يتم التحميل...

جهاد النّفس

الأخلاق والثقافة الإسلامية

الحديث عن نفس الإنسان حديث له عدّة جوانب، فمن جهة لا بدّ من الحديث عن خصائص هذه النّفس، ومن جهة يمكن الحديث عن قواها الّتي أودعها الله تعالى فيها، ومن جهة أخرى عن سبل إصلاحها. وسوف نتحدَّث عن هذه النِّقاط الثَّلاث بشيء من التَّفصيل،

عدد الزوار: 118

أهمية معرفة النّفس‏

الحديث عن نفس الإنسان حديث له عدّة جوانب، فمن جهة لا بدّ من الحديث عن خصائص هذه النّفس، ومن جهة يمكن الحديث عن قواها الّتي أودعها الله تعالى فيها، ومن جهة أخرى عن سبل إصلاحها. وسوف نتحدَّث عن هذه النِّقاط الثَّلاث بشيء من التَّفصيل، إذ إن معرفة هذه النِّقاط الثَّلاث أمر أساس في علم الأخلاق، ففي الحديث الشّريف عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "من عرف نفسه عرف ربّه"1.

لذا صارت معرفة النّفس وإصلاحها من أهمّ الأمور في علم الأخلاق، بل إنّ علم الأخلاق: هو علم تهذيب النّفس بالدرجة الأولى للوصول بها إلى الكمال المرجوّ لها، ولا أدلّ على ذلك من حديث الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حين دخل عليه رجل اسمه مجاشع، فقال: "يا رسول الله! كيف الطّريق إلى معرفة الحقّ؟ فقال: معرفة النفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطّريق إلى موافقة الحقّ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: مخالفة النّفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطّريق إلى رضا الحقّ؟ قال: سخط النّفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطّريق إلى وصل الحقّ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: هجر النّفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطّريق إلى طاعة الحق؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: عصيان النّفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطّريق إلى ذكر الحقّ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: نسيان النّفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطّريق إلى قرب الحقّ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: التّباعد من النّفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطّريق إلى أنس الحقّ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: الوحشة من النّفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطّريق إلى ذلك؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: الاستعانة بالحقّ على النّفس"2.

النّفس ومراتبها

تتميز النّفس الّتي أكرم الله تعالى بها الإنسان عن غيرها من المخلوقات بأنّها جمعت العقل مضافاً إلى الغريزة والشّهوة، خلافاً للحيوانات الّتي وضع الله فيها الغريزة والشّهوة، أو الملائكة الّتي أكرمها الله بعقل دون غريزة وشهوة، ومن هنا فإنّ الإنسان لا بدّ وأن يستخدم العقل في تعديل المتطلَّبات الّتي تمليها الشّهوة والغريزة حتّى يسلك حدّ الاعتدال، قال الله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَ3.

وعندما نطالع الآيات القرآنيّة الّتي تحدَّثت عن النّفس نراها تحدّثت عن ثلاث حالات من حالات النّفس، كما أنّها وصفتها بصفات مختلفة منها:

1- الأمّارة بالسّوء:

يقول الله تعالى، في محكم بيانه: ﴿وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ4، فالنّفس الأمّارة بالسُّوء هي الّتي تتَّبع هواها، بحيث لا ترى أمامها سوى ما تتمنَّى الحصول عليه من الشّهوات بدون أيِّ التفات للشّريعة أو للمفاسد الدُّنيويَّة والأخرويَّة، ولذا فإنّ اتّباع النّفس الأمّارة بالسّوء يجلب الظُّلم والضَّلال، يقول الله تعالى: ﴿فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ5.

2- النّفس اللّوامة:
يقول الله تعالى في محكم آياته: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ6.

والمراد بالنّفس اللّوامة، نفس الإنسان المؤمن الّتي تلومه في الدُّنيا على المعصية، والتَّثاقل في أداء الطّاعات7.

وقد يطلق علماء النّفس عليها اسم الضّمير الّذي يؤنِّب الإنسان على ما فعله من القبائح.

3- النّفس المطمئنَّة:
يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي8.
والنّفس المطمئنَّة كما وصفها العلّامة الطّباطبائي في تفسيره "هي الّتي تسكن إلى ربِّها وترضى بما رضي به فترى نفسها عبداً لا يملك لنفسه شيئاً من خير أو وشرّ أو نفع أو ضرّ وترى الدُّنيا دار مجاز وما يستقبله فيها من غنى أو فقر أو أي نفع وضرّ، ابتلاءاً وامتحاناً إلهيّاً فلا يدعوها تواتر النِّعم عليها إلى الطُّغيان وإكثار الفساد والعلوُّ والاستكبار، ولا يوقعها الفقر والفقدان في الكفر وترك الشكر، بل هي في مستقَرٍّ من العبوديّة لا تنحرف عن مستقيم صراطه بإفراط أو تفريط...

وتوصيفها بالراضية، لأنّ اطمئنانها إلى ربِّها يستلزم رضاها بما قدَّر وقضى تكويناً أو حكم به تشريعاً، فلا تسخطها سانحة ولا تزيغها معصية، وإذا رضي العبد من ربه رضي الرّب منه، إذ لا يسخطه تعالى إلّا خروج العبد من زيّ‏ِ العبوديَّة، فإذا لزم طريق العبوديّة استوجب ذلك رضا ربِّه، ولذا عقَّب قوله "راضية" بقوله: "مرضيّة"9.

الحذر من النّفس الأمّارة

بعد أن عرفنا النّفس الأمّارة بالسّوء وميزتها، لا بدّ من مواجهتها وعدم الركون إليها، إذ إنَّ لبّ علم الأخلاق قهر النّفس الأمارة وكبح جماحها، لأنّها لا ترى إلّا ما تريد وتشتهي، ولو خلَّفت كلّ شي‏ء خراباً من خلفها. فإذا كانت النفس الأمارة خطيرة لهذه الدرجة، فلا بدّ من أن نجد لها علاجاً لإصلاحها وتليين طبعها الشّرس فما هي الطّرق الممكنة لإنجاز هذه المهمّة؟

ضرورة إصلاح النّفس‏

إنّ المسالك والطُّرق إلى الله كثيرة، بل هي بعدد أنفاس الخلائق، إلا أنّها كلّها تبدأ من خلال تهذيب النَّفس وتزكيتها وإصلاحها، ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَ10.

فينبغي بالدّرجة الأولى على من يريد إصلاح نفسه، أن يرغِّب نفسه بالأعمال الصّالحة، ويكون ذلك من خلال التَّفكُّر في الأعمال وما تستتبع من رضا أو سخط للمولى العزيز، وما يترتَّب عليها من آثار في الآخرة، فتطمع النَّفس بثواب الآخرة، وتخاف من عقاب الأعمال القبيحة.

وبما أن كثيراً من النّاس يميلون إلى الرِّبح السَّريع، ويفضلون الرِّبح القريب ولو كان قليلاً وتافهاً على الرِّبح البعيد ولو كان كبيراً وعظيماً، وهذه حقيقة في الإنسان قد ذكرها الله تعالى في كتابه حيث يقول جل شأنه: ﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ11، ﴿وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُول12.

فبسب شقاء هذا الإنسان تراه يستعجل ما يتصوَّره ربحاً في الدُّنيا ويترك فوز الآخرة. وهنا يتَّضح دور العقل في السَّيطرة على الأهواء النَّفسيَّة السّيِّئة، فلا بدّ من التّنبيه الدّائم للنّفس على الدّوام، لما وعد به الله تعالى أهل طاعته، وحذَّر منه أهل معصيته، لأنّ مجرّد عدم الالتفات إلى الجانب الأخرويّ من الأعمال والاستغراق في أمور الدُّنيا وتفاصيلها، يدخل الإنسان في نفق الغفلة المظلم ولا يستيقظ منه إلّا بعد الموت في الكثير من الأحيان ولعلّ هذا هو المراد من قول الإمام عليّ أمير المؤمنين: "النّاس نيام فإذا ماتوا انتبهوا"13.

وأمّا كيفيّة التَّفكُّر في أمر الدُّنيا وزوالها فهو كما يروى أن الإمام الباقر عليه السلام قال لصاحبه جابر في حديث طويل: "... يا جابر: إنّ المؤمنين لم يطمئنُّوا إلى الدُّنيا ببقائهم فيها ولم يأمنوا قدومهم الآخرة، يا جابر الآخرة دار قرار، والدُّنيا دار فناء وزوال، ولكن أهل الدنيا أهل غفلة، وكأنَّ المؤمنين هم الفقهاء أهل فكرة وعبرة لم يصمَّهم عن ذكر الله ما سمعوا بآذانهم، ولم يعمهم عن ذكر الله ما رأوا من الزِّينة، ففازوا بثواب الآخرة كما فازوا بذلك العلم. واعلم يا جابر أن أهل التَّقوى أيسر أهل الدُّنيا مؤنة، وأكثرهم لك معونة، تذكر فيعينونك، وإن نسيت ذكَّروك، قوّالون بأمر الله، قوّامون على أمر الله قطعوا محبّتهم بمحبة ربهم، ووحشوا الدُّنيا لطاعة مليكهم، ونظروا إلى الله تعالى، وإلى محبَّته بقلوبهم، وعلموا أنّ ذلك هو المنظور إليه لعظيم شأنه، فأنزل الدُّنيا كمنزل نزلته ثمّ ارتحلت عنه، أو كمال وجدته في منامك واستيقظت، وليس معك منه شي‏ء"14.

إذاً فإصلاح النّفس يبدأ من التَّذكُّر والخروج من نوم الغفلة عن الآخرة بالدَّرجة الأولى.

كيفيّة تهذيب النّفس

إنّ علاج النفس تارة يكون بإيجاد المانع فيها من فعل الذُّنوب، كأن يخوّف الإنسان نفسه بالنّار وغضب الجبار، ففي هذه الحالة يكون الدَّافع إلى الذَّنب موجوداً في النَّفس إلّا أنّه هنالك مانع من الوقوع فيه، وهو ما ذكرناه من الخوف وغيره من الموانع، وتارة يكون علاجها بإلغاء الدّافع أساساً، بحيث لا تطلب النَّفس الذَّنب، إذ لا رغبة لها فيه، والطّريقة الأولى هي من خصائص المسالك الأخرى لا مسلك الحبَّ الإلهيّ أمّا الطَّريقة الثّانية وهي قلع الدَّوافع من النّفس فهي من مختصَّات مسلك الحبّ الإلهيّ ولهذا المسلك والطّريق ركنان أساسيَّان:

الأوّل: ركن المعرفة والعلم بأن يصل الإنسان من خلال علمه إلى مرحلة يدرك فيها معنى التّوحيد بكل أبعاده، ومن خلال هذه المعرفة بالتّوحيد لا يبقى أيَّ موضوع لهذه الرَّذائل، ولن يتوجه بعد ذلك إلى النّاس، ولا يطمع بما في أيديهم، لأنّه يعرف حقّ المعرفة أنّ الغني منهم لا يملك ولا يعطي ولا يمنع إلّا بإذن الله تعالى فلا يرجوه، والقويّ منهم خارج عن قوّة الله فلا يخاف منه.

ولقد كان الإمام الخمينيّ قدس سره من المصاديق البارزة في هذا المضمار، إذ لم يخف طواغيت العالم، بل خاف مالك الملوك وجبَّار الجبابرة فأخاف الله تعالى منه طواغيت الأرض.

الثّاني: ركن العمل، إذ مجرد العلم لا يكفي في هذا المجال، فبعد أن يتعلَّم الإنسان التّوحيد يجب أن يكون توحيده عمليّاً لا نظريّاً فحسب، والطّريق إلى التَّوحيد العمليّ حبّ الله تعالى، فإنّ الإنسان إذا أحب شيئا أطاعه وعبده، بل إن من أثار الحبّ الطّاعة والتّسليم.

وخلاصة الأمر: أنّ على الإنسان أن يجعل قلبه متعلِّقاً بالله تعالى، وحده قال تعالى،: ﴿مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ15، إذ لا يجتمع حبّ الله تعالى وحبّ الدّنيا في قلب واحد، وإذا حصلت المحبّة في قلب الإنسان لله أخذ إيمانه في الاشتداد والازدياد، وانجذبت نفسه إلى التّفكير في ناحية ربِّه، واستحضار أسمائه الحسنى، وصفاته الجميلة المنزَّهة عن النَّقص والشَّيْن ولا تزال تزيد نفسه انجذاباً، وتترقَّى مراتبه حتّى صار يعبد الله كأنّه يراه...

فيأخذ الحبّ في الاشتداد، لأنّ الإنسان مفطور على حبّ الجميل، وقد قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ16، وصار يتَّبع الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم في جميع حركاته وسكناته، لأنّ حبّ الشّي‏ء يوجب حبّ آثاره، والرّسول من آثاره وآياته، كما أنّ العالم أيضاً آثاره وآياته تعالى، ولا يزال يشتدُّ هذا الحبّ ثمّ يشتدّ حتّى ينقطع إليه من كلّ شي‏ء، ولا يحب إلّا ربّه، ولا يخضع قلبه إلّا لوجهه، فانّ هذا العبد لا يعثر بشي‏ء، ولا يقف على شي‏ء وعنده شي‏ء من الجمال والحسن إلّا وجد أن ما عنده أنموذج يحكي ما عند الله من كمال لا ينفد، وجمال لا يتناهى، وحسن لا يحدّ، فله الحسن والجمال والكمال والبهاء، فيستولي سلطان الحبّ على قلبه.

* كتاب منار الهدى، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- بحار الأنوار، ج 2، ص 32.
2- م.ن، ج 67، ص 72.
3- سورة الشمس، الآيتان 7-8.
4- سورة يوسف، الآية 53.
5- سورة القصص، الآية 50.
6- سورة القيامة، الآيتان 1-2.
7- العلامة الطبطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج20، ص 103.
8- سورة الفجر، الآيات 27-30.
9- تفسير الميزان، ج20، ص285.
10- سورة الشمس، الآيات 7-10.
11- سورة القيامة، الآيتان 20-21.
12- سورة الإسراء، الآية 11.
13- شرح أصول الكافي، ج8، ص 294.
14- بحار الأنوار، ج70، ص 36.
15- سورة الأحزاب، الآية 4.
16- سورة البقرة، الآية 165.

2014-12-10