النبي يوسف عليه السلام
يعقوب ويوسف (ع)
استفاق يوسف ذات صباحٍ متهلّل الوجه، منبسطَ الأسارير، تطفو على قسمات وجهه المشعِّ غبطةٌ وسعادةٌ.. وشاهد أبوه يعقوبُ في فتاهُ الوسيم، ذلكَ، فسُرَّ بدوره، وطابت نفسُهُ، وانشرح صدرُه فيوسُفُ أحبُّ أبنائهِ إليه، وأقربهم إلى نفسه وقلبه، وآثرهم لديه منزلةً ومكاناً!..
عدد الزوار: 919
رؤيا يوسف
استفاق يوسف ذات صباحٍ متهلّل الوجه، منبسطَ الأسارير، تطفو على قسمات وجهه المشعِّ
غبطةٌ وسعادةٌ..
وشاهد أبوه يعقوبُ في فتاهُ الوسيم، ذلكَ، فسُرَّ بدوره، وطابت نفسُهُ، وانشرح
صدرُه فيوسُفُ أحبُّ أبنائهِ إليه، وأقربهم إلى نفسه وقلبه، وآثرهم لديه منزلةً
ومكاناً!..
وتناول يوسف يد أبيه وهو يَهمُّ بالجلوس إلى جانب هذا الشيخ الصّالح، كي يُفضي إليه
بالسِّرِّ الَّذي أشاعَ في نفسه كلّ هذا الرِّضا والسُّرور، قائلاً لَهُ: ﴿يا أبت
إني رأيتُ أحدَ عشَرَ كوكباً والشَّمسَ والقمرَ رأيتُهم لي ساجدين﴾
.
ويلتفتُ يعقوبُ، منتفِضاً، إلى هذا الفتى الأغرِّ، كالأملود الريّان طراوةً، والّذي
يسطعُ جبينُهُ بنورٍ سماويٍّ ساحرٍ، أخّاذٍ، وتلتمعُ على وجنتيه إشراقَةُ لألاءٍ،
ويشيع منهما ألقُ ضياءٍ.. فيضمُّه إلى صدرِهِ، ويُقبِّلُهُ بعطفٍ وحنانٍ، ويُلقى في
روعه بأن الله تعالى أخذَ يُعدُّ هذا الفتى الوسيم، البهيَّ الطَّلعةِ، لجلائل
الأمور!..
وبنبرةٍ تنضحُ إشفاقاً يطلبُ الشيخُ الوقورُ من ابنه الفتى ألاّ يقص هذه الرؤيا
الصالحة على إخوته الأحد عشر، فقد يؤدي ذلك إلى حسد منهم، وكيد.. خاصة، وأنّ يعقوب
يعلم حقّ العلم تبرُّم إخوة يوسف من أبيهم الذي يؤثر عليهم أخاهم يوسف إيثاراً
شديداً. فلهُ في نفسه، من دونهم، ماليس لهم جميعاً!..
وينصرف الفتى يوسف، وبنفسه تطوف آمال عذاب، وأحلام رطاب!...
المؤامرة
وذات مساء يحيط بيعقوب أبناؤه. وقد أجمعوا على أمرٍ، وانطوت جوانحهم التي تأكّلها
الحسد، على خطبٍ جللٍ!.. فلم إيثارُ الأب يوسف عليهم أجمعين؟..
وتودّدوا إليه: ﴿قالوا: يا أبانا مالكَ لاتأْمَنّا على يوسُفَ وإنّا لهُ لناصحون.
أرسِلهُ معَناَ غداً يرتّع ويلعبْ وإنّا لهُ لحافِظونَ﴾
.
ويشعُرُ يعقوبُ بما يشبِهُ الإنتفاضةَ تسري في أوصالِهِ، فترتعدُ فرقاً (أي: خوفاً)
فهو، فعلاً، لايأمنهُم على يوسف، فجميعهم له حاسدون!..
ويحاول الشّيخُ ألاّ يستجيبَ لطلبِ أبنائه هؤلاء، متذرّعاً بخوفه على يوسف من ذئب
عاد، أو أفعى ناهشة، في هذه البرّيّة الموحشة، حيث يسرح أبناؤه بقطعانهم، من صبحٍ
لمساءٍ!.. ويتظاهر إخوة يوسف بالحرص على أخيهم، فهو، بينهم، سويداءُ القلب، وسوادُ
العين!.. ومن أين للأذى أن يعتريهُ؟..
وأنّى للذّئب أن يصل إليه، وهم عصبةٌ أشّداءُ؟..
ومازالوا بأبيهم يستميلونه، ويستعطفونه، حتّى أذن لهم.. فأخذوه معهم في صباح اليوم
التّالي.
وما أن ابتعدوا عن الحيِّ حتَّى وثبُوا على يوسُفَ: فهذا يَشُدُّه وثاقاً، وذلك
يُمسِكُ بيديه، وذاكَ يُجَرِّدُه من قميصِهِ..
وائتمروا به.. ماذا يفعلون؟..
قال أحَدُهم: نَقتُله ونستريحُ..
وقال آخرُ: بل نبيعُه لبعض التُّجَّارِ العابرينَ على أنّه عبدٌ رقيقٌ..
وقال كبيرُهم يهوذا: من الحرام أن نقتُله، إذ لم يجترم جُرماً، ولم يقترف إثماً،..
بل نلقيه في غيابات جبٍّ قريبٍ، وليكُن بعد ذلك مايكون!..
واستحسنوا رأيه!..
فقادوا يوسف إلى جبٍّ قريبٍ، ألقوه فيه، ثمَّ قفلوا، بعد ذلك، راجعين..
لقد انتهَوا من يوسُفَ، دونَ أن تتَلطَّخَ بدمِهِ يدٌ!..
وعادُوا إلى أبيهم، مساءً، وهم يصفُقون كفاً بكفٍّ مُتباكينَ!.. ويَبتدِرُهُم
أبوهُم يَعقُوبُ، وقد انخلعَ جِنانُه:
- ويحَكُم!.. ما الأمرُ؟
- ﴿قالوا ياأبانا إنّا ذهبنا نستبقُ، وتركْنا يوسُفَ عند مَتاعِنا، فأكَلَهُ
الذِّئبُ، وما أنتَ بِمُؤمِنٍ لَنا، ولَو كُنَّا صادقين﴾
.
ويَصفُقُ يعقوبُ كَفّاً بِكَفٍّ، أيضاً...
- أحقّاً، ما تَدَّعونَ؟..
- إي، وربِّ آبائِكَ الصَّالحينَ!..
ويشعُرُ يعقوبُ، شُعوراً، يكاد يكونُ يقيناً، بتآمر أبنائه، على أخيهم يوسُفَ الوضئ
القسمات، الأبلج، كيداً منهم وحسداً..
ويطرح إخوة يوسف قميص أخيهم الممزَّقَ أمام أبيهم، وقد تلطَّخ بدمٍ كذبٍ.
ويُشيحُ يعقوبُ بوجهه عن أولاده الماكرين، وإنّ قسماتهم لتنضح بالكذب المبين،
ويتولّى عنهم، وقد اسوَدَّ وجهُه حُزناً على يوسُف، وأسَفاً!..
﴿قال: بل سوَّلَت لكُم أنفُسُكم أمراً، فصبرٌ جميلٌ، والله المستعانُ على ماتصفون﴾
.
يوسف في الجُبِّ
ويتطلّع الفتى الوسيمُ تحتَه، فإذا بماءٍ ساكنٍ، رقرَاقٍ... ويتأمّلُ فوقَه، فلايرى
إلاّ غتمةً حالكةً..
فتلُفُّهُ وحشةٌ خانقةٌ، وتطوفُ بخياله أفكارٌ سودٌ، فيرتعدُ..
إنّه مظلوم، وقد ألقي به في جوف هذا الجُبِّ الحالك، الموحش دون ذنب، أو جريرةٍ..
أمّا الظّالمون، فهم إخوتُه..
فيا لسُخرية الأقدار!.. ويشعُر بالألم يعتصر قلبه الصغير، اعتصاراً!.. ثم يشعُر
وكأنّ نوراً رقيقاً، لطيفاً، ينسابُ إلى دخيلةِ نفسه شيئاً فشيئاً.. فيُبدّدُ ما
علق بها من وحشة مكفهِرّةٍ، ومايلُفّه من ظلمات.. وخيّل إليه، كنقرٍ في أذنيه، صوتٌ
يهتفُ بهدوءٍ:
- ﴿لتُنَبِّئنَّهُمْ بأمرِهِم هذا، وهُم لايَشعرون﴾
فيطمئن، كالمستبشر خيراً، وترتاح إلى ذلك نفسه ارتياحاً غريباً.. ويُسلم أمرهُ
لله!...
خلاصُ يوسف
وبعد حين، يسمع يوسف، وهو في غيابة الجبِّ، أصواتاً اختلط بعضُها ببعض، فيُصعي إلى
الأصوات التي تترامى إلى مسمعه، من بعيد..
وإذا بها أصوات رجال، ووقع حوافر، وجلبة مسافرين.. إنّها قافلة، وقد حطّت عصا
تُرحالها، قريباً من الجُبِّ..
ويسمع فوقه صوتاً، فينظر.. وإذا بدلوٍ يتدلّى فوق رأسه، يمتاح (أي: يطلب) به صاحبُه
ماءً!.. فيتعلّقُ يوسُفُ بالدَّلوِ المتدلّي.. وماهي إلاّ لحظاتٌ، حتّى كان يوسُفُ
خارج الجُبِّ..
وينظُر إليه صاحبُ الدَّلو، دَهشاً، فيصيح: ﴿يابُشرى، هذا غلام!..﴾
وأخذهُ معه في القافلة المتوجّهة في تجارة إلى مصر، خادماً، مملوكاً!.. وفي مصر،
بيع الفتى بالثّمن البخس، والسّعر الزّهيد!..
وكان الّذي اشتراه عزيزُ مصر، ورئيسُ شُرطتها "قوطيفار".
وتوَسّم عزيزُ مصر في الفتى محتداً شريفاً، وأصلاً كريماً.. إنّ وجهه ليُنبئ عن
أرومةٍ طيّبة العناصر، عريقة الأصول!.. وأوصى به زوجه خيراً، فيوسفُ ليس عبداً
كبقيّة العبيد!..
وأحسن يوسُفُ الخدمة في بيت سيّدِه، وأخلَصَ في ذلك... فهو بينَ أهليه حقّاً،
فشتّان بينهم وبين الّذين خلّفهم وراءه في أرض كنعان!..
يوسف وامرأةُ العزيز
وشبَّ يوسفُ، الغُلامُ اليافع، في بيت سيّده، على نعمةٍ، وخضيل عيش... واشتدّت
فتُوّتُه، وظهرت نجابتَهُ، وتفجّرت وسامتُه، فكأنّه - لحسنِه وجمالِه- لامن طينَةِ
البشرِ، بل ملاكٌ كريمٌ !..
ولاحظت سيّدته فيه الشّباب الغضَّ المتألّق، فلا حقته بنظراتها،.. ثمّ أخذت تتراءى
له، وتبتسمُ، وتمُدُّه بالغُنجِ والدَّلالِ!.
ويُطرقُ يوسفُ أمام ذلك كلّه، بخفر العذراءِ الحييَّة.. فليسَ لهُ إلاّ الإخلاصَ
العفَّ الأمينَ، في بيت سيّده الجديد، ومولاه!..
ولكنّ سيّدة القصر مازالت تتقرَّبُ إلى يوسُفَ، فيُعرضُ عنها حيياًّ!.. فتزداد به
تعلُّقاً، وله تعرُّضاً.. لقد شُغِفت به حُبّاً!..
وتتعرَّضُ له متصابيةً، وقد برّحت بها لواعج الشوق، وعصف بها الغرامُ!..
وتدنو منه، مراودةً أيّاه، فينفر، كالطّائر الفزع!. ويفرُّ أمامها،.. فتُلاحِقُهُ
من غُرفةٍ، في القصر، إلى غرفةٍ، حتى الباب،.. وتشُدُّه من قميصِهِ فتشُقُّه!..
وإذ بعزيز مصر، في الباب، وجهاً لوجهٍ، وقد فغرَ فاهُ مدهوشاً!..
وقبلَ أن يستجمع العزيزُ شتات أفكاره، ﴿قالت: ماجزاءُ من أرادَ بأهلِكَ سوءاً إلاّ
أن يُسجَنَ أو عذابٌ أليمٌ﴾
ولا يُطيق يوسفُ، مكراً من سيّدته، وكذباً، ﴿قال: هي راودَتني عن نفسي﴾
ويظهر على عزيزي مصر الارتباك، فهو محتارٌ في أمره، لا يدري ما يفعل.. ويصل بعض أهل
امرأة العزيز، فيُفاجأ، إذ الموقف فاضحٌ.. ينذرُ بعاصفةٍ وإعصارٍ!.. ويسكتُ
الجميعُ، ويُطرقون، فمن يُحصحصُ صدقاً من كذبٍ، وحقاَّ من باطل؟..
ويهديه رُشدُهُ إلى اقتراحٍ، يقودُ إلى الحقيقة النّاصعة:
﴿إن كان قميصُه قُدَّ (أي: شُقَّ) من قُبُلٍ، فصدَقَتْ وهُوَ من الكاذبينَ. وإن كان
قميصُهُ قُدَّ من دُبُرٍ، فكذَبَت وهُوَ من الصّادقينَ. فلمّا رأى قميصَهُ قُدّ من
دُبُرٍ، قال: إنّهُ من كيدِكُنَّ، إنَّ كيدَكُنَّ عظيمٌ﴾
.
وكان عزيزُ مصر حكيماً في موقفه، فلملم الموقف، محاذراً تفجيره،.. فليس للقُصور أن
تنبعث منها رائحة فضيحة!.. وليس لهذا الأمر أن يتكرّر أو أن يشيع.. فيلتفت إلى
يوسفَ المطرق برأسه، فيواسيه:
-﴿يوسف، أعرض عن هذ﴾
لا عليك!... وانسَ ما حدث، وكأنّه لم يكُن!.. وينظرُ إلى
زوجه، الّتي تكادُ تتهاوى من فرط حياءٍ وندمٍ وخجلٍ،.. فعليها أن تتُوبَ من فعلتها،
وتندم على ما بدر منها، ولا تعود لمثلها أبداً،..
- أما أنت، فتوبي ﴿واستغفري لذنبِكِ إنّكِ كنتِ منَ الخاطئين﴾
يوسفُ ونسوةُ المدينة
ولم يكن لحادثٍ كهذا أن يمر ببساطة وسهولةٍ ويُسر،.. فألسُنُ الناس لاترحم!..
ووصل الخبر إلى إحدى سيّدات المدينة، فباحت به إلى إحدى صويحباتها،.. ومن ثم عمّ
النبأ وشاع، فتناقلته السن سيدات المجتمع في كلّ محفلٍ ونادٍ!.. وسمعت زليخا
بحديثهنَّ، فسُمعتُها أصبحت مضغةً في كلّ فمٍ!..
فأرسلت إليهنّ، وقد هيّأت لهُنَّ مجلساً وثيراً،.. فلما حضرن استقبلتهُن بحفاوةٍ
وجميل لقاء، وأكرَمتهُنّ، وقد استقر بهن المجلس وقدمت لهن من الفاكهة صحاف
البرُتقال، ﴿وآتت كلّ واحدةٍ منهنَّ سكّين﴾
وكانت قبل ذلك، قد ألبست يوسُف فاخر اللّباس، وزيّنتهُ، فتألّق مشعشعاً!.. فلمّا
انتظم عقد مجلسهنّ قالت: ﴿اخرج عليهنّ. فلمّا رأينهُ أكبرنَهُ وقطّعنَ أيديهنَّ،
وقُلن: حاشَ لله، ماهذا بشراً، إن هذا إلاّ ملكٌ كريمٌ﴾
.
وتعلّقت أنظار السيدات المجتمعات بهذا الفتى الأغرّ الوسيم، الوضئ المُحيّا،
المشعِّ الطّلعة، فشهقن منبهرات.. وتمتمن:
- ليس على الأرض كهذا الجمال اليوسفيِّ السّاحر الأخّاذ!..
بينما كانت تسيلُ أيديهنَّ دماً، إذ قد حززن أصابعهُنَّ، دون أن يشعرن لمّا رأينه،
وهنَّ، لدهشتهن، يحسبن أنّهن يحززن ما قدّم لهنَّ من برتقال!..
وتلتفت سيدة القصر إلى النسوة، وقد طاشت عقولهنّ، فهنّ بما رأين، منبهرات، مأخوذات
وتقول لهنّ بلهجة عتاب" ﴿فذلكنَّ الّذي لُمتُنَّني فيه﴾
، فما قولُكُنَّ بعدما
رأيتُنَّ؟..
ويُجبنَ: لقد رأينا من الجمال ما لا يوصفُ، ومن الحسن ما لا يُدركُ، ممّا تحارُ به
الأفهام وتطيش به الألبابُ، وتنخلعُ له القلوبُ،..
وبالتالي، فلا لوم على سيدة مصر أن يتعلّق قلبُها بهذا الجمال الملائكيِّ المدهش..
وليس السّماع كالمعاينة!..
وتتابع زليخا، بجُرأة السّيِّدة الخطيرة الشأن، تبوح بدخيلة فؤادها، إلى من هُنّ
دونها من سيّدات مجتمع مصر، دون حرج. فليس بين امرأتين سرٌ مكتومٌ..:
﴿وقد راودتهُ عن نفسه فاستعصمَ، ولئن لم يفعل ما آمُرُهُ ليُسجننَّ وليكوناً من
الصّاغرين﴾
.
فأقبلت السَّيِّداتُ على يوسُف لائماتٍ، عاذلاتٍ،..
- يوسفُ، وأنت في ريعان الشّباب، وميعة الفتوّة، هلاّ رقَّ قلبُكَ لسيدتك الهائمة
بك، فعطفت عليها بلفتة غرام تطفئُ ما تُعاني من الهوى المُمِضِّ، والوجد الملتهب؟.
وتناولته كلّ واحدةٍ منهنّ بالقول الخلوب، والاستعطاف الرقيق. والدَّلّ المغناج..
فأشاح بوجهه عنهُنَّ، يأبى الخيانة، وسُبُل الغواية والضّلال!..
ودعا ربّه أن يصرف عنه كيدهُن، فالسّجن أحبُّ إليه من دعوات الفُجور، وإلاّ فليس
لهُ إلاّ أن يصبو إليهنَّ، وإن على كُرهٍ منه، بعد طويل تمنُّعٍ وإباءٍ!..
﴿فاستجاب له ربُّهُ فصرفَ عنهُ كيدَهُنَّ إنّهُ هو السّميعُ العليمُ﴾
.
وأدخل يوسُفُ، بعد ذلك، السجن، بوشايةٍ ملفّقةٍ، واتّهامٍ كاذبٍ، حيثُ استقرَّ به
المقامُ هناك، بضع سنين، وقد انقطعت أخبارُه عن العالمين!..
يوسف في السجن
ووجد يوسفُ في سجنه بعض متّسع من الوقت ليُبثَّ أفكاره بين هؤلاء السيئي الطّالع
الذين تصمُّهم عتمةُ السجن فما من إلهٍ إلاّ الله الواحد القهارُ!..
فلا"رَعْ" -اي الشمسُ- بإلهٍ، ولا"إبيس"- أي العجلُ- بإلهٍ أيضاً،..
ولاهذه الأصنامُ جميعاً بألهةٍ. إنّها حجر منحوتٌ!.. فالله وحدهُ، خالقُ السموات
وما فيهن، والأرضين، وما عليهن. وهو ربَّ العالمين!.. بذلك بشّر إبراهيمُ من قبلُ،
وإليه دعا من بعده، جدُّ يوسفَ، إسحقُ، وأبوه يعقوبُ!..
﴿ودخل معه السجن فتيان﴾
فأصغيا إلى دعوته، فوجداها حقاًّ.. إنّهما ساقي الملك،
وخازن طعامه، سيقا الى السجن ليُحاكما بعد ذلك..
ووجد الفتيان في يوسف رجاحة عقل وشرف نفسٍ وعلوَّ همّةٍ، لم يجداها في غيره..
فأتياه يوماً ليُنبّئهُما بتأويل حلم رأياه:
قال الأول: لقد رايت فيما يرى النائم إني أقدّم للعزيز خمراً..
وقال الثاني: بينما رأيتُ أنا، أنِّي أحملُ على رأسي خبزاً، فتأتي الطيرُ، وتأكُلُ
منه.
ويجد يوسفُ في المناسبة فرصة سانحة ليُبشّر بدينه، ودين آبائه: يعقوب وإسحق
وإبراهيم.. فهو الدّين الحقُّ القيم ﴿ولكنّ أكثر الناسِ لايعلمون﴾
ثم يلتفت إلى الأول منهما، قائلاً: لاأخالك إلاّ ناجياً، عمّا قريب، وستعود إلى
بلاط الملك، ساقياًله، ونديماً، تقدّم له كؤوس الخمر. فإن كان ذلك، ولابدَّ من أنّه
سيكون، فاذكرني عند سيّدك الملك".
ثم التفت الى الثاني، أما أنت، فستُصلبُ بعد خروجك من السّجن..
ويبتسم الثاني، وكأنه كان غير صادق في ما زعم من رؤيا، ويحاول الاعتراض فيرفع يوسف
كلتا يديه بوجههما، قائلاً لهما: هذا أمرُ الله وقضاؤه فيكما، فقد ﴿قُضي الأمرُ
الذي فيه تستفتيان!..﴾
.
ويكون مانبّأهُما به يوسف:
إذ سرعان مايستدعى الرجلان، فيخرجان من السجن، ويمثلان أمام القضاء، فتبرّأُ ساحة
الأول، فيعود ساقياً للملك، ونديماً.. وتثبت على الثاني التُّهمة، فيُقتل صلباً..
وتمرُّ، بعد ذلك على يوسف في سجنه بضعُ سنين، وقد عانى فيها ما لايعلمُهُ إلا
الله!..
رؤيا عزيز مصر
وخرج العزيزُ، صباح يومٍ، على العلماء المحتشدين في بلاطه، وقد تغيّر وجههُ، وكأنّ
غمامةً من كآبةٍ تطوف على جبينه، لاتفارقُهُ.. فماذا تخبِّئُ لهُ الأقدار؟
ويسأله أحدهم، وقد بدا عليه اهتمامٌ:
- ماالأمرُ يامولايَ؟
- رؤيا، رأيتها البارحة، لاتزال ماثلة في وجداني.. ونصب عينيَّ، أبداً!..
- هاتها!.. وفينا كلُّ مفسِّرٍ، عليمٍ!..
_ ﴿إني أرى سبع بقراتٍ سمانٍ، يأكُلهنَّ سبعٌ عجافٌ (ج.عجفاء: أي هزيلة) وسبعَ
سُنبلاتٍ خضرٍ، وأُخرَ يابساتٍ، ياأيُّها الملأُ أفتُوني في رؤيايَ إن كنتُم
للرُّؤيا تعبُرون﴾
ويطرق الكهنةُ في المجلس، والعلماءُ.. ولايجدون لرُؤيا الملك تأويلاً.. ويستغرقون
في التفكير، ولايهتدون، إنّهم أمام طلّسم مستغلقٍ!.. وظهر عليهمُ العجزُ وبان
الارتباكُ..
- ﴿قالوا: أضغاثُ أحلامٍ وما نحنُ بتأويل الأحلامِ بعالمين﴾
وكان ساقي الملك يستمع إلى ذلك كلّه، فذكر رؤياه عندما كان سجيناً، وصاحبه، وذكر
تأويل يوسُف للرُّؤيا. وطلب يوسف إليه أن يذكُرَهُ أمام عزيز مصر.. وها هي ذي
المناسبةُ، فيصيحُ:
- سيّدي، سيّدي، في السّجن فتىً اسمُهُ يوسُفُ، عليمُ بتفسي الأحلام، وتأويل
الرُّؤى، فلو شئت استدعيته، فتقعُ فيه على الخبير!..
ويأمره الملكُ: هيّا!.. اعرض عليه رؤياي، وهلُمّ إليَّ بما يقول!..
ويسرعُ ساقي الملك إلى السجن، ومعه بضعةُ رجال من الشُّرطة،.. فيدخلون على يوسف
ويسلّم عليه ساقي الملك، ويعتذر إليه، فقد أنساه الشيطان أن يذكره أمام الملك وها
هو ذا بابُ الفرج ينفتح على يوسف، فبعد اللّيل، فجرٌ وشمسٌ وضياءٌ!..
ثم يستمع يوسف، بعد ذلك، إلى رؤيا الملك، مليّاً ويقولُ للرسول، بلهجة الواثق،
المطمئنِّ،: هاك تأويلها!..:
- تستقبلون سبع سنين فيها لين عيشٍ ورخاءٌ، وازدهار وعطاءٌ.. تتلوهنَّ سبعُ سنين -
على نقيض سالفاتها- كوالحُ، شدادٌ، فيها ينقُصُ ماءُ النِّيل، وينحسرُ خيرُه، فلا
يعودُ إلى سابق عطائه،.. وينقطعُ الغيثُ، فلا تغُلُّ الأرضُ، وتصابون بالدّواهي
وعظائم الأمور، فيعُمُّ قحطٌ وجدبٌ، وتبتلون بشظف عيش وقسوة حياة.
وبعد ذلك، تقبل الأيام عليكم بوجهها من جديدٍ، بعد إدبارٍ، فيخصبُ وادي النّيل،
ويُمرعُ، ويعُمَّ الخير أرض مصر كلّها..
وتغاثون حنطةً وشعيراً فتأكلون، وسمسماً وزيتوناً، وعنباً، فتعصرون!.. فإن كان ذلك-
وهو كائنٌ لامحالة- فذروا ما حصدتم في سنبله، ودعوه في أهرائكم باستثناء ماأنتم
بحاجة إلى أكله، حتى يقضي الله أمراً كان مقضياً!..
ويعودُ الرّسول إلى قصر الملك، يهرولُ، مُسرعاً..
إن تفسير الرؤيا أعجبُ من الرؤيا ذاتها، وأغربُ!..
ويُنبِّئُ الملك، أمام العلماء المحتشدين في بلاط القصر، تفسير الرؤيا التي رآها..
فينبهرون جميعاً..
ويقول قائلهم: إن هذا لذو علمٍ عليمٌ.
ويقول آخرُ: بل، إنّ هذا من وحي السّماء!..
ويلتفت الملك إلى ساقيه، مُنتهراً إياه: ماذا تنتظرُ؟.. هيَّا!.. عليّ بيوسف
سريعاً!..
ويُسرعُ ساقي الملك إلى يوسف، يزُفُّ إليه بُشرى اطلاق سراحه، داعياً إياه لمقابلة
الملك.
ويقابل يوسف ذلك ببرودة أعصاب، فيُبهتُ الرَّسولُ!..
إنّ يوسُفَ يأبى أن يغادر السّجن دون إثبات براءته، ولو بعد حينٍ. فيقول للرّسول:
-﴿ارجع إلى ربّك(بمعنى الملِك) فاسألْه ما بالُ النِّسوة اللاّتي قطّعن أيديهن، إنّ
ربي ركيدهنّ عليمٌ﴾
.
ويدعو عزيزُ مصر النّسوة، وفي طليعتهنّ زوجه زليخا، فلا يشهدن ليوسف إلا بكل مكرمة
وخلقٍ رفيع..
وتجد السيدة زليخا الفرصة مؤاتية لتزيح عن نفسها همّاً طالما أقلق مضجعها، وأقضّه..
فتصرّح على رؤوس الأشهاد بأنّها هي التي راودته عن نفسه، فاستعصم وأبى!.. والكلُّ
يعلم ذلك.. فلم مجانبة الحقيقة والقول الصّواب؟..
فما كان من عزيز مصر بعد ظهور الحقيقة ببراءة يوسف، إلاّ أن دعا يوسف إليه يستخلصهُ
لنفسه رجلاً قوياً، بعد ما كان استخلصهُ لنفسه غلاماً فتياًّ!..
ويسلِّمه خزائن مصر، وهو الخبير العليم، يُشرف عليها، متصرّفاً في أمورها كما يرى..
إن يوسف وزير مال واقتصاد من طراز نادر، رفيع!.. وهو الجدير بأن تسلّم إليه مقاليد
الأمور، وتُناط به المهمّاتُ، في حوالك الأيام!.. وينهض يوسف بالهمهمة الموكلة
إليه، خيرُ نهوض.. فقد قرعت المجاعة أبواب الناس قاطبةً، وهجم عليهم الجوع فعضَّهم
بأنيابٍ حِدادٍ!.. وتلاقي خُطَّتُه في خزن القمح والمؤن، وتوزيعها على الناس كلّهم،
بالعدل والقسطاس، نجاحاً عظيماً!.. فهي التي خلَّصت شعب مصر من براثن مجاعة، وخطوبٍ
عِظامٍ!..
يوسف وإخوته
وكما في مصر جدبٌ وقحطٌ، عامّان، كذلك في أعالي الجليل، حيث اجتاح الجفاف أرض
كنعان، وضربها قحط أسود، كالحٌ!..
وتهيّأ إخوة يوسف ليمتاروا (أي: يجلبوا) حنطةً من مصر، حيث يقوم على ذلك ملكٌ حدت
باسمه الرُّكبانُ!..
وساروا بقافلتهم متوجهين إلى أرض النيل، حتى وصلوا إلى مصر،.. ودخلوا على العزيز،
فعرفهم واحداً واحداً، وهم له منكرون.
وتقرب إليهم عزيزُ مصر، مستفسراً عن أحوالهم، وعن الجهة التي أتوا منها. فعرَّفوه
بأنفسهم: فهم أبناءُ نبيِّ الله يعقوب إبن إسحق بن إبراهيم.. كان لهم أخٌ من أبيهم،
أكلهُ الذِّئب في الفلاة، وبقي شقيقُهُ الصغير، واسمُهُ بنيامين، في عهدة أبيه..
ورحَّب بهم العزيز، ووعدهم بجزيل الإحسان.. وتظاهر أنه يريد التثبُّت من صحَّة
دهواهُم، فطلب إليهم أن يأتوه بأخيهم الصَّغير، هذا..
ووجد إخوةُ يوسف في ذلك صعوبةً..
فليس من السَّهل أن يتنازل عنه أبوه، وذكرى يوسف، لاتزال تفعل في نفسه رغم ماانقضى
عليها من دهرٍ طويلٍ..
ولكنّ عزيز مصر أصرَّ على طلبه. فتلبيةُ طلبهم من الحنطة مشروطةٌ بإحضار أخيهم
بنيامين، فانصاعوا لأمره، مكرَهين!...
وأمدَّهم يوسف بكيل بعيرٍ من الحنطة، وردَّ إليهم ما دفعوه من مالٍ، جعلَهُ في
رحالهم، تشجيعاً لهم على العودة، وإحساناً!..
وقفلوا راجعين!..
وعرضوا على أبيهم ما طلبه عزيزُ مصر، هذا الأريحيُّ الكريمُ، وما اشترطهُ عليهم من
إحضار أخيهم بنيامين.
فاستعبر يعقوب باكياً، وتأوَّه كالملدوغ: ﴿وا أسفى على يوسُفَ!..﴾
وبكى أبناؤه وهم يرون أباهم الشيخ قد ابيضَّت عيناه حُزناً على يوسف، وكمداً،
وأسفاظص، وفارقت ثغره الإبتسامةُ، فهو في حزنٍ مقيمٍ!..
وأحاط الإخوة بأبيهم، فلم لايأمنهم على أخيهم بنيامين؟.. انهم عشرة حوله يُفدُّونه
بالمهج والأرواح. فقال لهم يعقوب: ﴿هل آمنكُمُ عليه إلاّ كما أمنتكُم على أخيه من
قبلُ. فاللهُ خيرٌ حافظاً وهو أرحمُ الرّاحمين﴾
.
فأطرقوا خجلاً، ولم ينبسوا ببنت شفةٍ، إنّ أباهم ليقول حقاً!..
وبعد لأي (أي: جهد) سمح يعقوب لأولاده باصطحاب أخيهم بنيامين إلى عزيز مصر فهبُّوا
إلى رحالهم، فرحين..
واستوقفهم أبوهم: - "مهلاً!.. ولكن شرط أن تحافظوا عليه محافظتمك على أنفسكم، أو
أشدّ، ولاتفرِّطا به أبداً" وأخذ عليهم بذلك ميثاقاً غليظاً!.
ثم نصحهُم بألاّ يدخلوا المدينة من باب واحد، فهم عشرةُ رهطٍ، يضافُ إليهم أخوهم
بنيامين. يؤلّفون قافلة كاملة، فمن الممكن أن يجتاحهم أذىً، أو أن تُصيبهم عينٌ
بسوء!..
وسارت القافلةُ على اسم الله، يُحيط بها دعاءُ يعقوبَ، وتكلأُها عين الله!..
يوسف وبنيامين
ها هي ذي القافلة تحطُّ في أرض مصر الرّحال .ويتوجَّهُ أبناء يعقوب العشرة بأخيهم
بنيامني إلى عزيز مصر، فما كانوا في حديثهم السّابق، معهُ، الاّ صادقين!..
ويستقبلهم العزيز ببشاشة وجه طلقٍ، وترحابٍ نديٍّ!..
ويحين موعدُ الطّعام، فيجلسُ كلٌّ إلى أخٍ له، يشاطرُهُ الغداء.. ويومئ العزيز إلى
بنيامينَ، فيأخذُه من يده، ويتغدّيان معاً.. ويرمُقُ أبناء يعقوب أخاهم بنيامين،
وهو يؤاكلُ الملك، بطرفٍ حسودٍ!.
وفي غفلة عن أعيُنهم يهمسُ يوسفُ في أذن بنيامين:
﴿إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون﴾
ويوصيه بألاّ يبوح هذا السرِّ أمام إخوتِه، أبداً!..
ولمّا جهّزهم الملكُ بجهازهم، موفياً لهم الكيل، أمر بوضع صواع الملك (الصواع، أو
الصاع: مكيال نصف مد) في رحل أخيه بنيامين.
وما أن ابتعدت القافلة قليلاً، حتى استوقفها صارخٌ:
- على رسلكم!.. تريَّثوا قليلاً!..
- ما الأمرُ، أيّها الحرسيُّ؟.
- لقد فقدنا صواعَ الملك، وهو كما تعلمون، من الذّهب الخالص. إنني كفيلٌ لمن يجئُ
به، بكيل بعيرٍ من الحنطة، وما هذا الكيلُ بيسير!..
- والله ما كنا لنخون، وما كنّا لنسرقُ، ولا لنعيثُ في الأرض فساداً، نحن، يا هذا،
أبناءُ نبيٍّ ابن نبيٍّ، فاتّق الله في أمرنا!..
- مادمتم لتقولون ذلك، فهيّا إلى العزيز، ليرى رأيه في ما تقولون!..
ويعود أبناء يعقوب إلى عزيز مصر...
- مالخطبُ أيّها العزيز؟
- إننا نفقد الصُّواع الذهبيَّ الذي نكيلُ به الحنطة للنّاس، فلعلَّ أحدكُم سرقه!.
- سرقه؟.. أترى في وجوهنا سيماء لُصوصٍ، وسُرّاقٍ؟..
- لعلّه يكون في أحد أحمال هذه الحنطة التي على الإبل، فهيّا، وأنزلوا ماعليها من
أحمالٍ!..
ويُسرع أبناء يعقوب ينيخون الجمال، وينزلون ما عليها من أحمال حنطةٍ، وهم يقولون:
والله ما كنّا سارقين!..
ويقول لهم العزيزُ، وهم يفُكُّون أربطة رحالهم:
- ما جزاءُ من سرقه إن تبيَّن أنه في رحال أحدكُم؟..
فيجيبون: كما يقضي بذلك، عندكُم القانون.
-يتحمَّلُ وحده العقاب دون الآخرين.
- وهو كذلك!..
ويتقدم العزيز فيتحسَّسُ أحمال إخوته العشرة، وهم يبتسمون،.. فلا يجد شيئاً..
ثم يمدُّ يمينه إلى حمل بنيامين فيستخرج الصُّواع منه،.. ويرفعُه في وجوههِم!..
وتعقُلُ الدَّهشة ألسنةَ أبناء يعقوبَ، ويسطع الغضبُ من عيونهم، فتظهرُ وجوههم
حمراء دكناء!.. فمتى كان هذا الحمل الوديع لصّاً خطيراً؟.. ﴿قالوا: إن يسرق فقد سرق
أخٌ له من قبلُ﴾
فيرمقهم عزيز مصر بنظرة كالصّاعقة؛ فما زال هؤلاء الرّجالُ على ضلالهم القديم!..
ويجيلُ نظراته في هؤلاء العشرة من الرجال، وقد اعتراهم خزيٌ كاسحٌ، ﴿قال: أنتم شرٌّ
مكاناً والله أعلمُ بما تصفون﴾
وأمر عزيزُ مصرَ ببنيامينَ فأوقِفَ جانباً..
ولمّا رأى أخوتُه ذلك، ذكروا أباهم، والمواثيق الّتي أخذها عليهم، والعهود.. إنّه
لآمرٌ، جدُّ فظيعٌ!..
ووقفوا أمام عزيز مصر مستعطفين...
﴿قالوا: ياأيّها العزيزُ إنّ له أباً شيخاً كبيراً، فخُذ أحدنا مكانه إنّا نراك من
المحسنين. قال: معاذ الله أن نأخُذ إلاّ من وجدنا متاعنا عنده إنّا إذاً لظالمون﴾
فأطرقوا!.. إنّ العزيز ليقول حقّاً ويحكمُ عدلاً!..
يهمُّون بالإنصراف، وقد اكتسحهُم همٌّ ثقيلٌ، فبأيِّ وجهٍ سيُلاقون أباهم، وقد أخذ
عليهم موثقاً من الله، غليظاً، وعاهدوه، فما قُدِّرَ لهم الوفاء؟
ويضرب كبيرُهُم الأرض بقدمه، قائلاً لإخوته:
- ويحكُم!.. أنسيتُم عهدكُم لأبيكم. بئس ماتعودون به إليه،.. أمّا أنا، ﴿فلن أبرح
الأرض حتّى يأذن لي أبي، أو يحكُم الله لي وهو خيرُ الحاكمين﴾
.
وعاد أبناء يعقوب إلى أبيهم، مطرقي الرؤوس، منكّسي الهامات، كأنّهم وراء جنازةٍ
يسيرون.. ويخبرنه بالحدث، فيضربُ يعقوبُ رأسه بكلتا يديه!..
بالأمس فرّطوا بيوسف، واليوم ببنيامين،..
وأجهش الشيخ منتحباً.. ورماهم بغليظ القول، أشدّ من السّياط لسعاً، واتَّهمهم
بالتَّفريط والتّقصير، سوؤ النيّة، والتّقدير!..
ولكنّ الشّيخ الكبير لايزالُ على عظيم ثقة ببقاء يوسف حيّاً يُرزق، وبأن بنيامين
سيعود إليه يوماً!..
ولكن: أين يكونُ الأول؟... ومتى يعودُ الثاني؟..
وغالبهُ حزنٌ وقهرٌ قغلباه. فاستسلم لمشيئة الله، وكأنّ قبله تقطّعهُ المدى!.. وقال
لأبنائه: ﴿يابنيَّ اذهبوا فتحسسّوا من يوسفَ وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنّه لا
ييأسُ من روح الله إلاّ القوم الكافرون﴾
.
خاصةً، وأنّ القحط والجفاف عادا يضربان أرض شماليِّ الجليل، فالسّنواتُ عجافٌ،
شدادٌ، مهازيلُ.
المفاجأة
ويذكرُ أبناء يعقوب عزيز مصر، وعدله، وكرم يده، وشمائله الحسان، وأخاهُم لديه..
فيجمعون مابحوزتهم من مالٍ يسيرٍن ويتوجَهون به إلى بلاد العزيز..
ويدخلون عليه قائلين:
ياأيُّها العزيزُ، لقد ابتُلينا بأمورٍ عظامٍ، وخُطوبٍ جسامٍ إذ شحّت السّماءُ،
وأجدبت الغبراءُ، فأصابت أهلينا البأساءُ والضّرّاء، وجئناك بما أبقت عليه الأيام
النّكداءُ، والخطوب النّكراءُ، وهو مالٌ جدُّ يسيرٌ، وقليلٌ حقيرٌ، ﴿فأوف لنا الكيل
وتصدّق علينا إنّ الله يجري المتصدّقين﴾
﴿قال: هل علمتُم مافعلتُم بيوسُفَ وأخيه إذ أنمت جاهلون﴾
.
ويستعيدون في أذهانهم صورة أخيهم يوسف، كفلقة القمر اشراقاً ولألاءً، إنّه، وربِّ
ابراهيمَ- لهو!.. وقد القت النعماء عليه مسحةً من مزيد بهاءٍ وإشراقٍ..
فيا للمُفاجأة الصّاعقة!..
ويصرخُ بعضُ إخوته، وقد داهمتهُم المُفاجأةُ فأخرجتهُم عن طورهم، وتأدُّبهم أمام
عزيز مصر، ﴿قالوا: أإنّك لأنت يوسُفُ!﴾
ويجيبهم بكل هدوءٍ: ﴿قال: أنا يوسفُ وهذا أخي قدْ منَّ الله علينا، إنّه من يتّق
ويصبِر فإنَّ الله لايُضيعَ أجرَ المحسنين﴾
.
فاعترفوا بخطيئتهم، وقد تطأطأت منهم الرُّؤوسُ، فلا يستطيعون النّظر إلى وجه إخيهم
خجلاً من فعلتهم الشَّنعاء...
واستأذنُوه أن يعودوا إلى أبيهم بالبُشرى، فإذن لهم.. وجهّزهم بما ناءت به العيرُ،
وبقميصٍ له، طلب إليهم أن يلقُوه على وجه أبيهم حينَ يصلون!..
وقفلت العيرُ، وئيدةً، بطيئةً، بما عليها من أحمالٍ ثقالٍ، وقد توجّه بها أبناء
يعقوب إلى بلادهم في شماليِّ الجليل، وقد علا صوتُ الحادي، فأخذت العيرُ تجدُّ في
المسير!..
وأخيراً،.. وصلت العير إلى مواطنها، وأشرف أبناءُ يعقوب على أبيهم، وقد حمل البشيرُ
قميص يوسف، وأخذ يعدو نحو أبيه..
فصاح يعقوبُ: ﴿إني لأجِدُ ريحَ يوسُفَ﴾
وطُرِحً قميصُ يوسفَ على وجه يعقوب المتغضِّن، الّذي لايبين منه إلاّ لحيةٌ كثّةٌ،
مرسلةٌ على سجيّتها، تعلوها عينان غائرتان، غاض فيهما النّورُ، .. فارتدَّ
بصيراً!... وسجد لله شكراً؟، وقد ردَّ إليه يوسفَ بعد طولِ غيابٍ..
فيا للبُشرى التي لا يُحيطُ بها وصفٌ، وكأنّها لغرابتها، من عالم الخيال!..
وبعد عدَّة أيام تهيَّأ يعقوبُ، وأهلُ بيته جميعاً، للتوجُّهِ إلى مصر حيث العزيزُ،
العزيزُ!..
وشهدت أرضُ كنعان قافلةً تحملُ خليطاً من رجالٍ ونسوةٍ، وصبيةٍ صغارٍ، وبعض مالٍ،
ومتاعٍ،.. وفي مقدّمتها شيخٌ مهيبٌ وقورٌ، يحث راحلته إلى أرض الكنانة!.
رواية
ورد في إحدى الرّوايات، أنّ بعض أملاك السّماء استأذنوا الله أن يشهدوا لحظة لقاء
يوسُفَ بأبيه يعقوبَ، فأُذن لهم، إنّها من اللّحظات النّادرة في التاريخ!..
وشاهدت الملائكةُ في هذا اللِّقاءِ عجباً:
الشيخ يفتحُ ذراعيه، صائحاً، ساعة شاهد إبنه، ويعدو نحوه، وكأنّه يطير.. وكذلك فعل
يوسُفُ!..
ويصل كلٌّ منهما إلى صاحِبه..
ويرتمي كلٌّ منهما في حِضن الآخر..
ويتعانقان.. حتى يكادَ جسداهما يلتصف الواحدُ منهما بالآخر!.. وقد تحدّرت منهما
دموع الفرح بسخاء، فتقطّرت على الأرض، غزاراً..
كما شهد هذا اللّقاء خلقٌ من المصريين، اصطفُّوا مرحّبين، وقد اغرورقت عيونهم
بالدّموع..
وآوى يوسف أبويه وإخوته إليه في القصر، وقد أحاطوا به..
وانتظم عقدُ لقاء يوسُف بأبويه وإخوته أجمعين، وقد خرّوا له سُجّداً..
فالتفت يوسفُ إلى أبيه قائلاً: ﴿ياأبت هذا تأويل رؤيايَ من قبلُ قد جعلها ربّي
حق﴾
ويهزُّ الشيخ برأسه، وقد طفرت من عينه دمعةٌ حرَّى..
ويُردِفُ يوسف، قائلاً، بصوتٍ متهدِّج، وقد رفع كلتا يديه إلى السَّماء:
-﴿ربّ قد آتيتني من المُلك، وعلّمتني من تأويل الأحاديث، فاطر السّموات والأرض،
أنتَ وليِّي في الدُّنيا والآخرة، توفّني مسلماً وألحقني بالصّالحين﴾
.
نهاية المطاف
كان موكبُ يوسُفَ يشقُّ المدينة، وحوله جندٌ وحرسٌ، وحشمٌ وخدمٌ.. وقد تجمهر الناسُ
على جانبي الطريق ليحظوا بمشاهدة عزيز مصر، ومليكهم العادل المحبوب...
وكانت عجوزٌ شمطاءُ قد اقتعدت إحدى زوايا الطّريق، والنّاسُ حولها في هرجٍ ومرجٍ
ووصخبٍ وضوضاء... فعزيزُ مصر، يشقُّ موكبُه الجماهير المحتشدة بعناءٍ، وقد تدافعت
نحوهُ هاتفةً باسمِه، فهو بين مسلِّم عليه، ومصفِّق لهُ، وملوّحٍ من بعيدٍ..
وينعطف الموكبُ الملكيُّ بالقرب من العجوز، فتدعو بصوتٍ عالٍ كالهُتاف:
- سبحان من صيَّرَ العبيدَ ملوكاً بطاعته، والملوك عبيداً بمعصيتِهِ!..
ويصلُ الصَّوتُ إلى مسامع العزيز، فيأمر الموكبَ بالتوقُّفِ، ويسألُ عن صاحبة
الهُتاف، .. فيؤتى بالعجوز إليه..
ويسألها عزيزُ مصر عن سبَبِ هُتافها، وعن اسمِها، وعن حاجتها...
ويقشعرُّ بدنُ العزيز، وقد عرف العجوز الّتي ذهبت بنضارتها السُّنون...
إنّها زليخا!.. وقد قلب لها الدَّهر ظهرَ المجنِّ!..
وكم لها في قلبه من ذكريات لا تزولُ، وكأنّها محفورةٌ على صخر أصمَّ... وكم لها في
ماضية من تاريخٍ حافلٍ، ومزدحمٍ بالأحداث!...
ويطحبُها معه في الموكب الملكيِّ... ويُدخلُها القصر متوكِّئةً على عصاها، وقد
احدودب ظهرها، واضمحلّت قواها..
ويراها يوسف كذلك، فتطفحُ عيناهُ بالدّمع.. فيدعو الله أن يُعيدَ إليها نضارةَ
الصِّبا، وريعان الشَّباب، كما كانت أيّام تركُضُ خلفهُ في القصر وتُغلِّقُ
الأبوابَ...
تقولُ الرواية: إن الله يستجيبُ لنبيِّه دعوتَه.. فإذا بزليخا تعودُ كما كانت أيّام
زمان، تتألّقُ نضارةً، وتتفجَّر عنفُوانَ شبابٍ.
وينظرُ إليها يوسُفُ وقد عادت تميسً تيهاً، ودلالاً... ويطلبُ يدها للزواج
فتقبلُ...
ويُسدَلُ السِّتار على زواج يوسف من زليخا، كما شاء الله لهما ذلك.. فهما سعيدان!..
وعلى عودة أهله إليه جميعاً فهم في النّعيم يتقلّبون!...
ويرى الناسُ ذلك، ويسمع به آخرون، فيعجبون عجباً شديداً.. فهم لا يكادون يصدِّقون،
فالقصَّة تكاد تدخُلُ في باب الأساطير!..
ولكنّها من أنباء الغيب، ووحي السماء..
﴿وما أكثرُ النّاس -ولو حرصت- بمؤمنين!...﴾
(صدق الله العلي العظيم).