يتم التحميل...

من نقلّد؟

التقليد وأحكامه

ال العالم المحقّق الفاضل التوني "لا يجوز تقليد الميت مطلقاً لفوات أهليّته بالموت، وهذا هو المشهور بين أصحابنا خصوصاً المتأخّرين منهم، بل لا نعلم قائلاً بخلافه ممّن يُعتدُّ بقوله"

عدد الزوار: 220

ذكر الفقهاء شروطاً لا بدّ من توفُّرِها في المرجع ليصِحّ تقليده، وهي:

1- الحياة: والمقصود من هذا الشرط أنّ المكلَّف في بداية أمره لا بدّ أن يتوجّه إلى المرجع الحيّ، فلا يجوز تقليد الميت ابتداءً على رأي مشهور الفقهاء، بل قال العالم المحقّق الفاضل التوني "لا يجوز تقليد الميت مطلقاً لفوات أهليّته بالموت، وهذا هو المشهور بين أصحابنا خصوصاً المتأخّرين منهم، بل لا نعلم قائلاً بخلافه ممّن يُعتدُّ بقوله"1.

ويتأكَّد الإشكال في تقليد الميت الذي مضى على وفاته وقت طويل، وذلك للتطوُّر الحاصل في نظرة الفقهاء إلى الأدلَّة الشرعيّة، والتفاتهم إلى دقائق علميّة، بحيث لو اطَّلع المتقدّمون من الفقهاء على هذه التحقيقات لأثَّر ذلك في استنباطهم للأحكام الشرعيّة.

مثال توضيحيّ

ونعرض لذلك مثالاً علميّاً مع محاولة توضيحه:

من القواعد الأصوليّة التي تؤثّر كثيراً في حركة المجتهد واستنباطه للأحكام الشرعيّة "قاعدة الاستصحاب" وهي تعني أنّ الإنسان حينما يكون على يقين سابق بشيء ثمّ يشكّ فيه بعد ذلك فإنّه يبني على ذلك اليقين ولا يعبأ بالشكّ، فمثلاً: لو تيقَّن المكلَّف بأنّه قد توضّأ، ثمّ شكّ، بعد ذلك، هل نام بعد الوضوء بحيث قد نقض وضوءه؟! هنا تأتي قاعدة الاستصحاب لتقول له: إبنِ على يقينك السابق ولا تعبأ بالشكّ اللّاحق، فأنت شرعاً على وضوء.

ولكن حين نراجع تاريخ هذه القاعدة الأصوليّة نلاحظ أنّ بعض الفقهاء المتقدّمين (قدس الله أسرارهم) حينما نظروا في أدلَّتها رفضوها، لأنّهم لم يلتفتوا إلى أيّة رواية معتبرة تدلّ عليها وبعد تلك المرحلة اكتشف الفقهاء، من خلال تحقيقاتهم العلميّة، بعض الروايات المعتبرة تدلّ بشكل محكم على هذه القاعدة، حتى أضحت مسلَّمة عند الفقهاء.

فهنا نقول: لو التفت أولئك المتقدّمون من الفقهاء إلى روايات قاعدة الاستصحاب لغيَّروا بعض آرائهم الاجتهاديّة اعتماداً عليها، ولكنَّهم لم يلتفتوا إليها. وعليه كيف يجوز لنا أن نقلِّدهم؟!

التقليد الاستمراري

ما تقدّم من عدم جواز تقليد الميت كان في المكلَّف الذي يريد التقليد في بداية أمره، أمّا من كان يقلِّد مرجعاً فمات فإنّ حكمه يختلف، فمن الخطأ أن يرجع إلى فتوى الميت في مسألة تقليد الميت، فإذا كان يقلِّد الإمام الخمينيّ قدس سره الذي كان يجيز البقاء على تقليد الميت في بعض الصور، فبعد وفاة الإمام قدس سره لا يجوز لمقلّده أن يعتمد على فتواه هذه ويبقى على تقليده، بل لا بدّ، في هذه الحال، من التوجُّه إلى مرجع التقليد الحيّ الذي تتوفَّر فيه شروط التقليد، وهذا المرجع هو الذي يقرِّر له حكمه وتكليفه.

فقد يقول له: "يجب عليك البقاء على تقليد المرجع الميت في كلّ فتاواه طالما هو بنظرك أعلم من الأحياء".

وقد يقول له كالقول الأوّل، ولكن ليس في كلّ فتاواه، بل بما حفظ منها ولم ينسَ.

وقد يخيِّره بين البقاء على تقليد الميت وتقليد الحيّ.

وكمثال عمليّ على ذلك نعرض هذه المسألة:

لو أنّ مكلَّفاً كان يقلِّد الإمام الخمينيّ قدس سره وبعد وفاته رحمه الله وجد شروط مرجعيّة التقليد في الإمام الخامنئي دام ظله فرجع إليه ليسأله: ما هو تكليفي في التقليد؟ فجواب الإمام الخامنئي دام ظله هو التالي: أنت أمام خيارات ثلاثة يجوز أن تتبع أيّاً منها:

الأوّل: أن تبقى على تقليد الإمام الراحل قدس سره في كلّ فتاواه.

الثاني: أن تقلّدني في كلّ فتاواي.

الثالث: أن تبقى على تقليد الإمام الراحل قدس سره في فتاواه وتقلِّدني في أيَّة فتوى شئت بدون استثناء حتى لو كان رأيُ الإمام الراحل قدس سره مخالفاً لرأيي على نحو الفتوى لا الاحتياط. ولكن بعد عدولك إليَّ، لا يجوز لك الرجوع إلى رأي الإمام الراحل قدس سره في ما عدلت إليَّ من الفتاوى.

فمثلاً لو بقيت على تقليد الإمام قدس سره في فتاواه، لكنّك عدلت إليَّ في فتوى صلاة المسافر، وكانت فتواي الإتمام في الصلاة، بينما كان رأي الإمام قدس سره التقصير فيها، فهنا بعد عدولك إليَّ في هذه الفتوى، يتعيَّن عليك الإتمام في الصلاة، ولا يجوز لك الرجوع إلى فتوى الإمام قدس سره التي هي وجوب تقصير الصلاة.

وبعد أن تمّ الكلام عن الشرط الأوّل من شروط مرجع التقليد ننتقل إلى الشرط الثاني لنعقبه ببقيّة الشروط.

2- البلوغ: وهذا الشرط محرز في الفقهاء عادة، وإن كان بعض فقهائنا كالعلّامة الحلّي والفاضل الهندي، قيل فيهم إنّهم وصلوا إلى رتبة الاجتهاد قبل مرحلة بلوغهم.

3- العقل: وهو شرط واضح.

4- الذكورة: وقد نسب إلى العلماء التسالم عليه لأدلَّة ذُكِرَتْ في محلّها.

5- طهارة المولد: أي عدم التولُّد من زنا وذلك لحساسية منصب المرجعيّة.

6- الإيمان: أي كون المرجع على مذهب أهل البيت عليهم السلام إمامياً اثنا عشرياً وهذا شرط واضح، أيضاً وهو مستفاد من عدة أخبار واردة عن أهل البيت عليهم السلام كقول الإمام أبي الحسن عليه السلام لعلي بن سويد: "لا تأخذنّ معالم دينك من غير شيعتنا"2.

7- العدالة: وقد فسَّرها الإمام الخمينيّ قدس سره "بأنّها ملكة راسخة باعثة على ملازمة التقوى من ترك المحرَّمات وفعل الواجبات"3.

ومعنى كونها ملكة أنّها صفة راسخة في النفس تجعل الإنسان يفعل الواجب ويترك الحرام بدون تكلُّف.

وتفسير الإمام قدس سره للعدالة بأنّها ملكة راسخة في مقابل من فسَّرها بأنّها تقتصر على فعل الواجبات وترك المحرَّمات، حتى لو لم يكن لدى الإنسان ملكة في ذلك4.

ولتوضيح الفرق بين كون العدالة ملكة تبعث على فعل الواجبات وترك المحرّمات، وكونها مقصورة على فعل الواجبات وترك المحرّمات، وإن لم تكن ملكة، نمثّل للتوضيح بالمثال التالي:

إنّ التعلّم الصحيح على الآلة الكاتبة يكون بوضع الأصابع على أزرار الآلة بشكل خاصّ والمتعلّم في بداية تدرُّبه، يُلاحظ وضعيّة الأصابع على الأزرار بشكل دقيق وفي هذه الفترة قد يكتب بشكل سليم دون أيّة أخطاء، ولكن ببطء وتكلّف، لأنّه لم يحصل على "ملكة" الضرب على الآلة الكاتبة، وبعد فترة تدريبيّة نجده يكتب بسرعة فائقة دون التفات دقيق إلى وضعيّة أصابعه على الأزرار ودون أن يشعر بتكلُّف، وذلك لأنّه أصبح لديه "ملكة" في الضرب على الآلة الكاتبة.

وهكذا فإنّ صاحب ملكة العدالة يفعل الواجبات ويترك المحرّمات من دون شعور بالتكلُّف بخلاف غيره.

إنّه مثال توضيحيّ لتفسير معنى الملكة المأخوذة في العدالة عند بعض الفقهاء، وإن كان فيه بعض المسامحة في التشبيه.

وعلى كلّ حال فإنّ معنى العدالة وإن كان ما مرَّ إلّا أنّها في المرجع مطلوبة بصفة آكد لحساسية موقعه لذا قال الإمام الخمينيّ قدس سره في تحرير الوسيلة: "يجب أن يكون المرجع للتقليد عالماً مجتهداً عادلاً ورعاً في دين الله، بل غير مكبّ على الدنيا، ولا حريصاً عليها وعلى تحصيلها جاهاً ومالاً على الأحوط، وفي الحديث (من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه فللعوامّ أن يقلِّدوه)"5.

وقد أكَّد الإمام الخامنئي دام ظله على أهميّة الصيانة النفسيّة في مرجع التقليد بقوله: "نظراً إلى حساسية وأهميّة منصب المرجعيّة يُشترط على الأحوط وجوباً في مرجع التقليد، إضافةً إلى العدالة، التسلّط على النفس الطاغية وعدم الحرص على الدنيا"6.

8- الاجتهاد: فأدلّة التقليد انصبّت على اتباع العالم العارف بالقوانين الإسلاميّة وكيفيّة فهمها واستنباطها من الأدلّة، وقد عبَّرت عنه النصوص بالفقيه تارة "من كان من الفقهاء صائناً لنفسه.. فللعوامّ أن يقلّدوه" والعارف والناظر تارة أخرى.

وقد اشتهر التعبير عنه بالمجتهد نظراً للجهد الكبير الذي يحتاجه الإنسان للوصول إلى مرحلة استنباط الأحكام الشرعيّة من الأدلة المقرَّرة.

والاجتهاد على قسمين:

اجتهاد كامل، ويسمّى ذو الاجتهاد الكامل بالمجتهد المطلق وهو القدير على استخراج الحكم الشرعيّ من دليله المقرَّر في مختلف أبواب الفقه.

اجتهاد ناقص، ويسمّى ذو الاجتهاد الناقص بالمجتهد المتجزِّئ وهو الذي اجتهد في بعض المسائل الشرعيّّة دون بعض، فكان قديراً على استخراج الحكم الشرعيّ في نطاق محدود من المسائل فقط.

والقدر المتيقّن من الاجتهاد الذي هو شرط في مرجع التقليد، هو الاجتهاد الكامل المطلق. أمّا الاجتهاد الناقص ففيه تفصيل وارد في محلِّه.

يبقى الكلام عن الأعلميّة وشرطيّتها في مرجع التقليد، وهي نقطة حسّاسة وغاية في الأهميّة نعقد لها البحث التالي، فهلمَّ بنا.

* لماذا نقلد؟ الشيخ أكرم بركات.


1- الوافية، ص300.
2- المجلسي، بحار الأنوار، ج2، ص82.
3- تحرير الوسيلة، ج1، ص11.
4- أنظر الغروي، التنقيح، ج1، ص252-253.
5- المصدر السابق، ص7.
6- أجوبة الاستفتاءات، ج1، ص4.

2013-08-28