أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في رعاية رسول الله (ص)
الحياة السياسية
كلُّ مولود يولد تتعاقبه وراثة الأجيال، فيأخذ من الأب والأمِّ ما يكوِّن به شخصيَّته النفسية والروحية والأخلاقية، والإمام عليٌّ عليه السلام معروف النسب، فهو ابن سادة العرب، أهل المروءة والشجاعة والكرم، توارثوا السيادة وخصالها أباً عن جدٍّ، عن أبيهم إبراهيم خليل الرحمن.
عدد الزوار: 352
علي عليه السلام مع الرسول قبل البعثة
كلُّ مولود يولد تتعاقبه وراثة الأجيال، فيأخذ من الأب والأمِّ ما يكوِّن به
شخصيَّته النفسية والروحية والأخلاقية، والإمام عليٌّ عليه السلام معروف النسب، فهو
ابن سادة العرب، أهل المروءة والشجاعة والكرم، توارثوا السيادة وخصالها أباً عن جدٍّ،
عن أبيهم إبراهيم خليل الرحمن.
كما هيَّأ الله سبحانه الأسباب لعليٍّ ليكون أكثر الناس قرباً من النبيّ صلى الله
عليه وآله وسلم وأخصَّهم به.. بل ليكون النبيُّ أقرب إليه من أبيه وأخوته، ففي
الثامنة من عمر علي عليه السلام ـ وربما كان حوالي عام 606 م ـ دخلت قريش في أزمة
شديدة، وسنة مجدبة منهكة، شحَّت فيها موارد العيش، وكان وقعها على أبي طالب شديداً،
إذ كان ذا عيال كُثُر وقلَّة من المال لا يكفي بنفقة رجل مثله، فعند ذاك قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم لعمَّيه الحمزة والعبَّاس: "ألا نحمل ثقل أبي طالب،
ونخفِّف عنه عياله؟" فجاءوا إليه وسألوه أن يسلِّمهم وِلده ليكفوه أمرهم، فقال لهم:
دعوا لي عقيلاً وخُذوا من شئتم، فأخذ العبَّاس طالباً، وحمزة جعفراً، وأخذ محمَّد
صلى الله عليه وآله وسلم عليَّاً عليه السلام1.
وانتقل عليٌّ عليه السلام وهو في مطلع صباه إلى كفيله محمَّد صلى الله عليه وآله
وسلم، فرُبِّي في حجر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولم يفارقه، وكانت فاطمة بنت
أسد كالأُمِّ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك كانت خديجة بنت خويلد كالأُمِّ
لعليٍّ عليه السلام.
فنشأ عليٌّ عليه السلام في بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يرعاه وينفق عليه،
فحاز بذلك من الشرف ما لم يحزه غيره. فقد نشأ يستلهم من معلِّمه معالم الأخلاق
والتربية الروحية والفكرية، وكذا دقائق الحكمة والمعرفة، حتَّى أدرك من الحقائق ما
لم يدركه بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحد غيره، حتى تطبّع بصفات كافله،
ولم تكن فيه صفة إلّا وهي مشدودة بصفات معلِّمه الأول والأخير، وما من شيء أنكره
قلب محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم إلّا وأنكره قلب عليٍّ عليه السلام، وكان هذا
قبل مبعث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
وأدرك التلميذ من معلِّمه العظيم حقائق الكون ونواميس الطبيعة، بل وأسرار الوجود،
وأصبح المثل الأعلى في جميع شمائله وأفعاله، وتحلَّى بأعلى ذروة من ذرى الكمال
الروحي والأخلاقي.
ووصف عليه السلام تلك الأيام القيِّمة مبيّناً فضلها واختصاصه بها على من سواه،
فقال: "وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقرابة القريبة،
والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد، يضمُّني إلى صدره.. وكان يمضغُ الشيء
ثُمَّ يُلقمنيه، وما وجد لي كذبةً في قول، ولا خطلة في فعل.. ولقد كنت أتَّبعه
اتباع الفصيل أثر أمِّه، يرفع لي في كلِّ يومٍ من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء
به، ولقد كان يجاور في كلِّ سنة بحراء فأراه، ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد
يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة وأنا ثالثهما..."2.
علي عليه السلام مع الرسول بعد البعثة في مكة
1- أوَّل الناس إسلاماً:
أجمعت الروايات على أنَّه لم يتقدّم من عليٍّ شرك أبداً، ولم يسجد لصنم قط، وتكرَّم
وجهه منذ ولادته، فلا طاف حول صنم ولا سجد له، فكانت نفسه خالصة لله تعالى، وكان
عنواناً للشرف والاستقامة، لقد صاحبته منذ الصبا صراحة الإيمان، والثقة العالية
بالنفس، والشجاعة الضرورية لكل إرادة حقة، فكان إيمانه هو الحاكم المطلق، والمسيطر
الأوحد على جميع حركاته وسكناته. فلا مجال لأن يتوهّم من عبارة أنّه أوّل الناس
إسلاماً كونه على خلاف ذلك قبل البعثة.
ففي الصحيح: أنَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يخرج إلى البيت الحرام
ليصلِّي فيه، فيصحبه عليٌّ وخديجة فيصلِّيان خلفه، على مرأى من الناس، ولم يكن على
الأرض من يصلِّي تلك الصلاة غيرهم3.
وعن عفيف بن قيس، قال: كنتُ جالساً مع العبَّاس بن عبد المطَّلب رضي الله عنه بمكة
قبل أن يظهر أمرُ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فجاء شاب فنظر إلى السماء حيث
تحلَّقت الشمس، ثم استقبلَ الكعبة فقام يصلي، ثم جاء غلامٌ فقام عن يمينه، ثم جاءت
امرأةٌ فقامت خلفهما، فركع الشاب فركع الغلام والمرأة، ثم رفع الشاب فرفعا، ثم سجد
الشاب فسجدا، فقلت: يا عبَّاس، أمر عظيم، فقال العبَّاس: أمر عظيم، فقال: أتدري من
هذا الشاب؟ هذا محمَّد بن عبدالله ـ ابن أخي ـ أتدري من هذا الغلام؟ هذا علي بن أبي
طالب ـ ابن أخي ـ أتدري من هذه المرأة؟ هذه خديجة بنت خويلد. إنَّ ابن أخي هذا
حدَّثني أنَّ ربَّه ربُّ السماوات والأرض أمره بهذا الدين الذي هو عليه، ولا والله
ما على ظهر الأرض على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة، قال عفيف: ليتني كنتُ رابعاً4.
وبغض النظر عن الوقائع التاريخية فقد ورد عن النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم
بسند صحيح قوله: "أوَّلكم وروداً عليَّ الحوض، أوَّلكم إسلاماً عليُّ بن أبي طالب"5.
2- الدعوة الخاصة:
عليٌّ يوم الإنذار الأول: قال جعفر بن عبدالله بن أبي الحكم: "لمَّا
أنزل الله على رسوله ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾6 اشتدَّ
ذلك عليه وضاق به ذرعاً، فجلس في بيته كالمريض، فأتته عمَّاته يعُدنه، فقال: "ما
اشتكيتُ شيئاً، ولكن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين"7.
بعد ذلك عزم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم امتثالاً لأوامر الله تعالى على
إنذار آله وعشيرته ودعوتهم إلى الله، فجمع بني عبدالمطلب في دار أبي طالب، وكانوا
أربعين رجلاً ـ يزيدون رجلاً أو ينقصون رجلاً ـ وكان قد قال لعلي عليه السلام: "اصنع
لي صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة واملأ لنا عساً من لبن"، قال علي عليه السلام
وهو ينقل هذا الحديث واصفاً قومه: "وإنَّ منهم من يأكل الجذعة ويشرب الفرق (إناء
يكتال به)"8، وأراد عليه السلام بإعداد قليل من الطعام والشراب لجماعتهم
إظهار الآية لهم في شبعهم وريِّهم ممَّا كان لا يشبع الواحد منهم ولا يرويه9.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل،
أكنتم مصدّقيّ؟" قالوا: بلى، أنت عندنا غير متهم، وما جرَّبنا عليك كذباً، فقال:
"إني
نذير لكم من بين يدي عذاب شديد" فقطع كلامه عمه أبو لهب، وقال: تباً لك! ألهذا
جمعتنا؟! ثم عاد فجمعهم ثانية، فأعاد أبو لهب مثل قولته الأولى، فتفرّقوا، فأنزل
الله تعالى عليه ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾10 إلى آخر السورة
المباركة.
ثم جمعهم مرَّةً أُخرى ليكلِّمهم، وفيهم أعمامه: أبو طالب والحمزة والعبَّاس وأبو
لهب، وغيرهم من أعمامه وبني عمومته، فأحضر عليٌّ عليه السلام لهم الطعام ووضعه بين
أيديهم، وكان بإمكان الرجل الواحد أن يأكله بكامله، فتهامسوا وتبادلوا النظرات
الساخرة من تلك المائدة التي لا تقوم حسب العادة لأكثر من رجلين أو ثلاثة رجال، ثم
مدُّوا أيديهم إليها وجعلوا يأكلون، ولا يبدو عليها النقص حتَّى شبعوا، وبقي من
الطعام ما يكفي لغيرهم.
فلمَّا أكلوا وشربوا قال لهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "يا بني عبدالمطَّلب،
والله ما أعلم شابَّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممَّا جئتكم به، إنِّي جئتكم بخير
الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه". ثمَّ عرض عليهم أصول
الإسلام وقال: "فأيُّكم يؤازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي ووصيِّي، وخليفتي
فيكم من بعدي"؟.
فلم يجب أحد منهم، فأعاد عليهم الحديث ثانياً وثالثاً، وفي كلِّ مرَّةٍ لا يجيبه
أحد غير عليٍّ عليه السلام، قال عليٌّ: ـ والرواية عنه ـ "فأحجم القوم عنها جميعاً،
وقلت ـ وأنا لأحدثهم سناً: أنا يا نبيَّ الله أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي، ثُمَّ
قال: إنَّ هذا أخي، ووصيِّي، وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا".
قال: "فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع"11.
فقال أبو لهب: خذوا على يَدَي صاحبكم قبل أن يأخذ على يده غيركم، فإن منعتموه
قُتلتم، وإن تركتموه ذللتم.
فقال أبو طالب: والله لننصرنَّه ثُمَّ لنعيننَّه، يا ابن أخي إذا أردت أن تدعو إلى
ربِّك فأعلمنا حتَّى نخرج معك بالسلاح12.
3- شعب أبي طالب:
اتخذت قريش شتى الأساليب لردع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وأتباعه من المسلمين، ولمَّا رأت أنّ الإسلام يفشو ويزيد، اتفقوا بعد تفكير طويل
على قتل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأجمع مَلَؤُها على ذلك، وبلغ أبا طالب
فقال:13
والله لـن يصلـوا إليك بجمعهم***حتَّـى أُغيَّب في التراب
دفينا
ودعوتنـي وزعمت أنَّك ناصِـحٌ***ولقد صدقت وكنت ثَمَّ أمينـاً
وعرضت دينــاً قد علمتُ بأنَّه***من خير أديان البرية دينا
ولمَّا علمت أنَّها لا تقدر على قتله، وأنَّ أبا طالب لا يسلّمه، وسمعت بهذا من قول
أبي طالب، كتبت الصحيفة القاطعة الظالمة التي تنصُّ على مقاطعة بني هاشم واتباعهم
وحصرهم في مكان واحد، وقطع جميع وسائل العيش عنهم، وألاّ يناكحوهم حتَّى يدفعوا
إليهم محمَّداً صلى الله عليه وآله وسلم فيقتلوه، وإلّا يموتوا جوعاً وعطشاً،
وختموا على الصحيفة بثمانين خاتماً.
ثُمَّ علَّقوا الصحيفة في جوف الكعبة وحصروهم في شعب أبي طالب ست سنين14،
وذلك في أوّل المحرم من السنة السابعة لمبعث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقيل:
استمر نحواً من سنتين أو ثلاث15، حتَّى أنفق رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم ماله وأنفق أبو طالب ماله، وأنفقت خديجة بنت خويلد مالها، وصاروا إلى حدِّ
الضرِّ والفاقة، واشتدت بهم الضائقة، حتى اضطرتهم إلى أكل الأعشاب وورق الأشجار،
ومع ذلك فلم يضع أبو طالب وولده علي عليه السلام وأخوه الحمزة شيئاً في حسابهم غير
النبيّّ محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم ورعايته، حتَّى لا يتسلَّل أحد من
المكِّيين ليلاً لاغتياله، وكانت هذه الخاطرة لا تفارق أبا طالب في الليل والنهار.
4- مؤامرة قريش في دار الندوة:
حينما خافت قريش أن يقوى ساعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ويصبح له
أنصار جدد، ولا سيّما بعد أن أذن لأصحابه بالهجرة إلى يثرب ـ اجتمعت في دار الندوة،
وأعدُّوا العدَّة للقضاء عليه قبل فوات الأوان، فقالوا: ليس له اليوم أحد ينصره وقد
مات عمُّه!
وبعد أن أعطى كلُّ واحد منهم رأيه، قال أبو جهل: أرى أن نأخذ من كلِّ قبيلة فتىً
نسيباً ونعطي كلَّ فتىً منهم سيفاً، ثُمَّ يضربونه ضربة رجل واحد فيقتلونه، كي لا
يتحمَّل قتله فرد ولا قبيلة وحدها، بل يتفرّق دمه في القبائل كلِّها، فلم يقدر آله
وعشيرته على حرب قومهم جميعاً، فيصعب الثأر له.. فتفرَّقوا على ذلك بعد أن اتَّفقوا
على الليلة التي يهاجمونه فيها وهو في فراشه.
فأتى جبرائيل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره بمكيدة قريش وأحلافها، كما
تشير إلى ذلك الآية: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ
يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ
الْمَاكِرِينَ﴾16.
فلمَّا كانت العتمة اجتمعوا على بابه يرصدونه، وودَّع رسول الله عليَّ بن أبي طالب
عليه السلام، وأمره أن يؤدِّي ما عنده من وديعة وأمانة إلى أهلها ويلحق به.
وفي بعض الروايات: أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم خرج فأخذ حفنةً من تراب، فجعله
على رؤوسهم، وهو يتلو هذه الآيات من ﴿يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ﴾ إلى قوله:
﴿فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾17 ثمَّ انصرف فلم يروه18.
هكذا، فإنّ القوم أحاطوا بالدار، وهم من فتيان قريش الأشدّاء، وجعلوا يرصدونه
ليتأكَّدوا من وجوده، فرأوا رجلاً قد نام في فراشه التحف ببرد له أخضر.
أمَّا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد خرج في الثلث الأخير من الليل من
الدار، وكان قد اختبأ في مكان منها، وانطلق جنوباً إلى غار ثور، وكمن فيه ومعه أبو
بكر، فأقاما فيه ثلاثاً.
ولمَّا حان الوقت الذي عيَّنوه لهجومهم على الدار، هجموا عليها، فوثب عليٌّ عليه
السلام من فراشه، ففرُّوا بين يديه حين عرفوه..
وفي بعض الروايات أنَّهم قبل هجومهم عليه جعلوا يقذفونه بالحجارة وهو ساكن لا
يتحرَّك ولا يبالي بما يصيبه من الأذى، ثُمَّ هجموا عليه بسيوفهم وشدَّ عليهم
فانهزموا أمامه إلى الخارج19. وسأل الرهط عليَّاً: أين ابن عمِّك؟ قال:
"أمرتموه بالخروج فخرج عنكم"20، وقيل: إنَّه قال: "لا علم لي به"21.
ولم يشرك أمير المؤمنين عليه السلام في هذه المنقبة أحد من أهل الإسلام، ولا اختصَّ
بنظير لها على حال، وفيه نزل قوله تعالى في هذه المناسبة: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن
يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾22.
5- عليٌّ والركب الفاطمي إلى المدينة:
بقي عليٌّ عليه السلام في مكَّة ثلاث ليال، أدَّى خلالهنّ ما عهد إليه
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ردِّ الأمانات والودائع التي كان يحتفظ بها
النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لأهل مكَّة، ليلحق بعدها برسول الله..
وكتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عليٍّ عليه السلام، يحثُّه بالمسير
إليه بعد أداء ما أوصاه به، ولمَّا وصله الكتاب تهيَّأ للخروج، وردَّ كلَّ وديعةٍ
إلى أهلها، وأمر من كان قد بقي من ضعفاء المؤمنين أن يتسلَّلوا إلى ذي طول ليلاً.
وخرج هو بالركب الفاطمي: فاطمة بنت رسول الله، وفاطمة بنت أسد بن هاشم، وفاطمة بنت
الزبير بن عبدالمطَّلب، وفاطمة بنت حمزة، وأم أيمن، وأبو واقد الذي أخذ يسوق
الرواحل سوقاً حثيثاً، فقال له عليٌّ: "ارفق بالنسوة يا أبا واقد" ثُمَّ جعل يسوق
بهنَّ ويقول:
ليـس إلّا الله فارفع ظنَّكا***يكفيك ربُّ الخلق ما
أهمَّكا
وكان يسير ليلاً، ويكمن نهاراً. وكان ماشياً غير راكب حتَّى تفطَّرت قدماه23.
ولقد ظلَّ في رحلته تلك ليالٍ أربع عشرة، يحوطهم من الاعداء ويكلؤهم من الخصماء،
فلمَّا قارب ضَجَنان أدركه الطلب وكانوا ثمانية فرسان ملثمين، معهم مولى لحرب بن
أُميَّة يُدعى: جناح، فقال عليٌّ عليه السلام لأيمن وأبي واقد: "أنيخا الإبل
واعقلاها" وتقدَّم هو فأنزل النسوة واستقبل القوم بسيفه، فقالوا: أظننت يا غُدر
أنَّك ناجٍ بالنسوة؟! ارجع بهن لا أبا لك!! فقال: "فإن لم أفعل؟!"، فقالوا: لترجعنَّ
راغماً!!
ودنوا من المطايا، فحال عليٌّ عليه السلام بينهم، وأهوى له جناح بسيفه، فراغ عن
ضربته، وضرب جناحاً على عاتقه فقدَّه نصفين، حتَّى وصل السيف إلى كتف فرسه، ثُمَّ
شدَّ على أصحابه، وهو على قدميه وأنشد:
خلُّوا سبيل الجاهد المجاهد*** آليت لا أعبد إلّا الواحـد
فتفرَّق القوم عنه، وقالوا: احبس نفسك عنَّا يا بن أبي طالب، ثُمَّ قال لهم: "إنِّي
منطلق إلى أخي وابن عمِّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمن سرَّه أن أفري
لحمه وأُريق دمه فليدنُ منِّي". ثُمَّ أقبل على أيمن وأبي واقد، وقال لهما:
أطلقا مطاياكما، وسار الركب حتَّى نزل ضجنان، فلبث بها يوماً وليلة حتَّى لحق به
نفر من المستضعفين، فلمَّا بزغ الفجر سار بهم حتَّى قدموا قباء24.
في المدينة المنوَّرة
1- المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار:
من الأعمال التي قام بها رسول الله بعد بناء المسجد الشريف: المؤاخاة
ولقد سبق منه صلى الله عليه وآله وسلم أن آخى بين المهاجرين بعضهم ببعض قبل الهجرة،
وآخى بين المهاجرين والأنصار بعد الهجرة، هكذا رواه الترمذي والبغوي والحاكم25
وفي كلِّ مرَّة كان يقول لعليٍّ عليه السلام: "أنت أخي في الدنيا والآخرة".
ورواه أحمد في مسنده بنصِّ: "أنت أخي وأنا أخوك"26.
2- زواج عليٍّ من فاطمة الزهراء عليها السلام:
في حدود السنة الثانية من الهجرة اجتمع عليٌّ عليه السلام مع الزهراء
عليها السلام في بيت الزوجية، وكان جماعة من المهاجرين قد خطبوها قبله، لكنَّ رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم ردَّهم ردَّاً جميلاً.
عن أنس بن مالك، قال: كنت عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فغشيه الوحي، فلمّا
سري عنه قال: "يا أنس، أتدري ما جاءني به جبرائيل من عند صاحب العرش؟" قال: الله
ورسوله أعلم، قال: "إن الله أمرني أن أزوّج فاطمة من عليّ".
وجهزّت فاطمة27 بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما كان لها غير
سرير من جريد النخل، ووسادة من أدم حشوها ليف، ومنخل ومنشفة، ورحى للطحن، وجرّتان
وقميص، وخمار لغطاء الرأس، وثوب له زغب، وعباءة قصيرة بيضاء، وجلد كبش..
أمَّا عليٌّ عليه السلام قد رشَّ أرض الدار برمل ناعم، ونصب في البيت خشبة من
الحائط إلى الحائط، لتعليق الثياب، إذ لا خزانة ولا صندوق لثياب العروس.
عن عليِّ بن أبي طالب عليه السلام قال: "لقد تزوَّجت فاطمة وما لي ولها فراش غير
جلد كبش ننام عليه بالليل، ونعلف عليه الناضح بالنهار، وما لي ولها خادم غيرها"28.
* كتاب منار الهدى، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- الكامل في التاريخ، ج 1، ص
582.
2- نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، الخطبة 192.
3- المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري، ج 3، ص 201، ح4842، 440، دار الكتب
العلمية.
4- تاريخ الطبري، ج 2، ص 56 ـ 57.
5- ابن عبدالبرالقرطبي، الاستيعاب، ج 3، ص 28، مطبوع بهامش الإصابة سنة 1328هـ.ق،
دار المعارف، مصر،
6- سورة الشعراء، الآية 214.
7- الكامل في التاريخ، ج 1، ص 584.
8- تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 27.
9- الإرشاد، ج 1، ص 49.
10- سورة المسد، الآية 1.
11- تاريخ الطبري 2: 217، معالم التنزيل في التفسير والتأويل، البغوي 4: 278،
الكامل في التاريخ 1: 586، الترجمة من تاريخ ابن عساكر 1: 100، 137 و138 و139،
شواهد التنزيل لقواعد التفضيل، الحاكم الحسكاني الحنفي ـ تحقيق محمَّد باقر
المحمودي ـ مؤسسة الأعلمي بيروت 1: 372 ـ 373، 514 و420، 580، كنز العمَّال 13:
131، 36469.
12- تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 27 ـ 28.
13- تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 31.
14- م، ن.
15- الكامل في التأريخ، ج 1، ص 604.
16- سورة الأنفال، الآية 30.
17- سورة يس، الآيتات 1 ـ 9.
18- الكامل في التاريخ، ج 2، ص 4.
19- أمالي الشيخ الطوسي، ص 467، 1031، بحار الأنوار، ج 19، ص 61 ـ 62.
20- تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 39، الكامل في التاريخ، ج 2، ص 103.
21- الطبقات الكبرى، ج 1، ص 110.
22- سورة البقرة، الآية 207، وذكرها الرازي في تفسيره أنَّها نزلت بشأن مبيت عليٍّ
عليه السلام على فراش رسول الله.
23- تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 41، أسد الغابة، ج 4، ص 105، الكامل في التاريخ، ج 2، ص
7.
24- سيرة الأئمة الاثني عشر، ج 1، ص 171 ـ 172.
25- سنن الترمذي (الجامع الصحيح )، ج 5، ص 636 - 3720، تحقيق أحمد محمَّد شاكر، دار
إحياء التراث العربي ـ بيروت، مصابيح السُنَّة، البغوي، ج 4، ص 173 - 4769، تحقيق
د. يوسف عبدالرحمن المرعشلي، ومحمَّد سليم سمارة، وجمال حمدي الذهبي، دار المعرفة
ط1 ـ 1407هـ، المستدرك على الصحيحين، ج 3، ص 14.
26- مسند أحمد، ج 1، ص 230، دار الفكر بيروت.
27- أنظر جهاز فاطمة في: الطبقات الكبرى، ج 8، ص 19، فاطمة الزهراء والفاطميون، ص
21، فضائل الإمام علي، ص 24 ـ 25.
28- الطبقات الكبرى، ج 8، ص 18.