النظام
كيف نبني مجتمعاً أرقى؟
وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ
عدد الزوار: 209
يُحدّثنا الله تعالى في كتابه الكريم عن بديع نظامه بقوله:
﴿وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ
النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا
ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ
حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن
تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ ﴾1.
ويحدّثنا في سورة الروم عن هذا النظام الإلهي بقوله:
﴿
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ
وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ
مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ
خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾
2.
إنّها آيات عظيمة تُرشد إلى عظمة الخالق، وترشد أيضًا إلى النظام العام في هذا
الوجود.
ومع أنَّ الآيات السابقة كانت في مقام الحديث عن النظام العام التكويني، إلا أنَّ
الله تعالى أراد أن يعمَّ النظام الحياةَ في تكوينها وتشريعها، لذلك نظّم الحياة في
علاقة الإنسان بالإنسان، وعلاقة الإنسان بالبيئة والكون، فكان الدين هو عنوان
الشريعة المنظّمة لحياة الإنسان الفردية والاجتماعية، فعن الإمام علي عليه السلام
في وصية لولديه: "أوصيكما وجميع ولدي، وأهلي، ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم
أمركم"3.
تنظيم الإنسان قبل ولادته
نظَّم الدين حياة الإنسان حتّى من قبل أن تلده أمّه،فقد اهتمَّت الشريعة الإسلاميّة
بصفات الزوج والزوجة المؤثّرة على الولد، فعن الإمام علي عليه السلام: "إياكم
وتزويج الحمقاء، فإنَّ صحبتها بلاء، وولدها ضياع"4.
وكذا ورد في الحديث ما يتعلّق بمستقبل الإنسان أثناء الحمل، فعن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم: "أطعموا حبالاكم السفرجل، فإنَّ في ذلك تحسين أخلاق أولادكم"5.
تنظيم الإنسان بعد ولادته
وتابع الإسلام هذا التنظيم بعد الولادة.
- فشرّع الأذان والإقامة في أُذُنَي المولود، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله
وسلم: "من ولد له مولود، فليؤذِّن في أذنه اليمنى بأذان الصلاة، وليقم في أذنه
اليسرى، فإنها عصمة من الشيطان الرجيم"6.
- وفي اليوم السابع شرّع العقيقة عنه، والتصدّق بوزن الشعر ذهبًا أو فضّة، وختان
الصبي7.
- كما أرشد إلى الرضاع الصحيح، واهتمَّ بتسمية الولد وأثرها التربوي.
ودخل الإسلام في عملية التنظيم التربوي مقسّمًا التربية إلى مراحل ثلاث، عبّر عنها
النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: "الولد سيِّدٌ سبع سنين، وعبدٌ سبع سنين،
ووزيرٌ سبع سنين"8.
تنظيم وقت الإنسان
- كما أرشد الإسلام إلى تنظيم حياة
الإنسان من خلال تنظيم وقته. فعن الإمام الكاظم عليه السلام: "اجتهدوا في أن يكون
زمانكم أربع ساعات:
1. ساعة لمناجاة الله،
2. وساعة لأمر المعاش،
3. وساعة لمعاشرة الإخوان الثقات الذين يعرِّفونكم عيوبكم، ويخلصون لكم في الباطن،
4. وساعة تختلون فيها للذاتكم في غير محرَّم"9.
تنظيم طعام الإنسان
- كما أرشد إلى تنظيم طعام الإنسان،
فعن الإمام الصادق عليه السلام: "إياك أن تأكل ما لا تشتهيه، فإنه يورث الحماقة و
البله، ولا تأكل إلا عند الجوع، وإذا أكلت فكل حلالاً، وسمِّ الله"10.
التنظيم في اللياقات
- وأرشد إلى تنظيم التحية بتشريع "السلام
عليكم" على أنّها تحيّة الإسلام11. وأن يسلِّم الصغير على الكبير، والراكب على
الماشي، والمارّ على الجالس.
التنظيم في الأماكن العامّة
وأراد الإسلام لهذا النظام أن يظهر في المجتمع العام انطلاقًا من الحدّ الأدنى الذي
عبّرت عنه القاعدة التي أرستها السُّنّة النبوية: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام"12.
فالشارع العام، مثلاً، مشترك بين جميع الناس، فلا يجوز الاضرار فيه بالمارة، مثل:
أن يوقف سيارته بحيث يسبِّب ازدحاماً للسير، وأن يرمي في الشارع ما يؤذي المارة.
وقد يسبِّب ذلك الضمان، كما يُفهم ممّا رُوي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه سئل
عن الشيء يوضع على طريق المسلمين فتمرّ الدابة فتنفر بصاحبها فتعقره، قال عليه
السلام: "كلّ شيء يضرّ بطريق المسلمين، فصاحبه ضامن لما يصيبه"13.
وعليه فالإنسان الذي يركن سيارته في الشارع ويتركها، بحيث يؤدي ذلك إلى ازدحام في
السير، عليه أن يهيِّئ نفسه لأسئلة محرجة من الناس المتضرّرين من فعله.
وقد تتعلّق هذه الأسئلة بأمور ليست في حسبانه، وقد تدخل في إطار طلب المقابل منه،
والذي قد يكون حينها حسنات تؤخذ منه، أو سيئات تُدفع إليه، ومن تلك الأمور:
1- صرف الوقود الزائد من عدّة سيارات بسبب سيارته الواقفة.
2- تأخر بعض الناس عن أشغالهم، أو التلامذة عن مدارسهم بما يرتّب عليهم أعباء لاحقة.
3- إزعاج الناس بأصوات أبواق السيارات.
4- أمراض قد تتضاعف بسبب ذلك الوقوف، كبعض أمراض الأعصاب.
5- تبعات التدافع الذي قد يحدث بسبب ذلك.
وفي المقابل فإنّ من جميل قيم الإسلام، في هذا المجال، دعوة الرسول الأكرم صلى الله
عليه وآله وسلم كلّ مسلم إلى الصدقة اليوميّة، إذ قال صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّ
على كلّ مسلم في كلّ يوم صدقة"14، وحينما سئل من يطيق ذلك، قال صلى الله عليه وآله
وسلم: "إماطتك (أي رفعك) الأذى عن الطريق صدقة"15.
وكذلك ما ورد من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
- "دخل عبدٌ الجنّةَ بغصنٍ من شوك كان على طريق المسلمين، فأماطه عنه"16.
- "مرَّ عيسى بن مريم عليه السلام بقبر يعذَّب صاحبه، ثم مرّ به من قابل17، فإذا هو
ليس يُعذَّب، فقال عليه السلام: يا ربّ، مررت بهذا القبر عام أول، وهو يعذَّب،
ومررت به العام، وهو ليس يعذَّب، فأوحى الله جل جلاله إليه: يا روح الله، قد أدرك
له ولد صالح، فأصلح طريقًا، وآوى يتيمًا، فغفرت له بما عمل ابنه"18.
- "من بنى على ظهر طريق مأوى عابر سبيل بعثه الله يوم القيامة على نجيب من درّ
وجوهر، ووجهه يضيء لأهل الجمع نورًا"19.
- "من حفر بئرًا أو حوضًا في صحراء صلّت عليه ملائكة السماء، وكان له بكل من شرب
منه من إنسان، أو طير، أو بهيمة ألف ألف حسنة متقبلة.."20.
* كيف نبني مجتمعاً أرقى؟ سماحة الشيخ أكرم بركات.
1- سوة يس، الآيات 37-40.
2- سورة الروم، الآيات 22-24.
3- ابن أبي طالب، الامام علي عليه السلام، تحقيق محمد عبده ط1، قم، دار الذخائر،
1412هـ، ج3، ص 76.
4- الحر العاملي، محمد حسن، وسائل الشيعة، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت لإحياء التراث،
ط1، بيروت، 2003م، ج20، ص 84.
5- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، ط2،
بيروت، 1988م ج15، ص 154.
6- الحر العاملي، محمد حسن، وسائل الشيعة، ج21، ص 406.
7- انظر: بركات، أكرم، كيف تجعل ولدك صالحًا، ط10، بيروت، بيت السراج، ص 37 - 40.
8- المصدر السابق، ص 195. (راجع تفصيل ذلك في: بركات، أكرم، كيف تجعل ولدك صالحًا).
9- الحراني، ابن شعبة، تحف العقول، تحقيق علي أكبر الغفاري، ط 2، قم، مؤسسة النشر
الإسلامي، 1404هـ، ص 409.
10- الشهيد الثاني، زين الدين، رسائل الشهيد الثاني، ج2، ص 814.
11- الصدوق، محمد، (لا، ط) النجف، المكتبة الحيدرية، ج1 ص 102.
12- الحر العاملي، محمد حسن، وسائل الشيعة، ج26، ص14.
13- الصدّوق، من لا يحضره الفقيه، ط2، قم، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة،
1404هـ، ج4، ص 155.
14- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، تحقيق محمد الباقر البهبودي، ط2، بيروت،
مؤسسة الوفاء، 1983م، ج72، ص 50.
15- المصدر السابق نفسه.
16- المصدر السابق، ص 49.
17- أي في العام الآتي.
18- الحر العاملي، محمد حسن، وسائل الشيعة، ج16، ص 338.
19- المرجع السابق، ص339.
20- الميرزا النوري، مستدرك وسائل الشيعة، ج12، ص 386.