لا تسألوا فوق الكفاف
مواعظ من نهج البلاغة
عن أمير المؤمنين عليه السلام:"الْحَمْدُ لِلهِ غَيْرَ مَقْنُوطٍ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلَا مَخْلُوٍّ مِنْ نِعْمَتِهِ وَلَا مَأْيُوسٍ مِنْ مَغْفِرَتِهِ وَلَا مُسْتَنْكَفٍ عَنْ عِبَادَتِهِ الَّذِي لَا تَبْرَحُ مِنْهُ رَحْمَةٌ وَلَا تُفْقَدُ لَهُ نِعْمَةٌ.
عدد الزوار: 463
عن أمير المؤمنين عليه السلام:"الْحَمْدُ لِلهِ غَيْرَ مَقْنُوطٍ مِنْ
رَحْمَتِهِ وَلَا مَخْلُوٍّ مِنْ نِعْمَتِهِ وَلَا مَأْيُوسٍ مِنْ مَغْفِرَتِهِ
وَلَا مُسْتَنْكَفٍ عَنْ عِبَادَتِهِ الَّذِي لَا تَبْرَحُ مِنْهُ رَحْمَةٌ وَلَا
تُفْقَدُ لَهُ نِعْمَةٌ.وَالدُّنْيَا دَارٌ مُنِيَ لَهَا الْفَنَاءُ وَلِأَهْلِهَا
مِنْهَا الْجَلَاءُ وَهِيَ حُلْوَةٌ خَضْرَاءُ وَقَدْ عَجِلَتْ لِلطَّالِبِ
وَالْتَبَسَتْ بِقَلْبِ النَّاظِرِ فَارْتَحِلُوا مِنْهَا بِأَحْسَنِ مَا
بِحَضْرَتِكُمْ مِنَ الزَّادِ وَلَا تَسْأَلُوا فِيهَا فَوْقَ الْكَفَافِ وَلَا
تَطْلُبُوا مِنْهَا أَكْثَرَ مِنَ الْبَلَاغ". نهج البلاغة، الخطبة 45.
معنى القناعة
الرضا بالكفاف يعني القناعة "والقناعة... الرضا بالقسم... وفي الحديث: "القناعة
كنز لا يفنى"؛ لأنّ الإنفاق منها لا ينقطع، كلّما تعذر عليه شيء من أمور الدنيا
قنع بما دونه ورضي. وفي الحديث: "عزّ من قنع وذلّ من طمع، لأنّ القانع لا يذلّه
الطلب فلا يزال عزيزاً... وفي المثل: خير الغنى القنوع، وشر الفقر الخضوع..."1.
فالقناعة لغة هي الرضا بالقسم، وهو يلتقي مع معناها في المرتكزات الشرعية حيث تعني
القناعة: أن يقنع الإنسان بما قسم الله له من الأمور الدنيوية، بمعنى أنّ الإنسان
إذا كانت طاقته لا تتحمَّل أن يتقدّم مادياً، وظروفه لا تساعده، فعليه أن يقنع بما
هو عليه من المستوى الماليّ، إلى أن يفتح الله عليه باباً من أبوابه الحلال. وهذا
لا يعني أن لا يسعى الإنسان إلى تحسين حاله المادّيّ إن استطاع عن طريق الكسب
الحلال.
ولا تعمُّ القناعة الأمور المعنوية، فالإسلام دعا المسلمين إلى التزوّد والتنافس في
الأمور المعنوية، كالعلم والإيمان والتقوى والخصال الأخلاقية الحميدة.
قال تعالى:
﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُون﴾2.
وقال سبحانه:
﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾3.
وعن الإمام عليّ عليه السلام: "إن كنتم لا محالة متنافسين، فتنافسوا في الخصال
الرغيبة"4.
المجتمع الغربيّ والحرص
وإذا أردنا أن نعرف أهميّة صفة القناعة، فما علينا إلّا أن ننظر إلى المجتمعات
المادية، كالمجتمعات الغربية (أوروبا وأمريكا)، فإنّ هذه المجتمعات لا قناعة فيها،
وقيمها قيم مادية، يتنافس الناس في هذه البلاد على جمع الأموال وتحصيل المناصب،
ويتكالبون على الدنيا نهماً وشراسة، لذلك وقع هذا المجتمع في أمراض روحية ونفسية
وسلوكية خطيرة.
وإليكم تقرير يشهد لما نقول: ففي إحصاء صدر في الولايات المتحدة الأميركية "أنّ
أكثر من 6% من السكّان يعانون نوعاً من سوء التوافق (أي تعب نفسيّ)، وأنّ واحداً من
كلّ عشرة من السكّان يحتاج إلى معونة الطبيب النفسيّ إن عاجلاً أو آجلاً، وأنّ
واحداً من كلّ ثمانية عشر شخصاً ينفق بعض الوقت في مشفى عقليّ، وأنّ عدد من يدخلون
في المشافي في كلّ عامّ يساوي عدد من يتخرّجون من الجامعات، وأنّ المصابين بأمراض
عقلية أي جنون يشغلون من أسرّة المشافي أكثر مما يشغله جميع المرضى بكافّة الأمراض
الأخرى، وأنّ نصف من يتردّدون على أطبّاء لعلل جسمية يعانون في الواقع من اضطرابات
نفسية"5.
فمن هذا التقرير نشهد مدى ما يعانيه المجتمع الغربيّ من متاعب نفسية وأمراض نفسية،
وما ذلك إلّا لأنّهم يحبّون المال حبّاً جمّاً ويحرصون على جمعه والاستزادة منه،
تاركين التنافس على المعنويات.
فالمجتمع الغربيّ لا يعيش الحياة الطيّبة التي تسبّبها القناعة. سُئل الإمام عليّ
عليه السلام عن قوله تعالى:
﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَة﴾6،
قال: "هي القناعة"7. فمن الأمور المهمّة في طمأنينة الروح،
وسعادة الحياة، وطيب العيش، وراحة البال، القناعة الّتي هي كنز لا ينفد.
آفات الحرص
ولعدم القناعة على مستوى الفرد (والتي تنسحب على المجتمع) آفات كثيرة منها:
1- الغمُّ في الدنيا: قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : "مثل الحريص على
الدنيا كمثل دودة القزّ كلّما ازدادت على نفسها لفّاً كان أبعد لها من الخروج حتّى
تموت غمّاً"8.
2 -الحسد: فإنّ من لا يقنع بما رزُق، فمن المحتمل أن يقع في آفّة الحسد. والوقاية
من آفّة الحسد والطمع سكينة وعافية، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "صحّة الجسد
من قلّة الحسد"9. أمّا الطمع فصاحبه طول حياته هائم وحائر، كيف يجمع
ويدَّخر.
3 -الوقوع في الشّرّ: فغير القانع ربَّما يسلك مسالك منحرفة لكي يحصل على الأموال،
فربّما يسرق أو يغصب أو يقتل، يقول رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : "خير
المؤمنين القانع، وشرّهم الطامع"10.
4- فساد النفس: يقول الإمام عليّ عليه السلام: "أعون شيء على صلاح النفس
القناعة"11، فالحرص لا يساعد على صلاح النفس.
5- ذلّة النفس: في الحديث: "ثمرة القناعة العزّ"12 فمن لا يقنع
يذلّ نفسه.
إلى كثير من الآفّات التي تشكّل خطورة كبيرة على حياة الإنسان الدنيوية ومصيره في
الآخرة.
علاج الحرص والطمع (عدم القناعة)
1 - أن تعرف مضارّ عدم القناعة، وتأخذ العبرة من المجتمعات والأشخاص المبتلين بعدم
القناعة.
2 - أن لا تطلب فوق طاقتك، وفوق ظروفك، بمعنى أن ترضى بما قسم الله لك، وبما أعطاك
من طاقة، وهيّأ لك من ظروف.
3 - أن يكون اهتمامك في المعنويات، وتنافسك في معالي الأخلاق، لا في اكتساب
الأموال.
4 - أن تأخذ بنصيحة الإمام الصادق عليه السلام: "أنظر إلى من هو دونك في المقدرة
ولا تنظر إلى من هو فوقك في المقدرة، فإنّ ذلك أقنع لك بما قسم لك"13.ونصيحة
أخرى للإمام الصادق عليه السلام، فقد جاءه شخص يشكو إليه عدم القناعة فقال له: "إن
كان ما يكفيك يغنيك فأدنى ما فيها يغنيك، وإن كان ما يكفيك لا يغنيك فكلّ ما فيها
لا يغنيك"14.
5 - أن تعرف أنّ الله يوم القيامة لا ينظر إلى الأموال بل ينظر إلى الأعمال الخالصة
﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ
بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾15.
عن النبيّ الأكرم: "اقنع بما أوتيته يخف عليك الحساب"16.
خاتمة
إذا أردتم راحة الدنيا قبل الآخرة، وسعادة الأولى قبل الآخرة، فما عليكم إلّا
بالتمسُّك بصفة القناعة في المادّيات.
وإن كنتم لا تقنعون، فلتكن عدم قناعتكم في المعنويات، فلتتنافسوا فيها، لتعمر
نفوسكم وعقولكم بالغنى، فإنّ الغنى الحقيقيّ هو غنى المعنويات، لا غنى المادّيات.
عن نوف البكاليّ قال: "بتّ ليلة عند أمير المؤمنين عليه السلام فكان يصلّي الليل
كلّه، ويخرج ساعة بعد ساعة فينظر إلى السماء ويتلو القرآن، قال: فمرّ بي بعد هدوء
من الليل، فقال: يا نوف أراقد أنت أم رامق؟ قلت: بل رامق أرمقك ببصري يا أمير
المؤمنين، قال: يا نوف طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة أولئك الذين
اتّخذوا الأرض بساطاً، وترابها فراشاً، وماءها طيباً، والقرآن دثاراً، والدعاء
شعاراً، وقرضوا من الدنيا تقريضاً، على منهاج عيسى ابن مريم عليه السلام..."17.
وقال عليه السلام: "طوبى لمن ذكر المعاد، وعمل للحساب، وقنع بالكفاف، ورضي عن
الله"18.
*مواعظ من نهج البلاغة ، سلسلة الدروس الثقافية ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1-لسان العرب، ابن
منظور، ج8، ص298.
2-المطففين: 26.
3-البقرة: 197.
4-ميزان الحكمة، الري شهري، مج3، ص146، ح5042.
5-الصحة النفسية، د. مصطفى فهمي، ص7.
6-النحل: 97.
7-ميزان الحكمة، الري شهري، ح17124.
8-جامع السعادات، الشيخ النراقي، ج2، ص103.
9-فلسفة الأخلاق في الإسلام، الشيخ محمد جواد مغنية، ص208.
10-ميزان الحكمة، الري شهري، حديث 17142.
11-م. ن، حديث 17161.
12-م. ن، حديث 17160.
13-الكافي، الشيخ الكليني، ج8، ص244.
14-الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص139.
15-الشعراء، الآيتان: 88 ـ 89.
16-ميزان الحكمة، الريشهري، حديث 17168.
17-بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج66، ص275.
18-نهج البلاغة، الحكمة44.