يتم التحميل...

وارث... فلسفة جمالية كربلائية

محطات من محرم الحرام

سؤال واحد يجول منذ أمد لماذا أمسك بيد نافع بن هلال وسار معه في تلك الليلة ؟ إي نافع ... كلّمنا نحن التائهون في الظلام ماذا فعلت حتى أمسك بيدك وسرتما معاً .... متى تجيب ؟؟! متى تعطي السجناء هنا بعضاً من الماء متى تعطي الساكنين في الثلج سر دفء تلك اليد ... اعذر جرأتي يا نافع ... اعذر طمعي ... ظلام يلف صحراءنا .....

عدد الزوار: 93

وارث... فلسفة جمالية كربلائية

سؤال واحد يجول منذ أمد لماذا أمسك بيد نافع بن هلال وسار معه في تلك الليلة ؟ إي نافع ... كلّمنا نحن التائهون في الظلام ماذا فعلت حتى أمسك بيدك وسرتما معاً .... متى تجيب ؟؟! متى تعطي السجناء هنا بعضاً من الماء متى تعطي الساكنين في الثلج سر دفء تلك اليد ... اعذر جرأتي يا نافع ... اعذر طمعي ... ظلام يلف صحراءنا .....

المقدمة المنهجية :
حادثة كربلاء باستثنائيتها تعد موضوعاً قابلاً للبحث، فهي حادثة إنسانية، فبالطبع متعددة الأبعاد، وهي حادثة للمقدس فيها موقع أساس، فلذا لها بعد ما فوق أرضي يتخطى المستوى التاريخي، وبذلك تنفتح لهذه الأسباب الثلاثة صفحات هذه الحادثة أمام البحث والتفكير بشكل واسع جداً يصعب الإحاطة به. تعامل الشيعة، أصحاب القضية، مع هذه الحادثة كأثر تاريخي تراجيدي، ثم كمحفز ثوري، ولاحقاً كشعار سياسي ومدماك لرؤية سياسية استراتيجية قائمة على إمكانية تحدي القوى المتفوقة بأضعاف عديدة. في المخيلة العامة، وفي عاطفة الجمهور الشيعي يقع الحزن في الأساس موقعاً شاملاً في النظر إلى الحادثة، فيغطي على أبعادها المترامية المنفتحة على كل صعيد وجانب، ليقتعد منزلاً أحادياً يختصر أغلب مساحة التخيل والتفاعل والاستفادة. بعد استلهام الحادثة الإستثنائية في الواقع التاريخي المعاصر، وبعد تحولها إلى أمثولة بنى عليها الشيعة رؤيتهم لإعادة تموضعهم السياسي والتاريخي في العالم الإسلامي والعالم بأسره، وأصبحو قوة محركة على مستوى القارات الخمس، رغم صغر مساحتهم وقلة عددهم، بعد كل هذا لا بد من إعادة النظر فيما يمكن أن نطل عليه من أبعاد جديدة، فقد انتقلت عاشوراء من طقس افتجاعي حزين، يرثي المقدس المظلوم، إلى طقس ثوري كامل، يستطيع أن ينقل الأمة الضعيفة المستفرد بها إلى مستوى التحدي والمجابهة والنصر في النهاية. هنا لا بد لنا من أن نعيد النظر، فهل نحن الآن في مرحلة اختزال أخرى، كتلك التي مرت على المخيلة الشيعية قبل ثورة الإمام الخميني، وهنا في هذا التحديد التاريخي طبعاً نتحدث بالإجمال، إذ كان ثمة استلهامات عديدة في التاريخ، ولكن لنتحدث عن المحطة البارزة على صعيد الخط البياني الشيعي، فهل نحن الآن نختصر عاشوراء في مفردتين: الحزن والثورة ؟ ألا يمكن أن تنطوي على أبعاد أخرى تضاف إلى هذين البعدين المركزيين؟ هنا كان لا بد من إعادة الحفر حول الحادثة وحول النص المعصوم الذي حاول تفسيرها وموضعتها من الحوادث التاريخية الأخرى، ليضعها على رأس تل لا يصله السيل. وكان إسم وارث، هو مفتاح رمزي للتفكير في مطاوي الحادثة ومجاهل أنوارها، فإن كان قطب الحادثة هو الحسين عليه السلام يرث كل الرسالات السماوية، فكيف حصل هذا التوريث ؟ ولماذا ؟ وبأي ظروف ؟ ولماذا انحصر التوريث بهذا الإمام دون غيره؟ إذا بدأنا من هذه الدلالة سينفتح أمامنا ألف باب، فالرسالات السماوية بأجمعها مدفونة في تراب كربلاء الدامي، فلذا كان علينا أن نذهب إلى هذا التراب، ونحفر قليلاً قليلاً على مهل، لنعرف أي دم أريق هناك، بل أي نور أريق في تلك الصحراء.

كربلاء إذن مفتاح الإرتباط بالرسالات السماوية، وهي خلاصة الوحي إذن، فهل يكفي أن تكون نظرتنا إليها محصورة في بعدين اثنين بشكل مركزي، فيما تبقى كل الأبعاد الأخرى قائمة بشكل هامشي ؟ إذا كان مفتاح الرسالة الإلهية للإنسان ذائباً في تلك الحادثة فلا بد لنا، إذا أردنا أن نستفيد منها كما يليق بها وبنا، أن نفتش عن الأبعاد الأخرى، فثمة غاية قائمة بذاتها من هذا التلخيص للرسالات الإلهية، وهو ليس أمراً ثانوياً بالتأكيد، بل دفع لأجله دم العترة وسبيت لأجله نساء الرسول صلوات الله عليه.

الحادثة التي أمامنا وقعت في الزمان التاريخي ولكنها حادثة مقدسة، فهي ليست حادثة عادية، فكل حركة فيها قائمة على دلالة مقدسة، وعلى ارتباط بالرسالة الإلهية، فهي إذن لها بعد ما ورائي، مضافاً إلى البعد الدنيوي التاريخي والسياسي والمادي، هنا نحتاج إلى منهج جديد في قراءة التاريخ، يدمج بين الواقعي المادي والمقدس المتعالي. المقدس ينطوي في شخصيات الحادثة، فهذه الشخصيات بدءاً من قمة الهرم، الإمام الحسين صلوات الله عليه، وصولاً إلى أهل بيته وأصحابه ونسائه، فلا بد من فهم الشخصيات فهماً تحقيقياً علمياً، فما هي دلالات سلوكياتها، وما هي فلسفة مواقفها، فلا نكتفي بالسرد الحدثي المباشر، فالحدث هنا له دلالة عليا، كربلاء التي بكى فيها الأنبياء حينما مرو بها، لم توجد لتكون طقساً رثائياً وليست حدثا تاريخياً، بل هي حدث ما فوق زمني، موجود في عالم المعنى، عالم الرسالة.

المنهج المطلوب ينبغي أن يجمع بين التاريخ والفلسفة، وبين التراجيديا والمقدس، وبين التشريع الإسلامي والمواقف والشخصيات، لكي نحاول الوصول إلى كربلاء المعنى، التي وقفت خلف كربلاء التاريخ، وأنتجتها حين وقع الزمان الخاص بها في التقدير الإلهي.

يساعدنا النص المقدس على البدء بطرق باب البحث، فثمة العديد من العبارات التي أرسلها المعصومون باختصار شديد لتعبر عن نظرتهم إلى تلك الحادثة، وفي الأعم الأغلب كانت تلك العبارات تشير إلى كربلاء المعنى، لا كربلاء التاريخ. الحسين عليه السلام أسماها الفتح، والسيدة زينب عليها السلام حصرت الحادثة في النطاق الجمالي، فما رأيت إلا جميلاً، تدلنا على أن كل ما حصل كان له دلالة جمالية، رسول الله صلى الله عليه وآله كان له تعبيرات متميزة مختصة بالحسين عليه السلام، فحسين مني وأنا من حسين، وأشار إلى أنه مصباح الهدى وسفينة النجاة، ففي كربلاء جمال ونور هداية لم تطمسه سنابك الخيل ولا الرماح والسيوف، بل هناك اشتعل ذلك المصباح، نحن هنا إذن أمام مشهد برزخي بين المادة والحدث وبين المعنى الكلي الملكوتي، وبين الشهادة والموت والهداية والرشاد للإنسانية، إذن نحن أمام هندسة إلهية لحدث ما فوق تاريخي فريد، أريد له أن يبقى حاضراً كحرارة في قلوب المؤمنين، وكطقس عبادي ديني مستمر، لا ينتهي، وهو في كل أرض وفي كل زمان. العبارات المطلقة للمعصوم تفتح الباب على البحث من كل زاوية، على أننا لن نلقي على كاهلها عبء تفسير هذه النصوص، بل سنستفيد منها في توسيع نطاق نظرنا.

كربلاء : تراجيديا مفردة
الإنسان اهتم بالتراجيديا منذ نعومة أظفار الحضارة، فكتب عن المأساة والألم، وجعل من تلك النصوص تعبيراً جماعياً يهتم به الجميع ويرفعونه إلى مصاف القيمة الثقافية والحضارية العليا، فقد كانت المأساة الإنسانية محل اهتمام ولا تزال. عاشوراء تراجيديا مفردة، فهي أنزلت المثال المتخيل إلى الواقع التاريخي فيما كانت التراجيديا صناعة مبتكرة غير واقعية للمثال، ففي كربلاء التقى الواقع بالمثال بحيث لم يعد هناك حجاب مادي يحجب المثال المجرد، أصبح المثال واقعاً فانمحى الفاصل بين الإلهي والسياسي فالعمل لله والعمل للناس صار واحداً، فالحسين استشهد لأجلك ولأجلي وفي سبيل الله في آن

التطلع التراجيدي كان طموحاً بشرياً لمشاهدة المثال ولو بالمحاكاة، أما كربلاء هي إثبات لإمكانية تحول المثال إلى واقع، وهي تراجيديا موضوعها عذابات العروج إلى الله سبحانه وتعالى، وهي بذلك كربلاء معجزة محمد، وهي المشهد الجمالي العاطفي الإنساني للشريعة السماوية، وهي حياة التعاليم وحركتها الحيوية التي تجعلها واقعاً، وهي تمثل تحقق الروح الإنسانية السامية في الجسد وسيطرتها عليه بالكامل، وبالخلاصة فإن تراجيديا كربلاء هي الجمع بين العقل الفلسفي العقائدي والعاطفة الإنسانية.

كربلاء، سقاية الجدب، دمع ودم
الشريعة التي تنزلت على رسول الله محمد صلوات الله عليه تحمل مجموعة من القواعد التي تضع الإنسان في مساره التكاملي الهائل وتحدد طريقه إلى العلياء الشامخة في القرب من الخالق والعبودية له، والإنسان الذي يتلقى تلك الرسالة يحتاج إلى فهمها والإنتقال من ثم إلى المشاهدة والمعرفة القلبية بالرسالة وبالمرسل ومن جهة أخرى فإن هذا السير التكاملي الشاهق يحتاج فيه الإنسان إلى الحافز، أي المثال الجمالي الجذاب الذي يحركه نحو تخطي الحجب المادية والمعنوية ويظهر له إمكانية وقدرة الإنسان على الوصول إلى التطبيق الحقيقي لتعاليم الشريعة التي تجعله في أقرب درجة ممكنة للإنسان المخلوق في القرب من الخالق المطلق.

الشريعة إذن بحاجة إلى التجربة المثالية الواقعية التي توجد الصلة بين الإنسان بالقوة والإنسان بالفعل. كربلاء أخذت هذا الدور، فمضافاً إلى الحفاظ على وجود الرسالة من الناحية التاريخية، كان تقع عليها مسؤولية حفظ وجودها من الناحية المعنوية من خلال إظهارها لحقيقة الشريعة والناتج المباشر لتطبيقها على مستوى الفرد والجماعة، وبالتالي الحفاظ على روح الشريعة ومضمون الوحي، وتظهير معاني الوحي الإلهي.

كربلاء هي أعلى تجلي للشريعة، الإنسان الكامل، الصفات الإلهية، في سياق التجربة البشرية، فهي أوضح تعبير عن هذه القضايا الثلاث، هذا هو الطرح العام والكلي لهذا البحث.

كيف حافظت كربلاء على الدين الإسلامي في الساحة التاريخية ؟
في البعد التاريخي منعت واقعة كربلاء مشروع اجتثاث الإسلام من التحقق، ذلك المشروع الذي وصل في عهد يزيد إلى الذروة، فغدا مشروعاً مباشراً وعملياً ومعلناً، قابله سكوت مطبق من العالم الإسلامي. أوجدت الواقعة ردود فعل ثورية قاسية، وحددت خطاً أحمر أمام السلطات الزمنية التي حكمت العالم الإسلامي، بأن لا إمكانية لاجتثاث الإسلام.

كيف حفظت كربلاء مضمون وروح الوحي ؟
حفظ الإسلام على المستوى الزمني هو إحدى أبعاد حفظ الإسلام، كما أشرنا، فمن ناحية الحفاظ على روح الرسالة ومضمونها وحقيقتها كان لتلك الواقعة الدور الكبير، فهي قدمت روح الشريعة تطبيقاً حياً أمام المجتمع الإسلامي وأمام التاريخ والعالم، فحين وضع النموذج الإنساني الكامل في اطار تجربة قصوى، تنطوي على اكبر قدر من التحديات والصعوبات، ظهرت كمالاته الفعلية لكل من شاهد أو سمع بالتجربة، فغدا هذا النموذج أمراً واقعياً ملموساً ومحسوساً بشكل مباشر، وبذلك أنجزت الواقعة الدامية المكللة بالدموع مهمة الحفاظ على اتصال الإنسان المسلم بروح الشريعة حينما يريد، فهي بمثابة المرآة التي تعكس بصفاء روح الرسالة بحيث تشكل مرجعاً واضحاً لكل من واجه شبهة أو اشكالاً، ودليلاً تطبيقياً يتخطى المسألة القتالية والجهادية ليصل إلى المستوى الحضاري الواسع، ما سنبينه خلال الفصول القادمة بالتفصيل بإذنه تعالى.

يشتبك هنا التاريخي مع السماوي المجرد، فقد كانت الخلافات السياسية والزمنية قد ولدت مشكلات عديدة جداً على المستوى الفكري والروحي والأخلاقي نخرت جسد المجتمع الإسلامي، بحيث وصل إلى حد السكوت الشامل على مشروع الإجتثاث ومشاركة شرائح رئيسية فيه، هنا كان لا بد، من زاوية نظر تاريخية، من إحداث صدمة في الوعي، في العقل والعاطفة معاً، لإيقاف مسار الإنحراف ووضع خطوط حمراء أمامه.

كيف ظهَّرت كربلاء معاني الدين الإسلامي ؟
من ناحية كانت كربلاء قتالاً ودفاعاً عن الدين، من قبل جماعة يقودها فرد، هو اكثر معرفة وتقمصاً وانتماءً وايماناً وتمحضاً بهذا الدين وهذه العقيدة، ومن ناحية ثانية، ولأن هذه الجماعة كانت على اعلى قدر من الإيمان بهذا الدين، كانت على استعداد لبذل كل شيء لأجله، وكانت على أعلى قدر من الذوبان في الشريعة بحيث تستطيع أن تقدم النموذج التطبيقي الأكثر وضوحاً وجاذبية. فهي كحالة اختبار وتحدٍ غير عادي لانتماء هذه الجماعة إلى فكرتها، مثلت هذه الجماعة بسلوكها الكلي والتفصيلي التجلي الأمثل لهذه الفكرة. هذا التحدي الذي نصفه بالغير عادي كان تحدياً محسوم النتائج منذ البداية، فليس هناك احتمال لانتصار مادي ارضي، ليس هناك إلا غاية واحدة، وهي الدفاع عن هذه الفكرة، ومن هنا فإن كل ما حصل كان إثباتاً للفكر والعقيدة، غير مشوب بأي غاية أخرى، لأن أي السعي لأي غاية أرضية مادية كان غير منطقي وغير موضوعي وليس موجوداً في الحسبان في الأصل، لذلك انفردت هذه الواقعة بمدى تماهيها مع الفكرة المحركة لها، ومدى تمثيلها لها، وشدة وضوح هذا التمثيل ونقائه من اي احتمال آخر خلال تحليل المتلقي لما حصل.

الحسين : الإمام القائد
قبل الدخول في تفصيل المشهد الكربلائي الوجودي، لا بد من الإضاءة على طبيعة ما حصل في دائرة القطب منها، وهو الدور الفعلي الذي قام به سيد الشهداء صلوات الله عليه، كيف تحرك هذا القطب، وأنتج هذا المشهد الإلهي، وما هي البعد الواقعي المباشر لدوره، ما هو المشهد الظاهري لهذه الحادثة في دائرة قطبها؟

الخلافة الإلهية في موضع التطبيق، الخليفة هو الذي يسيل الأمر الإلهي والوحي الإلهي في الوجود الدنيوي، والعوالم المختلفة، وظهور الخليفة هنا، في تلك الواقعة، يبين لنا الدور المناط به، وطبيعة الإنسان الكامل الذي يحمل العبء الإلهي العظيم. فما هي مميزات هذا الظهور في كربلاء عن سائر الظهورات، وما هو مدى اتساع الأدوار وتنوعها ومدى ظهور سيطرته وهيمنته على سائر الأبعاد والجزئيات المختلفة في سلم التشكيك الوجودي.

* الأبعاد القيادية في شخصية الإمام والتي تجلت في مسيرة كربلاء

القرار
منذ لحظة طلب والي المدينة مجيء الإمام الحسين صلوات الله عليه إلى قصر الإمارة، كان الإمام مدركاً لما حصل، فقد مات معاوية، ويريد الوالي أن يأخذ البيعة قبل أن يفشو في الناس الخبر، منذ تلك اللحظة اتخذ الإمام قرار الرفض، وصرح أمام الوالي بذلك، ثم ارتحل مع عياله إلى مكة، وهناك وصلته رسائل أهل الكوفة، فأرسل مسلم بن عقيل إليها، ووصلته من ثم رسالة من مسلم تفيده بضرورة التعجيل بالقدوم. هنا اتخذ الإمام قرار المواجهة والإنقلاب على السلطة الديكتاتورية الأموية، استناداً إلى دعم أهل الكوفة ومبادرتهم. في الطريق وقبل الوصول إلى الكوفة وصلت إلى الإمام أخبار استشهاد مسلم بن عقيل، هنا لم يتغير القرار، واستمر السير حتى وصل إلى كربلاء بعد جعجعة الحر الرياحي. الإمام وحيداً اتخذ هذا القرار، وهو المبادر إلى صناعة هذه الحركة التي انتهت بيوم الواقعة، وهو المحرك لكل من التحق به، فقراره هو مصدر شرعية التحرك، وهو الحافز للإستمرار في هذا الحراك الإستشهادي، فهو بقراره هذا منشأ كل الأحداث التي حصلت.

الوعي التاريخي
استند الإمام في قراره إلى معرفة بالظروف التي مرت بها الأمة منذ وفاة رسول الله صلوات الله عليه، وبالظروف التي وصلت إليها عند لحظة موت معاوية، فهو عايش كل هذه المراحل والأزمات والفتن والحروب، والتغيرات التي طرأت في الثقافة والنظام السياسي والقيم الدينية والإجتماعية والظروف الروحية والأخلاقية للمجتمع، وكذلك كان يمتلك رؤية واضحة وحاسمة عما سيؤول إليه وضع الأمة عند استقرار يزيد في السلطة، دون أي رقابة أو محاسبة سواءً إدارية أو شعبية أو دينية، فعلى الإسلام السلام إذا ابتليت الأمة براعٍ مثل يزيد، فالقرار كان مستنداً إلى رؤية متكاملة لما سينتج عنه وجود يزيد في السلطة متربعاً على عرش شرعية خلافة المسلمين، بل خلافة رسول الله صلوات الله عليه. عندما ارسلت الكوفة برسائلها، كانت هي المدينة الوحيدة في العالم الإسلامي المترامي الأطراف التي أعلنت رفضها للواقع المفروض، وهو العارف بتاريخها السياسي مع والده وأخيه، كان الإمام أمام الفرصة الوحيدة المتاحة في الواقع، للقيام بعملية انقلاب على السلطة المغتصبة، وعندما وصلت رسائل تغير الميدان الكوفي واستشهاد مسلم بن عقيل وانقلاب السيوف والقلوب، فإن كان ذلك دليلاً على انطفاء أي ضوء أمل في المجتمع الإسلامي، فذلك هو أخطر ما يمكن لسلطة يزيد أن تصل إليه في تطرفها واستبدادها، ولذلك فإن انقلاب الكوفة كان خير دليل على كلمته بأن على الإسلام السلام إذا ابتليت الأمة براعٍ مثل يزيد، ولذلك كان ما حصل في الكوفة دافعاً وسبباً للاستمرار في الحركة الثورية الحسينية الإستشهادية.

الرؤية الرسالية الكونية
على الإسلام السلام، أي أن على الإنسان الذي أراد له الله التكامل، سيسير نحو التسافل والحضيض الذي هو أقل من الحيوان، والإمام خليفة الله في الأكوان، رأى الإنسان الذي سينشأ في عهد يموت في الإسلام، وتنتهي فيه فروع الشجرة الطيبة، وتنحصر فيه شروط التكامل الإنساني، هذا التكامل الذي خلق الكون لأجله، فلذلك كان وجود يزيد يعني انهيار المشروع الكوني للإنسان وانتهاء الرسالة التي جاء بها الأنبياء التي تبين الغاية من وجده والقصد من وجود الكون الذي يحتضن هذا المشروع الإلهي، الذي يصل بالإنسان إلى أٌقرب مراتب الألوهية من خلال العبودية، والذي يرفع الإنسان من حالة الحيوانية إلى حالة الإنسانية الحقيقية.

المسؤولية
الإمام الكامل والمسؤول عن الرسالة الإلهية، كانت تقع على عاتقه أعباء الحفاظ على اتجاه المسيرة البشرية نحو التكامل، وهو المسؤول عن إبقاء باب التكامل الإنساني مفتوحاً على طول الزمن والمسار البشري، هذا المسار الذي كان معرضاً للإنكسار والإنتكاس إلى ما لا عودة، فعلى الإسلام السلام، هذه المسؤولية دفعت الإمام بمبادرته الذاتية وقراره الذاتي إلى اتخاذ قرار مسؤول دفع ثمنه دماء كل أبنائه وأصحابه وسبي نسائه وبناته في الصحراء، سلام الله عليه وعلى الجراح والدماء التي سالت من جسده المقدس.

الإستدامة في القصد
منذ لحظة توديع فاطمة العليلة في المدينة وحتى توديع الطفل الرضيع ذبيحاً في صحراء كربلاء، كان الإمام يسير في خط واحد، نحو مقصد واحد، لم تغير في هذا المقصد كل الصعوبات التي واكبته في المدينة إلى مكة إلى الطريق إلى أخبار الكوفة إلى كربلاء والعطش واستشهاد الجميع والنساء التي كانت تقف خلفه وهو يقاتل وحيداً أمام جيش من عشرات الآلاف. انثيال الناس عنه وترك الخواص والعوام لمسيرته وقافلته لم يغير الغاية ولم يتحول عنها، لقد كان تشخيصه صلوات الله عليه واضحاً : إن لم أخرج فعلى الإسلام السلام.

الرحمة وهم المجتمع
الغاية الأصلية لكل الحركة التي بادر إليها سيد الشهداء صلوات الله عليه، هي رحمة المجتمع، السلام عليك يا رحمة الله الواسعة، فهو باب للرحمة فتح على الأمة التي غرقت بين يدي يزيد واستسلمت له، فالإمام لم يخرج لغاية ملك أو سلطة، ولو كان ذلك لما استمر في السير حتى وصل كربلاء مدركاً لحال الكوفة، فهو كل ما قام به كان لأجلنا، لأجلي ولأجلك أنت، أنت الذي تتنعم ببركة الإنسانية والإسلام بفضل الدماء التي سالت، بفضل الصبر والعطش والسبي، بفضل الجراح والآلام والدموع التي لم تتوقف. الرحمة هذه هي ركن أساس في شخصية الإمام القيادية، فهو القائد الأب الذي يضحي لأجلنا، لأجل هدايتنا وإنسانيتنا وإنقاذاً لنا من الغرف في حضيض الحيوانية لا بل أقل.

الإستقطاب والتحفيز والدوافع
اجتذب الإمام كل من التحق بقافلته من الأصحاب، فبعضهم أرسل إليه الرسائل، وبعضهم أوفد إليه، وبعضهم الآخر زاره، وبعضهم الآخر التقاه في الطريق، وبعضهم مثل الحر الرياحي قابله كعدو في البداية، ثم اجتذبه بجماله اللامحدود. رغم رفض الكثيرين الإستجابة لدعوته فإنه استمر في دعوة الآخرين، ولم يخف عمن التحق به في البداية خبر استشهاد مسلم، بل خرج على الجماعة وأنبأهم بأنه ذاهب إلى الشهادة، وفي الليلة الأخيرة، ليلة العزم، أعطاهم الخيار بالانسحاب تحت جنح ليل التاسع من محرم، فهو دعاهم لكنه أراد أن يكون قرارهم ذاتياً بدافع صافٍ ويقين ثابت ليسجل ملحمةً ليس فيها أي خلل أو أي تراجع أو انسحاب أو ضعف.

ليلة العزم كانت تعبيراً من الأصحاب عن استعدادهم للشهادة من أجله وفي سبيله، لم يريدو الحياة من بعده، فماذا رأوا فيه ولماذا كانت تضحيتهم لأجله كفرد ؟ لماذا رأوا فيه ما لم يره الآخرون ؟ إنها حالة الجذب الوجودي التي يملكها الإنسان الكامل الذي يتمتع بالصفات الإلهية، فكل من يحمل نفساً صافياً وروحاً تحمل اللهفة والحب لتلك الصفات السامية تنجذب بشكل تلقائي إلى حامل تلك الصفات بشكلها الأسمى والأرقى والأعلى بين البشر.

صقل الدوافع والخطاب التعبوي كان جزءاً مكملاً للحماس والإندفاع الذي امتلكه كل من التحق بقافلة الإمام الشهيد صلوات الله عليه، واستمر في تلك القافلة حتى يوم العاشر،

البيان والتبيين
حركة الإصلاح عند الإمام الحسين صلوات الله عليه بدأت بالتبيلغ والحوار والخطاب، فبيّن طبيعة الإنحراف الموجود لمن لا يدركه، وحجمه وعمقه لمن حاول إهماله وتجاهل خطره، واعلن موقفه الواضح من ضرورة التصدي لهذا الإنحراف البنيوي في الأمة والذي كان وجود يزيد في السلطة رمزاً لاستفحاله واجتياحه لكل مفاصل الحياة، وفي بيانه كذلك دعا الخواص والعوام للقيام والإلتحاق بمشروع الإصلاح، وحرص على تبيين الموقف بأعلى ما يمكن من الوضوح لمعسكر عبيد الله بن زياد، حتى استخدم الدليل الحسي المباشر في النهاية سائلاً إياهم أليست هذه عباءة رسول الله صلوات الله عليه، حريصاً على أن يكون موقفه من القاصي والداني والعالم والجاهل وللأجيال التي عاصرت الرسول صلوات الله عليه وتلك التي لم تعاصره، لكي لا يكون هناك أي شك أو جهل بما خرج لأجله وبما ضحى بكل شيء في سبيله، ولكي لا يكون لدى أحد في المعسكر الآخر أي شك فيمن يقاتلون ولماذا يرفض التسليم والبيعة.

* الرؤية القيادية العامة التي حكمت تحرك الإمام


تحديد الهدف
الهدف الأساسي هو الإصلاح في الأمة، أما السبل التي توصل إلى هذا الهدف فهي مختلفة، فإما تقوم الأمة برفض يزيد وخلعه بدءاً من انقلاب الكوفيين، وإما تقوم ملحمة تاريخية وإنسانية خالدة بوضع الخطوط الحمراء أمام التيار الجاهلي الذي استعاد قوته وبدأ يهدد وجود الإسلام. فالهدف الأصلي نابع من الرؤية الكونية والمسؤولية الرسالية التي يحملها الإنسان الكامل خليفة الله في هذا الوجود، وهو هدف لا إمكانية للبحث فيه أو التراجع عنه، فهو نابع من أصل غاية وجود الإنسان، وطبيعة التكوين الإنساني الذي خلق ليكون إنساناً حاملاً للأسماء والصفات الإلهية كل بقدره وباستطاته، وإنساناً قادراً على التكامل والترقي لينهض من اسفل السافلين إلى أعلى عليين.

الخطة
مرت الخطة الاستراتيجية للإمام بمراحل، فعلى مستوى التحرك الأساسي بدأ الإمام برفض البيعة، ثم انتقل إلى الكوفة لقيادة الإنقلاب السياسي، ثم انتقل إلى مرحلة العمل الإستشهادي بعد وصول خبر مسلم، ولم يكن هذا التحرك عفوياً أو عشوائياً أو بدافع الحماس والرفض فقط، بل كان واضح الهدف والمسار، وعمل الإمام صلوات الله عليه على توفير أكبر قدر ممكن من الفرص لتحقيق أهداف هذه الحركة، ففي البداية تحرك في مكة القطب الأساسي للعالم الإسلامي في فترة الحج، ثم انتقل إلى مرحلة استطلاع وضع الكوفة، ولم يقم بهذا الإستطلاع إلى أن وصلته رسائل كثيرة، ثم تحرك بناءً على رسالة مسلم، التي أوضحت معالم الوضع الكوفي، وعندما وصل خبر انقلاب الكوفة واستشهاد مسلم، انتقل الإمام إلى المرحلة الأخيرة وهي الإستمرار في السير نحو الهدف، وهو الإصلاح في أمة جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. هذا التخطيط الواعي والذي عمل من خلال الوقائع وفهم الظروف ومتطلبات التحرك والتكيف مع تغير المعطيات هو الذي أوصل الحراك إلى هدفه الأصلي وحقق الغاية المنشودة.

مواءمة الهدف مع الإمكانيات
تميزت الواقعة بفقدان التكافؤ في الإمكانيات والقدرات والموارد، فأمام دولة كبرى وامبراطورية مدججة بالسلاح، كان ثمة عائلة وبعض الرجال الذين يؤمنون بقضيتهم يقفون منفردين في المواجهة. الواقع هذا فرض على معسكر الحسين الإقتصاد في استخدام القوى، والتدرج في ذلك، بهدف تحقيق أكبر قدر ممكن من الغاية التي قام لأجلها القتال، وهي إصلاح المجتمع، وتغيير وجهة نظر المعسكر الآخر لناحية تحديد صاحب الحق وحامل البصيرة والمنطق السليم. فقد أعطى الإمام الحسين صلوات الله عليه توجيهات لأصحابه والمقاتلين بين يديه بحيث امتنع على جيش العدو اكتساح معسكرهم بضربة واحدة، أو اقتصار المعركة على اشتباك واحد، واكتسب الوقت الكافي لتوضيح قضيته، وإضعاف عزيمة الخصم المتردد اصلاً في الحضور إلى معركة كان في مقلبها الآخر قبل وقت قصير.

المحافظة على المسار نحو الهدف ومنعه من الإنحراف
الهدف هو الإصلاح، ليس الوصول إلى السلطة، وليس القتال والإحتراب، وليس تحقيق مكاسب سياسية أو شخصية. حافظ الإمام الحسين صلوات الله عليه على التوجه نحو الهدف الأصلي، من حيث توزيع الوقت والأولويات، ومن حيث الأدوار، ومن حيث الإلتفات إلى محاذير الميدان. لم يكن يريد بناء نطاق خاص به يحكمه عبر سلطة نافذة كما دعي إلى اليمن أو إلى بعض القبائل الكبرى لتحميه، ولم يكن يريد الاصطدام مع العدو أو التغلب عليه فلم يبدأ بقتال سواءً عندما كان العدو قليل العدد وممكن التغلب حينما كان منحصراً بألف مقاتل بقيادة الحر بن يزيد الرياحي، أو عندما أصبح عدد الجيش المقابل يتجاوز العشرين ألفاً، ولم يكن ليقف في طريق هذا الهدف الموت والقتل والفناء فقد كان باستطاعته تغيير طريقه إلى الكوفة عندما وصلته أخبارها واستشهاد مسلم بن عقيل فيها.

* دور الإمام كقائد في ساحة كربلاء

التوجيهات الإستراتيجية: التموضع، الإستتار، توزيع الجيش والرايات
اختار الإمام صلوات الله عليه مكان نصب المخيم بشكل يؤمن أقصى حد ممكن من الحماية والإستتار لقواته وعياله في تلك الصحراء الجرداء، حيث استند إلى كثبان عالية، جعلها إلى ظهر المخيم، واتخذ خندقاً حول المخيم تم ملؤه بالأخشاب والقصب وإحراقه عند بدء المعركة، إلى جانب ذلك فقد أمر الإمام بربط الخيام ببعضها البعض بحيث تشكل بحد ذاتها عائقاً أمام تقدم قوات العدو. من ناحية ثانية وزع قواته القليلة جداً إلى ثلاثة أجزاء، كما هو التقليد العسكري في تلك الحقبة، ميمنة وميسرة ووسط، وجعل الراية الأساسية بيد أخيه العباس إلى جانبه.

التوجيهات العسكرية: إدارة الوقت والموارد
طلب الإمام تأجيل المعركة لليلة واحدة ليتاح له ولأصحابه التعبد والتهجد في الليل، ولذلك تأثير معنوي إيجابي على الأصحاب، وفي الصباح بدأ الإمام صلوات الله عليه بالخطاب والبيان والتوضيح إلى أن ضج المعسكر الآخر بأمر من قادته حتى لا يسمع كلمة الحق ولا يتزلزل عزمه للقتال، كل ذلك كان وقتاً مكتسباً لصالح معسكر الإمام على المستوى المعنوي. مع تقدم الوقت في ذلك النهار كانت قوات الإمام القليلة تخوض قتالاً تدريجياً، ففي البداية كانت الحملة الأولى إذ خرج عدد كبير من الأصحاب إلى المعركة واستشهدو جميعاً، ثم بدأت المعركة تأخذ وتيرةً أبطأ، حيث بدأ قتال المجموعات، كل أربعة رجال معاً، ثم بعد قليل أصبح القتال ثنائياً، وفي النهاية، بدأ النزال فرداً فرداً، إلى أن حان وقت الصلاة، وكانت لحظة معنوية لصالح معسكر الإمام، وفي النهاية برز الإمام وحيداً صلوات الله عليه، وقاتل حتى استشهد. لم يؤخذ المعسكر الصغير غيلةٌ، بل تمت الإستفادة من هذه القوات القليلة لإحداث أكبر الأثر المعنوي في صفوف العدو، الذي كان يطمح لمعركة حاسمة يتم فيها القضاء على المجموعة الصغيرة بسهولة ويسر ودون ضجة تذكر، ولكن التوجيهات العسكرية للإمام وإدارته الحكيمة للقتال منعت وقوع هذا السيناريو الذي يعني القضاء على مجموعة صغيرة بدون أثر.

التوجيهات المعنوية: الوجود المعنوي والتكويني للإمام، خطاب ليلة العاشر، كلماته لأصحابه يوم العاشر، الصلاة
الجاذبية التكوينية التي يمتلكها الإمام الحسين صلوات الله عليه هي نقطة محورية في الواقعة العاشورائية، ذلك أن خطاب الأصحاب ليلة العاشر كان بمنتهى الوضوح، كان القتال لأجل الإمام وللدفاع عنه، وليس هناك أي سياق آخر في كلماتهم، كان هو محور الحدث وبؤرة الحركة التاريخية برمتها. ليلة العاشر هي الأخرى تضمنت توجيهاً معنوياً أساسياً تجلى بالإختبار الحاسم الذي ألقاه الإمام على أصحابه، والمتمثل بإعطائهم الخيار في البقاء أو الرحيل، فأعطاهم إذناً شرعياً واضحاً بنكث بيعتهم وتركه في تلك الصحراء، في المعركة التي مشى إليها بقدميه، ولكنهم حسمو أمرهم بشكل نهائي وواضح، بل شديد الوضوح والبيان، فقد فضلوا الموت عشرات المرات، على الحياة بعد الحسين صلوات الله عليه، وكان ذلك اختباراً لقلوبهم. اللحظة الأخرى التي أعطت موقفاً معنوياً وروحانياً وسط المعركة، كانت صلاة الجماعة وسط السهام والرماح والسيوف.

عاشوراء والفتح
* تجلي الإرادة الإلهية في صنع النموذج الضامن لاستمرار المسيرة الإلهية
* الفتح كأقصى ظهور ممكن للجمال والجلال الإلهي في الساحة الدنيوية
* الإنسان الكامل هو الذي يعلم الأسماء والصفات الإلهية ويتمثل بها
* كربلاء أقصى ما يمكن من ظهور لهذا الإنسان الكامل
* كربلاء إذن هي أقصى ظهور لهذه الأسماء والصفات

الإمام الحسين صلوات الله عليه، أعطى للواقعة الكربلائية تسمية تعكس طبيعتها في رؤيته، حيث أسماها الفتح، في سياق ينم عن معرفته بما سيحصل، فمن لحق بنا استشهد، فما سيجري على أرض الصحراء هو استشهاد كل من يلتحق بقافلته، وسيسيل دم كل الثوار على التراب الحارب والملتهب تحت الشمس الضارية، ولكن حقيقة ما سيحصل هو الفتح، ثمة انتصار أو ثمة فجر سينبلج وحقيقة ستظهر وسط المشهد الملحمي الدامي، وهذا الفتح يبلغه الملتحقون، وهو غير الشهادة التي سينالونها، فهناك اشارة إلى شيء فردي هوالشهادة وشيء علوي هو الفتح.

هنا إذا أخذنا الزاوية التاريخية في التحليل تبرز أمامنا إشكالية أساسية، فإن كان المقصود من الفتح هو نتائج المعركة الإستشهادية فإن الإشارة كانت إلى ذات الواقعة وليس إلى نتائجها، فمن تخلف عنا لم يبلغ الفتح، فهنا القول لا يشير إلى ما بعد الواقعة، بل إلى ذاتها، فما هو هذا الفتح، وما هي طبيعته؟

الجماعة البشرية التي التحقت بقافلة سيد الشهداء عليه السلام إنخرطت في تكوين هذا الفتح، وهو فتحب الشهادة وليس انتصاراً مادياً، بل هو تحقق وظهور للحقيقة الإلهية، فعندما بينا أن ميزة كربلاء هي في وضوحها وتجليتها للمعاني التي تحملها الجماعة التي صنعتها وأنتجتها بإيثارها ودمائها وأشلائها ودموع سباياها، هنا نطوي خطوة أخرى في السؤال عن ماهية الحقيقة الكلية التي أسماها الإمام الشهيد بالفتح.

محور الواقعة هو الإنسان الكامل، هو الإمام الشهيد الغريب العطشان وسط البيداء بلا ناصر ولا معين، هذا الإنسان الكامل في جماله ونوره وحمله لكل ما هو جميل في هذا الوجود، في روحه وعقله ووجوده، فهو أرقى تجلِّ للجمال المطلق، وهو خليفة الإله المطلق، وسائر المشاركين في الواقعة هم كالفراشات التي تطوف حول الشمعة وتحترق في نارها اللاهبة، فهم ضحوا بأنفسهم لأجله وتمنوا الموت مرات عديدة لو كان ذلك ممكناً، كل ذلك كان لأجله هو، وهو الذي اجتذبهم وأخذهم إلى تلك الملحمة الدامية وهم في غاية الشوق والعشق، وهو الذي أخذ القرار بالقدوم إلى تلك البيداء والإستمرار في ذلك رغم معرفته باستشهاد مسلم بن عقيل، وهو القائد والمحرك الفعلي لكل ما حصل، بروحه وكلماته وصبره ورؤيته الكونية والتاريخية والسياسية، فهو أصل وبؤرة كل الملحمة وهو قطب هذا الفتح ومفتاحه الوحيد، وهو قمة التجلي، والباقي هم تابعُ له.

التجلي الأسمى للوجود الإلهي في الكون المخلوق وهو أبا عبد الله الحسين صلوات الله عليه، كان في تلك الساحة، ساحة البلاء الأعظم، ساحة احتكاك الجمال والجلال الإلهي مع أضيق الظروف المادية الدنيوية، التي يمكن لإنسان، في طول التجربة البشرية، أن يتحملها، في تلك الساحة التي يذوب وينهدم فيها كل ما هو مادي ونفسي ومعنوي، ويظهر فيها الجمال والجلال الحسيني الإلهي، وهو ربما ما نفهمه من آية "كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام" فالظهور مشروع بالفناء.

إذن، نحن نشاهد في إصغائنا لقارئ العزاء، الإنسان عندما يخرج من كل ذاتياته ولا يبقى منها أي شيء على الإطلاق، هذا الإنسان الذي يفنى بكل الأبعاد أمامنا، يصبح شفافاً إلى أقصى الحدود الممكنة، بحيث نشاهد من خلاله الأسماء والصفات الإلهية العظيمة والسامية، وهذه هي الحقيقة التي أسماها سيد الشهداء الفتح، وأسمتها سيدة السبايا بنت علي عليه السلام، زينب سلام الله عليها بالجميل، فوالله ما رأيت إلا جميلاً، ولم يكن هناك شيء سوى الجمال، كان الجمال الإلهي ساطعاً ومشرقاً ومنيراً من بين الأسنة والحراب وسنابك الخيول والرؤوس المقطوعة.

هذا الفتح هو أعلى شهود بالعين والأذن البشرية حين تريد أن تلتمس الطريق إلى معرفة الجميل المطلق، ولذلك كانت الدمعة تمحي كل الذنوب، لأنها دمعة شهود مباشر وإدراك معنوي قلبي للحقيقة المطلقة للجمال، وربما يشير الإمام الخميني إلى هذا المعنى بعبارته "شمس الجمال الحسيني"، ولذلك فإن هذه القمة الشامخة للظهور الإلهي التي تتعدى ما شاهده موسى عندما اندك الجبل وخر صعقاً، هي حقيقة إيمانية تكتمل بها المعرفة الإنسانية بالخالق، ولذلك مر الأنبياء في كربلاء، وبكوا هناك على الشهيد الأكبر، الذي هو الفتح بعينه، قبل حصول الواقعة بقرون طويلة، فهي حقيقة وجودية ما فوق زمنية، هي قمة تجلي الجمال والجلال.

عاشوراء وتجلي الصفات الإلهية

* التخلق بأخلاق الله وصفاته الحسنى
الصفات الإلهية مودعة في الفطرة الإنسانية، فهي تميل إليها وتستحسنها، وهي على صنفين جمالية وجلالية، وإليها تشير الآية "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان" فالسؤال موجه إلى الفطرة الإنسانية التي تشكل العنصر المعنوي المشترك بين بني البشر، وإلى ذلك يشير كلام الأمير صلوات الله عليه "ليثيرو لهم دفائن العقول" فتلك الصفات السامية مودعة ودفينة في الذات البشرية، ويكون دور الرسالة اثارتها واخراجها من حالة الكمون إلى حالة الفعل والواقع.

الإنسان الكامل هو الذي تتجلى فيه هذه الأسماء والصفات بأعلى قدر ممكن، وبأبهى وأجمل صورة وبأجلى وأقوى حال، بما يتخطى حالة الإنسان العادي حين يكتسب تلك الصفات، فهو مؤيد بالقدرة الإلهية، وله الهيمنة على سائر الموجودات.

الصفات هذه بشقيها تتفاوت وتتناقض، وهي باجتماعها في ذات إنسانية تشكل مصدر إطلاق تلك الذات وعبورها من حالة المحدودية إلى حالة التكامل والإطلاق إلى أقصى قدر ممكن

هذا التفاوت والتناقض بين الصفات هو سبب صعوبة اكتسابها مجتمعةً في الإنسان العادي، غير المعصوم، ذلك أنها تتطلب سعة وجودية، ويقظة روحية، وتوثباً نفسياً.

التفاوت والتناقض بين الصفات والأسماء هو مصدر تألق الذات البشرية، التي تحكم سلوكها صفة العدالة، حيث يتصرف الإنسان في كل موضع بما يناسبه من صفة وفعل.

اجتماع هذه المتناقضات في الإنسان العادي يحمل إشكالية الإنتقال من صفة إلى نقيضها، فهو يحتاج إلى الوقت لتحقيق هذا الإنتقال، وتتفاوت القدرة على الإنتقال بين الأفراد متأثرة بمستوى التجرد والتوثب النفسي والسعة الوجودية.

المشهد الكربلائي
ينقسم إلى ساحتين، ساحة معسكر الإمام الشهيد، وساحة معسكريزيد
اتصف بمدى التناقض بين المعسكرين، وبالتالي مدى التناقض في سلوكيات الإمام من حيث الظاهر
اتصف بمدى سرعة الأحداث وتبدل المواقف والصعوبات خصوصاً بما يتعلق بقطب الواقعة الإمام الحسين صلوات الله عليه
هنا نرى الإمام على أنه عدة شخصيات، في كل موقف شخصية مختلفة، وهنا نرى اجتماع الصفات والأسماء في وجوده المقدس، كما نرى سرعة انتقاله من سلوك إلى آخر مناقض، وسرعة تبدل تجلي الصفات والأسماء في وجوده القدسي.
هذا الحراك الجمالي والجلالي هو أقصى ظهور للجمال والجلال الإلهي، بما يعكس مدى اتحاد هذه الصفات والأسماء في الإنسان الكامل، بحيث لا تغيب عنده صفة عن أخرى، مهما كانت الظروف والضغوط الهائلة التي اجتاحت ذلك الجسد وتلك الروح وذلك القلب الرؤوف للحسين صلوات الله عليه وسلم.

* صفات الجلال والجمال في شخصية الإمام حيث تجلت في كربلاء
الكرم والفيض : التضحية بكل شيء، هي تعبير عن الكرم الحسيني اللامحدود، فلم يبق شيء يمكن التضحية به لم يقدم على مذبح الشهادة، ولم يبق جانب من جوانب الوجود الإنساني لم يتعرض للطعن المادي أو المعنوي ما لا يحصى من المرات، هذا الكرم هو كرم تجاه الأمة وفيض معنوي وواقعي من الروح الحسينية العظيمة، وتجاه الأجيال القادمة، فهو قدم دمه لأجلي أنا ولأجلك أنت، لكي يبقى لنا فرصة التكامل والبقاء في دائرة الإنسانية.

الرحمة والرأفة : التضحية هي كذلك شكل من أشكال الرحمة، فهذا الفعل الجهادي الذي يفوق الوصف، تم بدافع الرحمة، الرحمة للأمة في حاضرها ومستقبلها. من ناحية أخرى، إذا رحنا إلى مشاهدة السلوك الحسيني طوال عمر الثورة، منذ بدايتها وحتى لحظاتها الأخيرة، نشاهد الرحمة التي كانت تتجلى في أبهى صورها وحقائقها وسط الجراح والدماء والحصار والعطش، الرحمة التي لم يحجزها شيء من أحداث كربلاء عن الظهور في أجمل ما يمكن لها أن تظهر. فنرى الإمام الحسين صلوات الله عليه يفتح ذراعيه للحر بن يزيد الرياحي الذي منعه من الوصول إلى الكوفة وتركه وأهله وأصحابه وسط الصحراء مانعاً إياه من العسكرة قرب الماء ليقع فريسة العطش، وهو الذي لم ينتظر الحر الرياحي حين لقيه في أول مرة ليطلب منه الماء، بل بادر إلى أصحابه طالباً منهم سقاية جنود الحر وترشيف خيولهم، وحتى أنه ساعد في ترشيف الخيول بيديه الشريفتين.

الهداية والربوبية : شدة ظلامية المجتمع الإسلامي في تلك الفترة، لم تكن حاجباً أمام الحسين صلوات الله عليه من محاولة هداية وتوضح الأمور للمعسكر المعادي المقاتل والقاتل والمنتهك. من ناحية أخرى، كان الإمام يستقطب حتى من لم يرغب في لقائه، مثل زهير بن القين، أو حتى من ناوأه ووقف في طريقه مثل الحر بين يزيد الرياحي، فكان يداً ممدودة إلى الجميع، لإخراجهم من ظلمات الجاهلية والإستعباد الأموي إلى نور الإسلام والحرية والعزة في الدنيا والآخرة.
البأس والشدة : الرحمة والهداية والرأفة والتربية كانت يداً، واليد الأخرى كانت تحمل السيف، السيف الذي يدافع عن الإسلام وعن الفكرة التي حملتها الجماعة الحسينية التي لم يكن لديها أي أمل بالإنتصار المادي المباشر، السيف الذي أخرج من غمده للدفاع عن رسول الله وعن القرآن وعن رسالة الإنسانية التي وقفت عزلاء في مواجهة الجاهلية الحيوانية والمفاهيم الوثنية المادية والإستكبار الأموي، هذا السيف الذي لم يتعب ولم يكل رغم كل الجراح المعنوية والنفسية والمادية، السيف الذي حملته يد بصيرة وعارفة وموقنة، كان لا يزال يقاتل بعد استشهاد جميع الرجال، يقاتل وخلفه النساء والأطفال ينتظرهن السبي، لكن الروح المتوقدة والوثابة للإمام صلوات الله عليه لم تتعب ولم تلن، فهيهات منا الذلة. كان يحمل على العدو، ولا ينتظره، كان يتقدم نحو الجيش وهو وحيد فريد عطشان مثكول بأبنائه وإخوته وأصحابه، وكان يقتل كل من برز إليه.

الأناة والصبر :
المشهد الكربلائي يتميز بخاصية رئيسية، هو حجم الضغط الهائل للمشاهد والأحداث والأحاسيس المتناقضة والمتعالية والتي تعجز العقل والمخيلة البشرية عن إمكانية حصرها ورسمها أمام الشعور في إطار موحد. مشهد آخر للفطرة الإنسانية الكاملة يتمظهر أمامنا وسط هذا الحشد وهذا الطوفان من الأحاسيس، إنه الصبر والهدوء الذي كان يلف سلوكيات وكلمات الإمام الحسين صلوات الله عليه، فعندما ننظر بعين كلية جامعة للظروف والأحداث التي جرت في ذلك النهار، ونحاول أن نضع أنفسنا وسط هذا الطوفان، سنجد أننا سنكون في حالة نفسية وعصبية هائجة ومتوترة إلى أقصى الحدود من الإنفعال ورد الفعل، هنا ندرك بعداً من أبعاد التجلي الأسمائي، هو الأناة والصبر والهدوء. هنا يقدم الإمام مسرحاً ما فوق بشري، مسرحاً إلهياً واقعياً في آن، هذه الأناة التي لا تعني الخمول ولا تعني الجبن ولا تعني التأخير ولا تعني الإنعزال عن الواقع ولا تعني الضعف. الأناة وعدم الإنفعال السلبي والغضب في غير محله هي سمة بارزة في الإنسان الكامل الذي تجلى في أنقى وأوضح وأبلغ صورة ومشهد في يوم العاشر من المحرم.

العزة : العبودية لله تعالى التي هي جوهرة كنهها الربوبية، تعني في أحد أبعادها رفض العبودية للآخرين، ونيل العزة التي للمؤمن الذي لا يسجد للمخلوقات ولا ينحني أمام الطواغيت، والذي لا يرضى بأن تسحق إرادته وفكرته وقناعته ودينه لأجل الآخرين. صفة العزة هي محور من محاور كربلاء، وتعبير هيهات منا الذلة هو توضيح لأصل الموقف الحسيني الذي أظهر هذه الصفة الفطرية الإلهية في مشهد فريد على المسرح التاريخي، فقد كان أمامه خيارات كثيرة تتيح له البقاء، سواءً العودة من حيث أتى أو المبايعة والمسالمة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان ثمن العزة هو تمزق الكيان الإنساني بجميع أبعاده والدوس بسنابك السلطة الظالمة على كل ما هو دنيوي من الوجود الحسيني المقدس. العزة هذه التي ليست جفاءً ولا قسوةً ولا استكباراً ولا بعداً ولا تفاخراً، وإنما هي عزة محض وكبرياء محض، لا تغيب معها الرأفة ولا الرحمة ولا الهداية ولا الكرم، يتجلى هنا معنى العزة بأبهى صوره مجتمعاً مع الصفات الأخرى وسط الميدان الكربلائي الذي كان مسرحاً لإكراه الحسين الشهيد على التخلي عن فكرته ومبدئه وحراسة دينه.

المعرفة والحكمة : اتساع المشهد إلى حدود لامتناهية قد يدفع العقل والمخيلة الإنسانية إلى أخذ صورة مبتسرة عنه، فينظر إلى الحسين الشهيد مندفعأً عاشقاً متحمساً غير آبه بالواقع والمعوقات والظروف، فهو محض إرادة واندفاع، بحيث تغيب الأناة وهدوء العقل وحضور الوعي والمعرفة من الصورة. كل هذا الإبتسار في الصورة ناشئ من جماليتها اللامحدودة، ومن عظمة الوجود المتسامي للإنسان الكامل. فالإمام القائد المشرف على كل ما يحصل، والذي يحرك الأصحاب والأبناء والأخوة بدقة متناهية باتجاه تحقيق الهدف، كان صاحب الإدراك الشامل والوعي الكلي للحادثة، ولم يكن يسير متجاهلاً للوقائع والظروف مسيراً أو مجبراً بالتكليف الإلهي، متحركاً في اتجاه المواجهة بشكل مباشر وأحادي. كان ذهن الإمام متقداً ومشحوناً بالمشهد وبالمهمة الملقاة على عاتقه وبالجراحات الروحية والمعنوية في ذلك النهار وما سيتلو ذلك النهار من سبي وطريق آلام متطاولة، وكذلك بالمشهد الحضوري الإلهي الذي كان في أرقى القم 2015-10-13