القداسة
كيف نبني مجتمعاً أرقى؟
من صفات الله تعالى أنّه كمال مطلق، فكلّ ما فيه هو كمال، فلا يوجد فيه نقص، ولا عيب، ولا حاجة، فهو قدّوس، أي منزَّه من كلّ نقص وحاجة.
عدد الزوار: 379
قال تعالى: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ 1.
من صفات الله تعالى أنّه كمال مطلق، فكلّ ما فيه هو كمال، فلا يوجد فيه نقص، ولا عيب، ولا حاجة، فهو قدّوس، أي منزَّه من كلّ نقص وحاجة.
ومن الصفات الكمالية لله هو حبُّ الكمال، ومن أحبَّ الكمال أحبَّ أن يظهره، لذا خلق الله عزّ وجلّ الخلقَ، لكي يظهر الكمال في عالم الوجود.
وهذا ما يفسِّر الحديث القدسي عن الله تعالى: "كنتُ كنزًا مخفياً، فأحببتُ أن أُعرف فخلقت الخلقَ لأُعرف"2.
ومن بين خلق الله تعالى أراد الله أن يتحقق الكمال الاختياري، لتنعكس فيه تلك القداسة، فعرض هذا النحو من الكمال (أي الاختياري) على الكائنات المخلوقة، فأبى بعضها ذلك متخوّفًا مشفقًا إلاّ نوعًا من كائناته قَبِلَ أمانة الاختيار والسير بالإرادة في طريق الكمال، وهذا ما نقرأه في كتاب الله تعالى بقوله عزّ وجلّ: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولً﴾ 3.
لأنَّ الإنسان اختار أمانة المسير الكمالي الاختياري رفع الله تعالى من شأنه على جميع الكائنات إن أحسن، فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ الله عزّ وجلّ ركّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركّب في البهائم شهوةّ بلا عقل، وركّب في بني آدم عليه السلام كلتيهما، فمن غلب عقلُهُ شهوَتَهُ، فهو خيرٌ من الملائكة، ومن غلب شهوتُهُ عقلَهُ، فهو شرٌّ من البهائم"4.
قداسة الأصفياء وبركتهم
رفع الله تعالى شأن هذا الإنسان الذي خرج من دائرة الظلوم الجهول إلى رحاب الاعتدال والعلم، فأعطاه من صفة القداسة بما يناسب عالم الإمكان.
وبما أنَّ القداسة هي التنزيه من العيوب والنقائص، فهي منبع النور والبركة والخير.
وهذا ما أوضحه الكتاب العزيز في أنبياء الله الذين هم في رأس هرم الإنسانيَّة، فقال تعالى وهو يتحدّث عن النبي عيسى عليه السلام: ﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ﴾ 5.
كان من بركته عليه السلام أن لمسة يده تشفي المريض وتحيي الميت.
وهكذا كانت بركة الأولياء، فالخضر عليه السلام سُمّي خضرًا، لأنّه كان مباركًا حيث كان يخضرّ كلُّ ما جلس عليه.
وهكذا كانت بركة الأوصياء، فها هو خادم الإمام الحسن العسكري عليه السلام يقول عنه: إذا نام سيدي أبو محمد عليه السلام رأيتُ نورًا ساطعًا من رأسه إلى السماء.
وتجلّت تلك القداسة، وهذه البركة بأعلى مرتبة في سيد بني البشر خاتم النبيين وأعزّ المرسلين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم فكانت قداسته وبركته الإنسانية مضمونًا وشكلًا.
- ففي المضمون: رفع الله تعالى عذاب الأمم السابقة ببركة وجوده
- فقد عصى قومُ نوح نبيَّهم فأهلكهم الله بالطوفان،
- وقد عصى قوم هود نبيَّهم فأبادهم الله بريحٍ صرصر،
- وقد عصى قوم صالح نبيَّهم فأماتهم الله بالصَّيْحَة،
- وقد عصى قوم لوط نبيَّهم فقلب الله عليهم المدينة،
أما بعد رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فلم تنته المعاصي، لكنّ سنَّة العقاب الدنيوي هذه توقّفت ببركة قداسة محمد صلى الله عليه وآله وسلم على ما ورد عن ابن عباس، قال (رض): "كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة لجميع الناس، فمن آمن به، وصدَّق به سعد، ومن لم يؤمن به سلم مما لحق الأمم من الخسف والغرق"6.
- وفي الشكل: قدَّس الله اسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم جزءًا من أذان الصلاة وإقامتها، وفي الحِبر المتشكِّل منه، فلا يمسّ احتياطًا دون طهارة، وفي المسمّى به من الأبناء، فعن صاحب الاسم المقدَّس: "بورك بيت فيه محمد، ومجلس فيه محمد، ورفقة فيها محمد"7.
وكما ورد عن أهل بيته عليهم السلام: "البيت الذي فيه محمد يصبح أهله بخير، ويمسون بخير"8.
قداسة القرآن وبركته
وبين قداسة الله تعالى وتجلّيها في عبده محمد صلى الله عليه وآله وسلم قدَّس الله تعالى وبارك كتابَهُ المنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسالةً لكمال الإنسانية.
ففي المسّ: لا يمسّ القرآن إلاّ المطهّرون، قال تعالى: ﴿ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ 9.
وفي النظر إليه: غفران الذنوب للوالدين ولو كانا كافرين، ففي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: "من قرأ القرآن في المصحف متع ببصره وخفّف عن والديه وإن كانا كافرين"10.
وفي القراءة فيه: علوّ المقام يوم القيامة فـ "كلما قرأ آية رقي درجة"11.
وفي حفظه أكبر نعمة: فإنّ من ظنّ أن هناك نعمة أفضل منها فقد غمط أفضل النعمة، ففي الحديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "من أعطاه الله حفظ كتابه، فظن أنَّ أحدًا أُعطي أفضل مما أعطي، فقد غمط12 أفضل النعمة"13.
قداسة المسجد وبركته
إضافةً إلى تقديس الله تعالى لمن تجلَّت فيه كمالاته، قدّس تعالى المكان المنتسب إليه، فكانت قداسة وبركة المسجد.
- فالمسير إليه جالب للحسنات ودافع للسيئات، بل "من مشى إلى المسجد لم يضع رجلاً على رطب ولا يابس إلاّ سبّحت له الأرض إلى الأرض السابعة"14.
- والجلوس فيه مصدر البركة الربانية، فعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي ذرّ: "يا أبا ذر إن الله يعطيك ما دمت جالسًا في المسجد بكل نفس فيه درجة في الجنة، وتصلي عليك الملائكة، ويكتب لك بكل نفس تنفسته فيه عشر حسنات، ويمحى عنك عشر سيئات"15.
- والصلاة في الجامع من المساجد بمئة صلاة16.
ولانضمام قداسة المسجد إلى قداسة الأنبياء الذين فيه عبدوا الله تعالى، ومنه انطلقوا في دعوتهم، ولقداسة الأوصياء الذين بآخرهم يتحقّق هدف الله، انطلاقًا من المسجد، لكلّ ما تقدَّم كانت الصلاة في المسجد الحرام بمئة ألف صلاة، وتلاه في الفضل المسجد النبويّ، فكانت الصلاة فيه بعشرة آلاف صلاة17.
ولمّا كان المسجد غاية إسراء خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم، ومصلّاه إمامًا في الأنبياء، ومنطلقًا لعروجه في قداسته تمتدّ البركة إلى محيطه، ف﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ .
تعظيم المقدّس المبارك
إنّ هذه القداسة والبركة النابعة من السير الاختياريّ نحو الله تعالى، والنسبة الخاصة إليه عزّ وجلّ جعلت المقدَّس المبارك في ظهوره النوراني من شعائر الله التي أراد الله للمسلمين أن يُعظّموها ﴿ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ 18.
لذا تأدّب المسلمون:
- أن لا يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ 19.
- وأن يتوسلوا به في استغفارهم ربَّهم
- وأن يتباركوا بمرقده الشريف
- وأن لا يلمسوا اسمه المبارك دون طهارة
- وأن يصلوا عليه كلما ذكر اسمه المقدّس صلى الله عليه وآله وسلم.
وتأدّب المسلمون:
- أن يقبِّلوا المصحف حين لمسه
- وأن لا يلمسوه دون طهارة
- وأن لا يتلوه على حدث
- وأن يحترموا صفحاته، صحفة صفحة، فيبعدوا عنها النار والقذارة
- وأن يهيؤا له موضعًا ملائمًا لركونه.
وتأدّب المسلمون:
- أن لا يدخلوا المسجد على جنابة
- وأن يخلعوا أحذيتهم قبل الدخول
- وأن يُحيّوه بصلاة التحية
- وأن يتزيّنوا لدخوله، ويتأنّقوا للصلاة فيه.
الصهاينة والمقدّس
مقابل القداسة والبركة التي يؤمن بها المسلمون أسقط اليهود الصهاينة القداسة أولاً من الله تعالى، "فالله عندهم يلعب في ثلث النهار مع الحوت ملك الأسماء"، و"حينما يواجه معضلة لا يمكن أن يحلّها في السماء.. فإنه يستشير الحاخامات في الأرض.."20.
وأسقطوا القداسة عن التوراة المنزّلة من الله على نبيّهم، فحرّفوها، كما اعتبروا الإنجيل كتابًا مملوءًا بالإثم21.
وأسقطوا القداسة من الأنبياء، فقتلوهم وشوّهوا تاريخهم. واعتبروا المسيح - والعياذ بالله - غشاش بني إسرائيل، وهو موجود في الجحيم بين الزفت والقطران والنار22.
واعتبروا كنائس المسيحيين قاذورات23.
لقد اعتبر اليهود الصهاينة، تاريخيًا، أن من وظائفهم الأساسية هو إسقاط مقدّسات الآخرين، واعتمدوا لذلك أساليب نقرأها في تلك الرسالة التي أجاب فيها حاخام القسطنطينية الأكبر على سؤال حاخام إسبانيا حينما تعرّض اليهود فيها للطرد والاضطهاد، ففي تلك الرسالة:
"يا أبناء موسى الأعزّاء، لقد تسلّمنا خطابكم. إنّ نصيحة الحاخامات والأحياء هي ما يلي:
1- فيما يتعلق بما تقولونه من أن ملك إسبانيا يضطركم إلى اعتناق المسيحية، افعلوا ذلك ما دمتم لا تستطيعون أن تفعلوا شيئًا آخر.
2- فيما يتعلق بتجريدكم من أملاككم، اجعلوا أولادكم تجارًا حتى يجرِّدوا المسيحيين أملاكهم شيئًا فشيئًا.
3- فيما يتعلق بمحاولات قتلكم، اجعلوا أولادكم أطباء وصيادلة لعلهم يقتلون المسيحيين.
4- فيما يتعلق بهدم معابدكم، اجعلوا أبناءكم كهنة وإكليريكيين لعلهم يهدمون كنائسهم.
5- فيما يتعلق بالمضايقات الكثيرة الأخرى التي تشكون منها، رتّبوا أموركم بحيث يصبح أبناؤكم محامين، واعملوا على أن يتّصلوا بشؤون الدولة ويتولَّوا مناصبها دائمًا. وبوصفكم المسيحيين تحت حكمهم قد تحكمون العالم وتنتقمون منهم. ولا تنحرفوا عن هذا النظام الذي نعطيه لكم، لأنكم ستجدون بالتجربة أنكم على الرغم مما أنتم عليه من مهانة، فتصلوا إلى القوة الحقيقية"24.
لقد كان ذلك منشأ لظهور اتجاه صهيوني لم يقتصر فقط على اليهود، وقد ظهرت نتاجاته المنبثقة مما تقدَّم في الفكر الصهيوني، منها:
- فيلم هوليودي يشوّه صورة السيد المسيح وأمّه العذراء.
- قصة تشوّه صورة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ألفها سلمان رشدي الذي كرَّمته ملكة بريطانيا على إنجازاته.
- رسومات كاريكاتيرية تشوه من صورة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم.
- قوانين أوروبية تمنع مآذن المساجد في إسبانيا.
- قوانين أوروبية تتعلق بمنع الحجاب.
- محاولات عديدة لتشويه وتدنيس القرآن الكريم مضمونًا وشكلاً، سواء بحمله على شاشات التلفزة الأمريكية، والإعلان أنّه كتاب الإرهاب، أو بتمزيقه في مسيرات عامة أمام الكاميرات، أو بحملة ذلك القسّ المعتوه "تيري جونز" لإحراق المصحف.
لكن وكما قال الإمام الخامنئي دام ظله: " إن ما حصل ناشئ من حقيقة أن الإسلام منذ عقود وحتى اليوم قد أخذ يشعّ أكثر من ذي قبل، وإن الإهانة إلى القرآن الكريم والرسول العظيم صلى الله عليه وآله وسلم تحمل في طياتها بأن شمس القرآن المشعة تعلو وتسطع أكثر يومًا بعد يوم".
* كيف نبني مجتمعاً أرقى؟ سماحة الشيخ أكرم بركات.
1- سورة الجمعة، الآية1.
2- المازندراني، محمد، شرح أصول الكافي، ط1، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 2000م، ج1، ص24.
3- سورة الأحزاب، الآية72.
4- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار،1983، ج57، ص 299.
5- سورة مريم، الآية31.
6- القرطبي، محمد، الجامع لأحكام القرآن، (لا، ط)، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1405هـ، ج11، ص350.
7- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج15، ص130.
8- الحر العاملي، محمد حسن، وسائل الشيعة، ج21، ص394.
9- سورة الواقعة، الآية 79.
10- الكليني، محمد، الكافي، ج2، ص613.
11- الصدوق، الأمالي، ص441.
12- غمط النعمة: احتقرها (انظر: ابن زكريا، أحمد، معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام محمد هارون، (لا،ط)، مكتبة الإعلام الإسلامي، قم، 1404هـ، ج4، ص396).
13- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، ج3، ص2522.
14- الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، تحقيق حسن الخرسان، ط4، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1365ش، ج3، ص 255.
15- المرجع السابق، ص134.
16- الشهيد الثاني، زين الدين، حاشية شرائع الإسلام، تحقيق مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية، ط1، قم، بوستان كتاب قم، 1422هـ، ص137.
17- الشهيد الأول، محمد بن مكي، البيان، تحقيق محمد الحسون، ط1، قم، محقّق، 1412هـ، ص136.
18- سورة الحج، الآية32.
19- سورة الحجرات، الآية2.
20- الخطيب، محمد نمز، حقيقة اليهود والمطامع الصهيونية، (لا،ط)، بيروت، دار مكتبة الحياة، (لا،ت)، ص16.
21- منعم، طانيوس، خطر اليهودية الصهيونية على النصرانية والإسلام، (لا،ط)، بيروت، ص53.
22- بروتوكولات حكماء صهيون،ط1، دمشق، طلاس، دار الفنون، 1989م، ص 34.
23- المرجع السابق ص 39.
24- المرجع السابق، ص 224.