عليه، وباعتبار البُعد الثالث يدخل في كتاب الأمّة، ويعرض على الأمّة، وتحاسب الأمّة على أساسه.

﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون1. هنا القرآن الكريم يتحدّث عن كتابٍ للأمّة، أمّةٍ جاثيةٍ بين يديّ ربّها، ويقدّم لها كتابها، يُقدَّم لها سجلُّ نشاطها وحياتها التي مارستها كأمّة. هذا العمل الهادف ذو الأبعاد الثلاثة، يحتويه هذا الكتاب، ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ2 . هذا الكتاب ليس تاريخ الطبريّ، لا يسجّل الوقائع الطبيعيّة، الفسلجيّة، الفيزيائيّة، إنّما يحدّد ويستنسخ ما كانوا يعملون كأمّة. كأنّه يعني العمل الهادف ذا الموج، بحيث ينسب للأمّة، وتكون الأمّة مدعوّةً إلى كتابها. بينما في آية أخرى ﴿وَكُلَّ إنسان أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً3، هنا الموقف يختلف، هنا كلّ إنسانٍ مرهونٌ بكتابه، لكلّ إنسانٍ كتابٌ، لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً من إعماله، من حسناته وسيئاته، من هفواته وسقطاته، من صعوده ونزوله، إلّا وهو محصيٌّ في ذلك الكتاب، الكتاب الذي كُتب بعلم مَن لا يعزبُ عن علمه مثقالُ ذرّة في الأرض والسماء4 . كلُّ إنسانٍ قد يفكّر أنّ بإمكانه أن يخفي نقطة ضعفٍ، أن يخفي ذنباً، أن يخفي سيئةً عن جيرانه، عن قومه، عن أمّته، عن أولاده، قد يحاول أن يخفي حتّى عن نفسه، يخدع نفسه ويري نفسه أنّه لم يرتكب سيّئةً، ولكن هذا الكتاب الحقّ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ أحصاها. في ذلك اليوم يقال أنت حاسب نفسك الآن، هذه الأعمال التي مارستها، سوف تواجهها في هذا الكتاب، أن تحكم على نفسك بموازين ومقاييس الحقّ في يوم القيامة. في ذلك اليوم، لا يمكن لأيّ إنسانٍ أن يخفي شيئاً عن الموقف، عن الله سبحانه وتعالى، عن نفسه. هذا كتاب الفرد، وذاك كتاب الأمّة.


هناك كتابٌ لأمّةٍ جاثيةٍ بين يديّ ربّها، وهنا لكلّ فردٍ كتابٌ.

 إحضار الفرد وإحضار الأمّة
هذا التمييز النوعيّ القرآنيّ، بين كتاب الأمّة وكتاب الفرد، هو تعبيرٌ آخر عمّا قلناه، من أنّ العمل التاريخيّ، هو ذاك العمل الذي يتمثَّل في كتاب الأمّة، العمل الذي له أبعادٌ ثلاثةٌ. بل إنّ الذي يُستظهر ويُلاحظ من عددٍ آخر من الآيات القرآنيّة الكريمة، أنّه ليس فقط يوجد كتابٌ للفرد، ويوجد كتابٌ للأمّة، بل يوجد إحضارٌ للفرد، ويوجد إحضارٌ للأمّة. هناك إحضاران بين يدي الله سبحانه وتعالى.

الإحضار الفرديّ، يأتي فيه كلّ إنسانٍ فرداً، لا يملك ناصراً، ولا معيناً، لا يملك شيئاً يستعين به في ذلك الموقف، إلّا العمل الصالح، والقلب السليم، والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله.

هذا هو الإحضار الفرديّ. قال الله تعالى: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدا5.

هذا الإحضار هو إحضارٌ فرديٌّ بين يدي الله تعالى.

 إحضارُ الأمّة
إحضارٌ للفرد في وسط الجماعة، إحضارٌ للأمّة بين يدي الله سبحانه وتعالى. كما يوجد هناك سجلان، كذلك يوجد إحضاران كما تقدّم، ترى كلّ أمّةٍ جاثيةً كلّ أمّةٍ تدعى إلى كتابها، ذاك إحضار للجماعة. والمستأنس به من سياق الآيات الكريمة، أنّ هذا الإحضار الثاني يكون من أجل إعادة العلاقات إلى نصابها الحقّ. العلاقات من داخل كلّ أمّةٍ قد تكون غير قائمةٍ على أساس الحقّ. قد يكون الإنسان المستضعف فيها جديراً بأن يكون في أعلى الأمّة. هذه الأمّة تعاد فيها العلاقات إلى نصابها الحقّ.

يومُ التغابنُ
هذا هو الشيء الذي سمّاه القرآن الكريم بيوم التغابن، كيف يحصل التغابن؟... يحصل التغابن عن طريق اجتماع المجموعة، ثمّ كلّ إنسانٍ كان مغبوناً في موقعه في الأمّة، في وجوده في الأمّة، بقدر ما كان مغبوناً في موقعه في الأمّة يأخذ حقّه، يأخذ حقّه يوم لا كلمة إلّا للحقّ.
﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُن6.

استخلاص
إذاً فهناك سجلان: هناك سجلٌّ لعمل الفرد، وهناك سجلٌّ لعمل الأمّة. وعمل الأمّة هو عبارةٌ عمّا قلناه من العمل الذي يكون له ثلاثة أبعاد، بُعدٌ من ناحية العامل، وهو ما يسمّيه أرسطو بـ "العلّة الفاعليّة"، بُعدٌ من ناحية الهدف، وهو ما يسمّيه أرسطو بـ "العلّة الغائيّة"، بُعدٌ من ناحية الأرضيّة وامتداد الموج، وهو ما يسمونه بـ "العلّة الماديّة".

هذا العمل ذو الأبعاد الثلاثة هو موضوع سنن التاريخ، هذا هو عمل المجتمع.

 المجتمع عند هيجل
لكن لا ينبغي أن يوهم ذلك ما توهّمه عددٌ من المفكّرين والفلاسفة الأوروبيّين، من أنّ المجتمع كائنٌ عملاقٌ، له وجودٌ وحدويٌّ عضويٌّ متميّزٌ عن سائر الأفراد، وكلّ فردٍ على حدة، ليس إلا بمثابة الخليفة في هذا العملاق الكبير. هكذا تصوّر هيجل مثلاً، وجملةٌ من الفلاسفة الأوروبيّين، تصوّروا عمل المجتمع بهذا النحو، أرادوا أن يميّزوا بين عمل المجتمع وعمل الفرد، فقالوا بأنّه يوجد عندنا كائنٌ عضويٌّ واحدٌ عملاقٌ، هذا الكائن الواحد هو في الحقيقة يلفّ في أحشائه كلّ الأفراد، يندمج في كيانه كلّ الأفراد، كلّ فردٍ يشكّل خليّةً في هذا العملاق الواحد، وهو يتّخذ من كلّ فردٍ نافذةً على الواقع، على العالم، بقدر ما يمكن أن يجسّد في هذا الفرد من قابليّاته هو، ومن إبداعه هو. إذاً كلّ قابليّةٍ، وكلّ إبداعٍ، وكلّ فكرةٍ هي قابليّة ذلك العملاق، وإبداع ذلك العملاق، وفكر ذلك العملاق الطاغية، وكلّ فردٍ إنّما هو تعبيرٌ عن نافذةٍ من النوافذ التي يعبّر عنها ذلك العملاق الهيجليّ.

إلّا أنّ هذا التصوّر ليس صحيحاً، ولسنا بحاجةٍ إلى الإغراق في الخيال إلى هذه الدرجة، لكي ننحت هذا العملاق الأسطوريّ من هؤلاء الأفراد، ليس عندنا إلّا الأفراد، إلّا زيد وبكر وخالد، ليس عندنا ذلك العملاق المستتر من ورائهم. طبعاً مناقشة هيجل من الزاوية الفلسفيّة، تخرج من حدود هذا البحث، وهي متروكة إلى بحثٍ آخر، لأنّ هذا التفسير الهيجليّ للمجتمع، مرتبطٌ بحسب الحقيقة بكامل الهيكل النظريّ لفلسفته. إلّا أنّ الشيء الذي نريد أن نعرفه، هو أن نعرف موقع أقدامنا من هذا التصوّر. هذا التصوّر ليس صحيحاً. نحن لسنا بحاجةٍ إلى مثل هذا الافتراض الأسطوريّ، لكي نميّز بين عمل الفرد وعمل المجتمع. عمل الفرد هو العمل الذي يكون له بُعدان، فإن اكتسب بُعداً ثالثاً كان عمل المجتمع، باعتبار أنّ المجتمع يشكّل أرضيّةً له، يشكّل علّةً ماديّةً له، ويدخل حينئذٍ في سجلّ كتاب الأمّة الجاثية بين يدي ربّها. هذا هو ميزان الفرق بين العملين.

إذاً الشيء الذي نستخلصه ممّا تقدّم: أنّ موضوع السنن التاريخيّة، هو العمل الهادف، الذي يشكّل أرضيّةً ويتّخذ من المجتمع أو الأمّة أرضيّةً له على اختلاف سعة الموجة وضيقها، واتساعها وضيقها هذا هو موضوع السنن التاريخيّة.

الخلاصة
إنّ سنن التاريخ تحكم ميداناً معيّناً من الساحة التاريخيّة. هذا الميدان يشتمل على ظواهر متميّزة تميّزاً نوعيّاً عن سائر الظواهر الكونيّة والطبيعيّة. والمميّز العامّ للظواهر التي تدخل في نطاق سنن التاريخ هو ما تحمله هذه الظواهر من علاقةٍ جديدةٍ لم تكن موجودةً في سائر الظواهر الأخرى الكونيّة والطبيعيّة والبشريّة، علاقة من نمط آخر، وهي علاقة ظاهرةٍ بهدف، علاقة نشاطٍ بغاية، أو ما يسمّيه الفلاسفة بالعلّة الغائيّة، مع الغاية التي هي غير موجودةٍ حين إنجاز هذا العمل، وإنّما يترقّب وجودها. والعلاقة هنا علاقة مع المستقبل لا مع الماضي، الغاية دائماً تمثّل المستقبل بالنسبة إلى العمل، بينما السبب يمثّل الماضي بالنسبة إلى هذا العمل.

العمل الذي تحكمه سنن التاريخ هو عملٌ هادفٌ، عمل يرتبط بعلّة غائيّةٍ، سواءً كانت هذه الغاية صالحةً أم طالحةً، فهي تؤثّر من خلال وجودها الذهنيّ في العامل لا محالة، لأنّها بوجودها الخارجيّ، هي طموحٌ وتطلّعٌ إلى المستقبل، وليست موجودةً وجوداً حقيقيّاً.

ليس كلّ عملٍ له غايةٌ فهو عملٌ تاريخيٌّ، بل يوجد بعدٌ ثالثٌ لا بدّ أن يتوفّر لهذا العمل، لكي يكون عملاً تاريخيّاً. البعد الأول كان هو "السبب"، والبعد الثاني كان هو الغاية "الهدف"، البعد الثالث هو أن يكون لهذا العمل أرضيّةٌ تتجاوز ذات العامل، أن تكون أرضيّة العمل هي عبارةٌ عن المجتمع، ويمتدّ موجه أكثر من العامل.

وفي القرآن الكريم نجد تمييزاً بين عمل الفرد وعمل المجتمع، العمل الذي له بعدان لا يدخل إلّا في كتاب الفرد، وأمّا العمل الذي له ثلاثة أبعاد، فهو يدخل في الكتابين مع، باعتبار البُعدين في كتاب الفرد، ويحاسب الفرد عليه، وباعتبار البُعد الثالث يدخل في كتاب الأمّة، ويعرض على الأمّة، وتحاسب الأمّة على أساسه:
﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وهناك قي القرآن الكريم إحضارٌ للفرد، ويوجد إحضارٌ للأمّة، إحضار للفرد كفرد،﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً، وإحضارٌ للفرد في وسط الجماعة. هذا هو الشيء الذي سمّاه القرآن الكريم بيوم التغابن، يحصل التغابن عن طريق اجتماع المجموعة، ثمّ كلّ إنسانٍ كان مغبوناً في موقعه في الأمّة، يأخذ حقّه يوم لا كلمة إلّا للحقّ، ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُن.

*حساب الأمة, سلسلة دروس في فكر الشهيد الصدر , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


1- الجاثـية:28.
2- الجاثـية/29.
3- الإسراء/13 و14
4- إشارة إلى قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ يونس: من الآية61.
5- مريم/93 و94 و95.
6- التغابن/ من الآية9.

2014-12-30