الأمانة وكتمان السّرّ
الأخلاق والثقافة الإسلامية
تُعتبر الأمانة من أهمّ الفضائل الأخلاقيّة والقيم الإسلاميّة والإنسانيّة، وقد ورد الحثّ عليها في الإسلام بشكل كبير جدّاً. وأولاها علماء الأخلاق والسّالكون إلى الله تعالى أهميّة كبيرة على مستوى بناء الذّات والشّخصيّة، وعلى العكس من ذلك "الخيانة" فتُعتبر من الذُّنوب الكبيرة والرّذائل الأخلاقيّة في واقع الإنسان وسلوكه الاجتماعيّ.
عدد الزوار: 107
فضيلة الأمانة
تُعتبر الأمانة من أهمّ الفضائل الأخلاقيّة والقيم الإسلاميّة والإنسانيّة، وقد ورد
الحثّ عليها في الإسلام بشكل كبير جدّاً. وأولاها علماء الأخلاق والسّالكون إلى
الله تعالى أهميّة كبيرة على مستوى بناء الذّات والشّخصيّة، وعلى العكس من ذلك "الخيانة"
فتُعتبر من الذُّنوب الكبيرة والرّذائل الأخلاقيّة في واقع الإنسان وسلوكه
الاجتماعيّ.
فالأمانة رأس مال المجتمع الإنساني والسبّب في شدّ أواصر المجتمع وتقوية الرّوابط
بين النّاس، في حين أنّ الخيانة بمثابة النّار المحرقة الّتي تُحرق العلاقات
الاجتماعيّة وتؤدّي إلى الفوضى والشَّقاء.
الأمانة في القرآن والسّنَّة
ورد لفظ الأمانة والأمر بها بشكل صريح في القرآن الكريم، حيث يقول الله تعالى، في
محكم كتابه:
﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ
إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ
إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرً﴾1.
﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾2.
﴿فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ
تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾3.
أمّا في السّنّة الشّريفة فلم يكن التّأكيد عليها أقلّ شأنا ولا أنقص، حيث ورد من
الأحاديث الشّريفة عن النّبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، والأئمّة المعصومين
عليهم السلام ما يحكي عن الأهميّة البالغة لهذه المسألة، حيث وردت الأمانة تارة
بعنوان أنّها من الاُصول والمباديء الأساسيّة المشتركة بين جميع الأديان السّماوية،
وتارة اُخرى بعنوان أنّها علامة للإيمان، وثالثة بعنوان أنّها سبب نيل الرِّزق
والثَّروة والثِّقة والاعتماد لدى النَّاس وسلامة الدِّين والدُّنيا والغنى وعدم
الفقر وأمثال ذلك، وفيما يلي نختار من هذه الرِّوايات الشَّريفة ما يتضمّن هذه
المعاني والمفاهيم العميقة: في حديث آخر عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم
أنّه قال: "لا إِيمـانَ لِمَنْ لا أَمـانَةَ لَهُ"4. وفي حديث مختصر
وعظيم المعنى عن الإمام الصَّادق عليه السلام أنّه قال: "إنّ الله عَزَّ وَجَلَّ
لَم يَبعَثً نَبِيّاً إلاّ بِصِدقِ الحِدِيثِ وَأَداءِ الأَمـانَةِ إِلىَ البِرِّ
وَالفـاجِرِ"5.
الأمانة وأنواعها
عند الحديث عن الأمانة فإنّ أغلب النّاس يتبادر إلى أذهانهم الأمانة في الأمور
الماليّة، إلّا أنّ الأمانة بمفهومها الواسع تستوعب جميع المواهب الإلهيّة والنِّعم
الرّبّانيّة على الإنسان. إنّ جميع النّعم المادّيّة والمواهب المعنويّة الإلهيّة
على الإنسان في بدنه ونفسه هي في الحقيقة أمانات إلهيّة بيد الإنسان.
1- الأموال: الأموال والثّروات المادّيّة،
والمقامات، والمناصب الاجتماعيّة، والسياسيّة، هي أمانات بيد النّاس، ويجب عليهم
مراعاتها وحفظها وأداء المسؤوليّة تجاهها.
2- الأبناء: الأولاد أمانة أيضاً بيد الوالدين،
والطلّاب أمانة بيد المعلِّمين، والكائنات الطّبيعيّة أمانة بيد الإنسان لا ينبغي
التّفريط فيها.
3- التَّكليف الشّرعي: قد أطلقت الآيات
القرآنيّة الأمانة على التّكاليف الإلهيّة، يقول تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا
الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن
يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ
ظَلُومًا جَهُولً﴾6. فالمقصود من الأمانة الإلهيّة هي المسؤوليّة
والتّكليف الملقَى على عاتق الإنسان حيث لا يتيسّر ذلك إلّا بوجود العقل والحريّة
والإرادة.
4- الصّلاة: وكذلك الرِّوايات أطلقت الأمانة
على الصّلاة، فقد ورد عن الإمام عليّ عليه السلام عندما سُئل عن سبب تغيّر حاله وقت
الصّلاة، قال: "جاء وقت الصّلاة، وقت أمانة عرضها الله على السّموات والأرض فأبين
أن يحملنها وأشفقن منها"7.
5- عمل الإنسان: عن أمير المؤمنين عليه السلام
قائلاً للأشعث بن قيس: "وإنّ عملك ليس لك بطعمة ولكنّه في عنقك أمانة"8.
6- الأسرار: في الحديث النّبويّ: "المجالس بالأمانات"9، لأنّ في المجالس
أسراراً وخصوصيّات لا ينبغي إفشاؤها.
خصوصيّة الأمانة الماليّة
لقد ورد بخصوص الأمانة الماليّة آيات وروايات عديدة تحثّ عليها بشكل كبير، ففي وصف
الله تعالى، للمؤمنين يقول: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ
رَاعُونَ﴾10.
ويقول سبحانه: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى
أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ
اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرً﴾11.
ويقول جلّ وعلا: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ
أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ﴾12.
وورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "أُقسم لسمعت رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم يقول لي قبل وفاته بساعة مراراً ثلاثاً: يا أبا الحسن، أدِّ
الأمانة إلى البرّ والفاجر في ما قلّ وجلَّ حتّى في الخيط والمخيطِ"13.
وعن النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "لا إيمان لمن لا أمانة له"14.
وعن الإمام زين العابدين عليه السلام أنّه قال: "عليكم بأداء الأمانة، فوالّذي بعث
محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم بالحقّ نبيّاً لو أنّ قاتل أبي الحسين بن عليّ
عليه السلام ائتمنني على السَّيف الّذي قتله به لأدّيته إليه"15.
وعن الإمام الصَّادق عليه السلام أنّه قال: "إنّ الله عزّ وجلّ لم يبعث نبيّاً إلّا
بصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البرّ والفاجر"16.
وورد عن الإمام الرّضا عليه السلام قوله: "لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم، وصومهم وكثرة
الحجّ والمعروف وطنطنتهم بالليل، ولكن انظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة"17.
وعن لقمان الحكيم قائلاً لابنه: "... كُن أميناً، فإنّ الله تعالى لا يحبّ الخائنين"18.
إلى غير ذلك الكثير من الرِّوايات الشَّريفة الّتي تمدح الأمانة وتذمّ الخيانة.
كتمان السِّرِّ أمانة
كتمانُ السِّرِّ هو عدم البَوْح والإذاعة به، لما لذلك من خطر وضرر على الفرد، أو
الجماعة، أو الجهة. ومن النّاحية الشّرعية، فإنّ كلّ ما يؤدِّي إفشاؤه وإذاعته إلى
ضرر على الفرد، أو المجتمع، فإفشاؤه من المحرَّمات وكتمانه من الواجبات.
بل إفشاءُ الأسرار العسكريّة لدولة الإسلام هو من الكبائر لما فيه من مخاطر قد
تؤدِّي إلى قتل النُّفوس وإباحة الممتلكات، ناهيك عن الهزيمة لجيوش المسلمين وسقوط
دولتهم. وبهذا اللحاظ وردت الأدلَّة الشّرعيّة الّتي تربّي الفرد والجماعة على
الكتمان.
قال الإمام عليّ عليه السلام: "سِرُّك أسيرك فإن أفشيته صُرت أسيره"19،
وقال عليه السلام: "كاتم السرِّ وفيٌّ أمين"20. وقال عليه السلام:
"ملاك
السِّرِّ سَتْره"21.
إنَّ كتمان الأسرار العسكريّة هي من الأخلاق العمليّة، التي ينبغي أن تتملَّك
شخصيّة المجاهدين، لموقعهم الحسَّاس والخطر، والخطأ الّذي يرتكب هو الأوَّل والأخير،
والنَّتيجة ستكون في غاية الخطورة عندئذ ومن ورائها خسارات كبرى لا تُعوَّض، من قتلٍ
وأسرٍ واحتلال مواقع. وقد تؤدِّي الأمور إلى هزيمة الجيش بكامله، كما حدث في معركة
أحد، وقد تؤدِّي إلى سقوط دولة الإسلام بكاملها.
إنَّ المجاهد أمام مسؤوليَّةٍ كبرى وبين يديه أمانةُ إخوانه المقاتلين، وأمانة
الأمة التي سلَّمته ظهرها ليحرسها ويحفظ حدودها.
إنّ أيَّ إذاعة للسّرّ تُرتكب ولو من دون قصدٍ تُعتبر خيانة كما في الحديث عن
الإمام عليّ عليه السلام: "الإذاعة خيانة"22.
ولا يمكن أن يجتمع جهاد في سبيل الله وخيانة، وهو أشبه باجتماع النَّقيضين، فإنّ
المجاهد يبذل دمه في سبيل الوطن والأمّة، والإذاعة للأسرار العسكريّة هو إباحة
الوطن والأمة للأعداء، ومن هنا غلَّظ الإمام عليّ عليه السلام الوصف بقوله: "من
أقبح الغدر إذاعة السِّرّ"23.
فوائد أداء الأمانة
إنّ من أهمّ فوائد أداء الأمانة على المستوى الاجتماعيّ هي مسألة الاعتماد وكسب ثقة
النّاس، والحياة الاجتماعيّة مبنيّة على أساس التَّعاون والثِّقة المتبادلة بين
أفراد المجتمع.
فلولا وجود الثِّقة والاعتماد لساد قانون الغاب، ولحلّ التَّنافر بدلاً من التّكاتف
والتّعاون والتّعامل.
ثمّ إنّه إذا سادت الأمانة في المجتمع، فإنّها ستكون سبباً لمزيد من الهدوء
والسّكينة الفكريّة والرّوحيّة، لأنّ مجرّد احتمال الخيانة يُسبّب القلق والخوف
للأفراد، بحيث يعيشون حالة من الإرباك في علاقاتهم مع الآخرين من الخطر المحتمل
الّذي ينتظر أموالهم.
من هنا جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أسباب صيانة الأمّة الإسلاميّة
أداء الأمانة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تزال أمّتي بخير ما تحابّوا،
وتهادوا، وأدّوا الأمانة، واجتنبوا الحرام، ووقّروا الضَّيف، وأقاموا الصَّلاة
وآتوا الزَّكاة، فإذا لم يفعلوا ذلك ابتلوا بالقحط والسِّنين"24.
ثمّ إنّه من عُرف بالأمانة والصِّدق كثُر من يتعامل معه في تجاراته ومعاملاته ممّا
يؤدّي إلى تضاعف رزقه.
من هنا قال لقمان لابنه: "يا بُنيّ، أدِّ الأمانة تسلم لك دنياك وأخرتك، وكُن أميناً
تكن غنيّاً"25.
على المؤمن الحذر
المؤمن كيّس فطن، ينبغي أن يتعامل مع أهل الأمانة، ولا يكن بسيطاً يأتمن أيّاً كان،
ومن هنا جاء التَّحذير من التَّعامل مع بعض النَّاس.
فعن النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من ائتمن غير أمين فليس له على
الله ضمان، لأنّه قد نهاه أن يأتمنه"26.
وعن النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من ائتمن شارب الخمر على أمانة بعد
علمه، فليس له على الله ضمان ولا أجر له ولا خلف"27.
وعن الإمام الصَّادق عليه السلام أنّه قال: "لم يخنك الأمين، ولكن ائتمنت الخائن"28.
وعن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "مَن عرف مِن عبد مِن عبيد الله كذباً إذا
حدّث، وخلفاً إذا وعد، وخيانة إذا ائتمن، ثمّ ائتمنه على أمانة، كان حقّاً على الله
تعالى أن يبتليه فيها ثمّ لا يخلف عليه ولا يأجره"29.
ويكفي في ذمّ الخيانة ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام من أنّ: "رأس الكفر
الخيانة"30.
* كتاب منار الهدى، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- سورة النساء، الآية 58.
2- سورة المؤمنون، الآية 8.
3- سورة البقرة، الآية 283.
4- بحار الأنوار، ج69، ص198. (تحقيق: البهبوديّ)
5- الكافي، ج2، ص104.
6- سورة الأحزاب، الآية 72.
7- نور الثقلين، ج 4، ص 313.
8- نهج البلاغة، (تحقيق الصّالح)، ص 366.
9- الشيخ الطبرسيّ، الاحتجاج، ج 2، ص 75.
10- سورة المؤمنون، الآية 8.
11- سورة النساء، الآية 58.
12- سورة البقرة، الآية 283.
13- بحار الأنوار، ج 74، ص 273.
14- م. ن، ج 69، ص 198.
15- م. ن، ج 72، ص 114.
16- م. ن، ج 68، ص 2.
17- م. ن، ج 72، ص 114.
18- م. ن، ج 13، ص 418.
19- غرر الحكم، ص 223، الحديث (الحكمة) 7415.
20- م. ن، الحديث (الحكمة) 7419.
21- م. ن، الحديث (الحكمة) 7424.
22- عيون المواعظ والحكم، الواسطيّ، ص 37.
23- غرر الحكم، ص 223.
24- بحار الأنوار، ج 72، ص 115.
25- م.ن، ج 13، ص 416، ح19.
26- بحار الأنوار، ج 76، ص 127.
27- وسائل الشيعة، ج 19، ص 84.
28- بحار الأنوار، ج 75، ص 335.
29- وسائل الشيعة، ج 19، ص 88.
30- غرر الحكم، ص 223، الحديث (الحكمة) 10520.