تحصين الطفل من عقدة الحقارة
تربية الأبناء
إن التربية السليمة للطفل أولى وأهم أسس السعادة الفردية والإجتماعية وهذه المسؤولية الخطيرة تقع على عاتق الأبوين قبل كل شيء. تتحقق التربية السليمة في ظل قاعدتين مهمتين:الأولى: أن يكون المربي بصيراً بالواجبات التربوية الدقيقة من الناحية النظرية.الثانية: أن يطبق معلوماته بكل جدّ وإخلاص .
عدد الزوار: 109
قال الله تعالى في كتابه الحكيم: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾(فصلت:26).
إن التربية السليمة للطفل أولى وأهم أسس السعادة الفردية والإجتماعية وهذه المسؤولية الخطيرة تقع على عاتق الأبوين قبل كل شيء. تتحقق التربية السليمة في ظل قاعدتين مهمتين:
الأولى: أن يكون المربي بصيراً بالواجبات التربوية الدقيقة من الناحية النظرية.
الثانية: أن يطبق معلوماته بكل جدّ وإخلاص في تربية الطفل، ويقوم بواجباته خير قيام.
إن الآباء والأمهات الجاهلين بالأساليب التربوية، والبعيدين عن خيرها وشرها... أو العالمين بها لكنهم لا يطبقونها على أولادهم بصورة صحيحة، يعجزون عن تربيتهم بصورة سليمة، وجعلهم أفراداً صالحين.
التربية الفاسدة
إن قواعد التربية الفاسدة للطفل تعود إلى أحدى هاتين الجهتين. فالإفراط في المحبة، والتزمّت التافه والدّلال والغنج، والإهمال الذي لا يستند إلى مبرر، والإفراط في التشجيع والإستحسان أو ا للوم والتقريع... كل ذلك يعود إلى جهل المربي، أو تغافله عن تطبيق واجبه بصورة صحيحة بالرغم من علمه بوظائفه. والنتيجة هي نشوء الطفل على التربية الفاسدة.
"تعني التربية الفاسدة ترك الطفل لوحده دون تخطيط ممنهج لسلوكه وتقسيم لأوقاته. في هذه الحالة يستطيع الطفل أن يصل إلى ما يريد دون جهد أو صعوبة، خصوصاً إذا كان معتقداً بأنه لا يجازى على أفعاله. إن طفلاً كهذا تكون تربيته فاسدة إذا تلقى تشجيعاً زائداً على المعتاد، أو قوبل بالدلال لغير سبب، أو تربى في أسرة من دون وجود مشرف عليها، أو كان المشرف متسامحاً على الأقل، أو سمح له بإيذاء من حوله أو الإستهزاء من الآخرين من دون مبرر، أو لا يطرق سمعه حديث عن النشاط والعمل، أو ينشأ في أسرة خاملة وحقيرة، أو تسير حياته على عدم الإيمان وحب الكمال، أو يسير من دون هدف ومرشد"1.
تترك التربية الفاسدة آثارا سيئة في جسم الطفل وروحه، وقد تستمر تلك الآثار حتى نهاية العمر تؤلم صاحبها وتقضّ عليه مضجعه.
إن من الآثار السيئة للتربية الفاسدة ظهور عقدة الحقارة. إن المصابين بهذه الحالة النفسية، والذين يشعرون بنوع من الحقارة والضعة في أنفسهم قلقون ومضطربون دائماً، وتلاقي ضمائرهم الأمرين من العذاب والتأنيب الداخلي. "إن شخصية رجل كهذا مركبة من عدم الثبات، وفقدان الإعتماد على النفس، والحيرة والتردد، ثم الفرار من الواقع والإلتجاء الى الأحلام والخيالات، والمخدرات".
"ومن جهة أخرى فإن هذا الفرد يصبح فوضوياً وعابثاً ولكي يستر الشعور بالحقارة في نفسه، يمتهن قول الزور ويشعر بالإستعلاء، ويتخذ المبالغة والإفراط في كل شيء قدوة له في سلوكه"2.
قد يصاب الأطفال، الشباب، الشيوخ، الرجال، والنساء... وبصورة موجزة كل الطبقات في الأعوام المختلفة من حياتهم بعقدة الحقارة من جهة أو عدة جهات. فإن لم تُحلّ تلك العقدة الروحية، وتأصلت تلك الحالة النفسية في روح الفرد بصورة مرض مزمن، أدى ذلك إلى عوارض وخيمة قد تنتهي الى الجنون.
وكما أن الخجل يؤدي الى احمرار الوجه، والخوف يبعث الصفرة في البشرة، وبصورة عامة تؤثر الحالات الروحية في الجسم، كذلك عقدة الحقارة فإنها ضغط روحي مؤلم، وتتضمن ردود فعل مختلفة على جسم الإنسان.
رد فعل الحقارة
إن كثيراً من مظاهر الضحك والبكاء، والتواضع والتكبر، والإنتقام والتسامح، والإنزواء والتظاهر، والإكرام والتحقير، والتقدم والتقهقر، والنصح والموعظة ينبع من عقدة الحقارة. وقد تصدر هذه الأفعال بصورة طبيعية تماماً بحيث لا يغفل الناس عن أساسها النفسي فقط، بل لا يعلم صاحبها عن أساس سلوكه المستند الى عقدة الحقارة أيضاً !
ولما كان الإنتباه إلى الأفعال المؤدية إلى نشوء عقدة الحقارة مهماً جداً في تربية الطفل، فيلزم على الآباء والأمهات معرفة هذا الأمر النفسي الدقيق... هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن شرح هذا الموضوع يفيد في تهذيب الأخلاق العامة، وتطهير أعمال الأفراد عن هوى النفس. فمن الضروري إذن أن نبحث هذا الموضوع بصورة مفصلة، ونبين الأخلاق والأعمال السيئة للأطفال والكبار، التي تنبع من عقدة الحقارة... آملين أن يكون هذا البحث مفيداً من جوانب عديدة.
إن غريزة حب الذات من الميول الأساسية والفطرية للإنسان. فكل فرد يحب ذاته وجميع الكمالات المتعلقة به بصورة فطرية. والشعور بالحقارة يقع في النقطة المقابلة لحب الذات. تشبه عقدة الحقارة عدواً قوياً يقف بوجه حب الذات ويحاول تحطيم شخصية الفرد والتقليل من مكانته. إن المصاب بهذه العقدة وإن كان يعاني صراعاً شديداً في باطنه إلا أنه يسعى في أن لا يفشي هذا السر المكنون بين الناس، ويحاول أن لا تجرح غريزة حبه لذاته... إنه يصرف قسماً من جهوده في سبيل إخفاء هذه الحالة النفسية، ولذلك فإنه سرعان ما يفقد مقاومته.
الصراع الداخلي
"عندما يشعر فرد سالم وقوي تماماً بالضعف والكسل في نفسه من دون سبب فمعنى ذلك أن روحه غير سليمة إنه يعاني صراعاً روحياً في باطنه، بحيث تثير أعصابه بصورة خطيرة وتتعبه كثيراً. إن أفضل مثال حي لإنسان كهذا أن نتصور سيارة ضغط السائق فيها على جهاز الإيقاف (البريك) ولكنه يحاول في نفس الوقت أن يدفعها للسير بأقصى سرعة، إن العمل مضافاً الى انه يورد ضغطاً لا مبرر له على الاطارات، يتسبب في فساد المحرك وعطبه بسرعة. فالسيارة التي كان بالإمكان أن تعمل لعدة سنوات بصورة طبيعية، نجدها قد عطبت وسقطت عن الإستفادة في فترة وجيزة كذلك الدماغ الذي يلاقي إرهاقاً من أثر القلق الروحي فإنه يشبه كابوساً على روح الإنسان ومخه، ويتلف الأعصاب قبل موعد تلفها"3.
تدارك النقص
إن الشخص المصاب بعقدة الحقارة، أو الذي يشعر بالحقارة يحاول أن يسد نقصه الداخلي، أو لأجل إقناع نفسه على الأقل، يقدم على أفعال يتصورها صحيحة ومناسبة، ولكنه يحرص أشد الحرص على أن لا ينتبه الأفراد الى العلة الواقعية لتلك الأفعال، التي هي الشعور بالضعة والدونية. لهذا فإنه يحاول أن يبرر كل عمل من أعماله بأسلوب معقول صحيح حتى يقنع الناس بذلك بإستقامته وصحة أفعاله.
لتوضيح هذا الموضوع أذكر لكم نموذجين:
1- لنتصور طالباً لم يتلقّ مقداراً كافياً من الثقافة والتعلم إما بسبب قصوره وضعف إدراكه، أو لتهاونه وكسله. إنه يحس بالحقارة في باطنه، ويرى نفسه في مستوى أقل وأوطأ من مستوى بقية الطلاب، إنه يعرف جيداً أنه لو اشترك في الإمتحانات فنتيجته الرسوب المحتم وإفتضاح أمره لدى زملائه. ولكي يخفي حقارته الباطنية يتمارض أو يترك الدراسة تماماً ويقول في تبرير عمله هذا: ما هي فائدة الدراسة ؟ ! إن الثقافة في هذه البلاد تؤدي إلى الحرمان والتعاسة ! ما أكثر الأشخاص المثقفين الذين بقوا عاطلين عاجزين عن تحصيل ما يسدّ رمقهم... وبالمناسبة يذكر أسماء بعضهم. إنه يحاول بحديثه هذا أن يشرك الطلاب الآخرين معه في عقدته ويحثهم على ترك الدراسة أيضاً.
2- يقول شاختر:
"أتذكر فتاة دعيت إلى حفلة كبيرة، فظلت تستعد لملابسها عدة أيام، ولكنه تنبهت قبل ذهابها الى الحفلة بساعتين أو ثلاث إلى أن أمها مصابة بمرض ولذلك يجب عليها أن تتخلى عن الذهاب".
"مهما ألحّوا عليها وأصرّت الأم نفسها عليها بالذهاب لم يجد ذلك نفعاً وأخيراً أجهشت بالبكاء. كانت تقول كيف أستطيع أن أترك أمي على هذه الحالة وحيدة وأذهب للترفيه عن نفسي ؟ في حين أن مرض أمها لم يكن جديداً ولم تكن هناك حاجة لبقائها. لقد ذكرت الأم فيما بعد أن هذه الفتاة كانت مضطربة منذ ليالٍ وكانت لا تنام باستقرار، ولقد أدركت جيداً أنها كانت تخشى من الذهاب الى تلك الحفلة كثيراً، لأنها كانت تتصور أنها لا تستطيع مضاهاة الفتيات هناك بملابسها. ولكنها ما أن تذرعت بمرضي وشكرتها على حنانها هدأت واعتقدت أنها تملك مبرراً معقولاً لعدم الذهاب الى الحفلة. ولذلك فقد نامت تلك الليلة على عكس الليالي السابقة على أتم الراحة والإستقرار. ولكن كان يظهر من خلال كلماتها في الأيام اللاحقة أنها كانت متألمة في باطنها من عدم الذهاب الى الحفلة"4.
إن كلاً من الطالب والفتاة كان يحس بالحقارة في نفسه. الأول لجهله وقلة حظه من الثقافة، والثانية لعدم أناقة ملابسها، هذا الشعور دفع الطالب الى ترك المدرسة والفتاة الى عدم الحضور في الحفلة. لقد برر الطالب عمله ذاك بحرمان الرجال المثقفين وبطالتهم، وبررت الفتاة عملها بمراقبة أمها في مرضها، ولم يوافق أيّ منهما على التصريح بالحقارة التي يشكو منها والتي كانت الدافع الحقيقي لسلوكهما.
تختلف ردود الفعل التي يبديها الأفراد على أثر إصابتهم بعقدة الحقارة. لانه بغض النظر عن اختلاف الشعور بالحقارة عند الأفراد من حيث الشدة والضعف، فإن الظروف البيئية والعوامل الإجتماعية المؤثرة في أفعال الفرد وأقواله تختلف أيضاً من فرد إلى آخر. إن البناء الروحي والتربية العائلية والخواص الفطرية والمكتسبة للأشخاص تختلف اختلافاً كبيراً، وعندئذ فمن البديهي أن تكون أفعال الناس المتولدة من أفكارهم متنافرة ومتضادة أحياناً.
وهكذا فإن البعض يظهرون ردود الفعل لعقدة الحقارة بالسكوت والهدوء، والبعض الآخر بالثرثرة والإطالة في الحديث... قسم منهم يتذرع بالتملق، والقسم الآخر يلتزم التكبر والإستعلاء. طائفة تتصف بالعطف والحنان، وأخرى تتسم بالفحش والتسيب.
الإنتقام
الرغبة في الإنتقام من أهم ردود الفعل لعقدة الحقارة وأخطرها على الإطلاق. ذلك أن هذه الرغبة الموجودة عند بعض الأطفال والكبار تؤدي الى الطغيان والفوضى، وبذلك تتضمن سلسلة من المشاكل والمآسي التي لا تجبر.
"إن العلة الأخرى لظهور عقدة الحقارة هي السلوك المتزمّت والشديد الذي يلاحظ تجاه بعض الأطفال، أي الذين يُنظر إليهم نظرة السخرية والتحقير. وأشّد من ذلك موضوع العقوبات البدنية التي تؤلم جسد الطفل وروحه معاً. إن الأطفال الأبرياء الذين يواجهون هذا المشاكل يصبحون بلا شك أخطر أعداء المجتمع. وكما أن الحب والحنان أساس التنظيم الإجمتاعي ويؤدي إلى تجمع الأفراد وتمركزهم فإن الحقد والبغضاء عامل أساسي في التفرقة والتشتيت. وهكذا فالطفل الذي شعر بأن جو الأسرة وحجر الوالدين ليسا إلا مقراً للكراهية والحقد، ولا يستطيع أن يتصور بأن جميع الناس ينظرون إليه بغير نظرة الكراهية والاحتقار... ولذلك فإنه يثأر، وينتقم، ولا يوجد في قلبه محل للحب واللين، عند ذاك يصبح في عداد الناقمين على المجتمع ساخطين على جميع الأفراد. إن كل ما يصيب الفرد من شر أو انحراف في صغره يسبب رد فعل مشابه له من جانبه"5.
إن الطفل الذي يتجرع الضغط والتحقير والسخرية من أبيه أو أمه أو زوجة أبيه أو مربيه، يحمل حقداً خاصاً في قلبه، ويحاول تدارك الفشل الذي لاقاه في حياته فيقدم على كل عمل خطير وحقير ولا يتورع من ارتكاب أي جريمة أو ذنب.
إن أبسط نموذج لطغيان الأطفال والشبان هو الفرار من أسرهم وترك والديهم... وذلك ما نقرأه في الصحف كل يوم، ونسمع استغاثة الآباء في سبيل العثور على أولادهم، وقد تنتهي هذه الحوادث بقضايا مؤلمة ومشاكل لا تجبر كالإنحراف الجنسي، أوالسرقة، أو الإنتحار. وأخيراً فإن كلاً من الولد أو الفتاة الهاربين ينتهي إلى مصير تعس ومؤلم، ويكون بعمله هذا قد انتقم لكرامته من أبويه بتلويث سمعتهما والحط من منزلتهما في المجتمع.
وبهذا الصدد يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "ولدُ السوء يهدم الشرف، ويشين السلف"6.
نماذج للإنتقام
تخطر ببالي عدة نماذج للإنتقام من قبل الأطفال والشبان والمحتقرين،أكتفي ببعض النماذج المفيدة في حسن تربية الأطفال ليطّلع الآباء على واجباتهم في هذا الصدد.
الإفراط في المحبة
من عوامل نشوء عقدة الحقارة عند الطفل، الإفراط في الحب والحنان من قبل الوالدين تجاه طفلهما. إن الطفل الذي عومل بمقدار اعتيادي من الحب واللين لا يتألم لولادة الطفل الثاني في الأسرة لأن المقدار الذي كان يعامل به لا يزال موجوداً الآن. لكن الطفل الذي عومل بحب وحنان زائدين ونشأ على الدلال والغنج يتألم كثيراً لولادة الطفل الثاني، لأنه يرى أن قسماً من الحب الذي كان يستأثر به إلى ذلك الحين قد صار من حصة أخيه أو أخته، ولذلك فإنه يحقد عليه، ويتحين الفرص للانتقام منه. فيضربه، أو يدخل إصبعه في عينه، أو يقرصه. كذلك يحاول الإنتقام من أبويه فيسيء إليهما، ويعاملهما بالقسوة والإهمال، ولا يعتني بكلامهما، وقد يسمعهما ما لا يرضيان.
الأطفال المحرومون
والعامل الآخر من عوامل ايجاد عقدة الحقارة عند الطفل، الحرمان من اللباس المناسب والغذاء الطيب ووسائل اللعب أو أدوات المدرسة. إن الطفل الذي يلبس حذاءاً بالياً أو ثوباً رثاً بين الأطفال الأنيقين في ملابسهم أو الذي يرى مختلف وسائل اللعب بأيدي الأطفال الآخرين ويجد نفسه فاقداً لها... أو الذي يذهب الى المدرسة وهو لا يملك حقيبة أو أدوات مدرسية، يشعر بالحقارة في نفسه، ويرى أنه في مستوى دون مستوى الآخرين.
إن الآباء الموسرين الذين يستطيعون الإستجابة لحاجات أطفالهم بصورة معتدلة، ولكنهم يقترون عليهم بسبب من لؤمهم وبخلهم يرتكبون جرماً عظيماً. فقد قال رسول صلّى الله عليه وآله: "ليس منا من وسع عليه ثم قتر على عياله"7.
وعن علي بن الحسين عليه السلام قال: "أرضاكم عند الله أوسعكم على عياله"8.
وفي حديث عن ابن عباس، قال: قال النبي صلّى الله عليه وآله "من دخل السوق فاشترى تحفة فحملها الى عياله كان كحامل صدقة إلى قوم محاويج، وليبدأ بالاناث قبل الذكور. فإنه من فرّح ابنته فكأنما أعتق رقبة من ولد إسماعيل، ومن أقرّ عين ابن فكأنما بكى من خشية الله، ومن بكى من خشية الله أدخله جنّات النعيم"9.
إن الأطفال الذين يصابون بعقدة الحقارة في مثل هذه الظروف يحاولون تدارك حرمانهم بصور مختلفة من الإنتقام. وقد ينتهي ذلك بثمن حياة الأب المتزمت أو تمني موته على الأقل.
قال أبو الحسن الرضا عليه السلام: "ينبغي للرجل أن يوسع على عياله لئلا يتمنوا موته"10.
هؤلاء ينتقمون بواسطة الحرق أو الكسر أو التهديم وبصورة موجزة تفتيت ثروة آبائهم وتدميرها، وقد يقدمون على سرقة أموالهم، وبذلك ينتقمون من سلوكهم الظالم تجاههم، ويجبرون ما تجرعوه من التحقير والحرمان.
يقول الدكتور آلاندي: "يجب أن نمتنع عن كل ظلم تجاه الطفل حتى لا ينشأ على السرقة. إن كل طفل يصبح سارقاً لا بد وأنه قد غُبن حقه في يوم من الأيام وقوبل بالتجاوز والظلم. ليس من الضروري أن يكون هذا التجاوز حقيقياً، بل من الممكن أيضاً أن يتخذ صورة مجازية وتصورية... وقد يكون تصوراً طفولياً إلى درجة أن الكبار لا ينتبهون لذلك أبداً، ولكن هذا كله لا يمنع من أن يترك آثاره العميقة والمؤلمة على روح الطفل".
"إذا حاولنا أن نعمل على اقتلاع جذور السرقة، فيجب أن نحيي في الطفل منذ البداية ذلك الشعور بالحقد والإنتقام الناشيء من حرمان سابق، ثم نعمل على تدارك الحرمان وعلاجه".
"هناك بعض الأطفال يصرفون النقود التي سرقوها على أصدقائهم بكل سخاء، وهذا يدلنا على أنهم يرغبون في الإنتقام من التحقير الذي كانوا يقابلون به، فيشعرون عند ذاك بأنهم ذوي مكنة مادية عالية، يستطيعون جلب قلوب الناس نحوهم بها".
"لقد وجدت بنفسي طفلاً في الثانية عشرة من عمره يسرق نقود الآخرين ولكنه يشتري لأطفالهم الذين كانوا أصغر منه سناً بعض اللُعب والدُمى. وتبين بعد ذلك أن أبوي هذا الطفل كانا لا يشتريان له وسائل اللعب في الصغر، وهو الآن يريد تدارك الحرمان الذي كان يلاقيه والظلم الذي كان يتجرعه بهذه الصورة"11.
يجب على الموسرين أن يوسعوا على أطفالهم إتباعاً منهم لتعاليم الإسلام، ويعملوا على تلبية رغباتهم وحاجاتهم الطبيعية فيحفظوا بذلك شخصيتهم من الإصابة بعقدة الحقارة، ويجنبّوا أنفسهم من ويلات الإنتقام الناشيء من الشعور بالحرمان في الأمور المعيشية.
السخرية والإستهزاء
ان الوسيلة الاخرى من وسائل الإنتقام والثأر لتدارك الانهيار الداخلي بالنسبة الى المصابين بعقدة الحقارة هو السخرية والإستهزاء والنقد اللاذع واللوم الشديد تجاه الآخرين.
"إن التلميذ المتخلف في دروسه بسبب إهماله أو قلة ذكائه، ينتقم من الآخرين بالإستهزاء منهم ورميهم بالنكات المشوبة بالسخرية. الكل يضحكون ويلتفون حوله، وهو يزداد مهارة وشهرة في المزاح ويتلذذ بالانتقام اكثر، فيتصور خطأ أن هذه اللذة التافهة تستطيع أن تحل محل أبسط نجاح".
"من البديهي أن هذا الفرد لا يلتفت الى الدافع الى سلوكه هذا، أي أنه لما كان يعجز عن إحراز النجاح في أي فرع أو مهنة فهو يسخر من زملائه من حيث لا يشعر، ويرضي ضميره بذلك، ولكنه لا يحصل على نتيجة سوى تحقير نفسه والحط من منزلته في أنظار الآخرين. إن مما يؤسف له أن هذه النماذج ليست مقتصرة على الأطفال بل توجد في الأشخاص الكبار أيضاً"12.
النفاق
جاء الاسلام بمبادئه القيمة، وتعاليمه القائمة على المنطق والإستدلال وأخذ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يؤثر بسلوكه الممتاز في الناس ويجلب قلوبهم نحو دين الله وهذا ما لا يروق للمعاندين، فأدى التقدم السريع للإسلام واعتناقه من قبل العرب وغيرهم إلى شعورهم بالحقارة والضعة. إنهم كانوا لا يرغبون في الخضوع للنبي والإنقياد لحكمه من جهة، ومن جهة أخرى فإنهم كانوا لا يستطيعون الإستمرار في الحياة في قبال قدرة المسلمين المتعاظمة... فاضطروا إلى اعتناق الإسلام في الظاهر، لكنهم كانوا في الباطن يضمرون أشدّ الحقد والعداء له:
لقد عبر القرآن الكريم عن هؤلاء بـ (المنافقين). إن النفاق بصورة عامة دليل على الضعف والحقارة الموجودة في باطن الشخص.
قال علي عليه السلام: "نفاق المرء من ذلّ يجده في نفسه"13.
إن المنافقين الذين كانوا يحترقون في نار الحقارة كان عليهم أن ينتقموا لتدارك الإنهيارات الباطنية. فعندما يئسوا من قتل النبي (ص) وتحطيم قوة المسلمين لجأوا إلى الوسائل الأخرى. إن الإستهزاء والسخرية والطعن والإهانة أحد وسائل الإنتقام. فأخذ المنافقون بالإستهزاء من المسلمين بصورة علنية كلما قدروا على ذلك. أما عندما كانوا لا يجرأون على الإستهزاء علناً فإنهم كانوا يجتمعون فيما بينهم ويحاولون تبرير مواقفهم بأنهم يسخرون من المسلمين... ﴿وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ﴾(البقرة:14).
تدارك الفشل
يحاول الطفل الذي وقع موقع السخرية والإهمال أن يتدارك الفشل الذي لاقاه، فيظهر شخصيته مستغلاً فرصة وجود الضيوف فيثأر لكرامته. عندما تكون الأم خائضة في حديث مع الضيوف دون اعتناء الى الطفل، فإنه يشاغب، يحطم الأبواب، يكسر النوافذ، يصيح ويبكي، يتكلم بعبارات تافهة لا معنى لها... كل ذلك لكي يحول دون سماع الضيوف لكلام أمه، ويقطع حديثهم. إنه يريد جلب إنتباه الآخرين إلى نفسه بهذه الأعمال، إنه مسرور لقدرته على كشف شخصيته، ويتلذذ كثيراً على نجاحه.
كذلك الكبار فإنهم يقدمون على هذه الأفعال الصبيانية في بعض الأحيان لغرض الإنتقام. كثيراً ما يصادف أن شاباً يتعلق قلبه بحب فتاة ويخطبها من أهلها، لكن الفتاة لا تراه كفواً لها لجهات عديدة فتحتقره بردّ خطبته. يفكر الشاب الفاشل في تدارك الحقارة، ويعمد الى الإنتقام والثأر لكرامته. قد يقوم بعضهم ليلة زفاف الفتاة بإحداث ضجيج وصخب، أو يحطم المصابيح ويكسر النوافذ، أو يقوم بأعمال تخريبية أخرى بغية تبرير فشله وإرضاء ضميره المندحر.
هذا السلوك يشابه تماماً سلوك الكفار المندحرين في صدر الإسلام، إذ قاموا بأعمال صبيانية تافهة بغية الإنتقام من الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله، ليتداركوا بذلك حقارتهم الباطنية، فكانوا يثيرون الشغب واللغط عند قراءة النبي القرآن.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾(فصلت:26) لقد كانت قراءه القرآن من أعظم الوسائل لنشر الدعوة الإسلامية. فعندما كان ينتشر اللحن البديع للنبي صلّى الله عليه وآله عند قراءة القرآن في الفضاء، كان الناس يستمعون بكل رغبة وشوق إلى ذلك الصوت العذب، وكانت تبهرهم ألفاظ ذلك الكتاب السماوي ومعانيه. أما الكفار الذين كانوا يتألمون من تقدم الإسلام وكان ذلك يبعث الحقارة والذلة في نفوسهم فإنهم كانوا يوصون أصحابهم باحداث اللغط والصخب عند قراءة النبي صلّى الله عليه وآله للقرآن، وكانوا يأمرونهم باللغو والشغب... حتى تختلط اصواتهم بصوت النبي فيستطيعوا بذلك الغلبة على دين الله.
النقد اللاذع
إن توجيه النقد اللاذع الى الآخرين وسيلة اخرى من الوسائل التي يستخدمها المندحرون والمصابون بعقدة الحقارة لغرض الإنتقام وتدارك الحقارة التي هم عليها:
ولنعترف سلفاً بأن النقد14 يعتبر من أفضل وأهم وسائل التكامل الفردي والإجتماعي. أذ لا شك في أن الأمة التي يستطيع الأفراد فيها توجيه النقد المفيد الى الآخرين وتذكيرهم بنواقصهم وعيوبهم، سالكة طريق التقدم والتكامل.
قال الإمام الصادق عليه السلام: "أحب إخواني إليّ من أهدى إليّ عيوبي"15.
وللإمام موسى بن جعفر عليه السلام حديث حول تقسيم ساعات الليل والنهار، يقول فيه: "وساعة لمعاشرة الإخوان والثقات الذين يعرفونكم عيوبكم ويخلصون لكم في الباطن"16.
يعتبر موضوع النقد من المسائل الإجتماعية المهمة التي لسنا بصددها الآن. إلا أننا نريد القول بأن الأفراد يتخذون من هذا العامل الكبير المؤدي الى السعادة، حربة للإنتقام وسلاحاً لحل عقدة الحقارة من ضمائرهم وهذا أمر شائع بين الأفراد، أطفالاً وشباباً، وشيوخاً...
لنتصور طفلاً ضعيفاً يلعب مع عدة أطفال أقوياء ونشيطين. إنه يفشل في اللعب بسبب ضعفه أو نقصه العضوي أو تكاسله، وبذلك يشعر بالحقارة في نفسه فينزوي عنهم ويترك اللعب. ولكن حين يسأله أبوه أو باقي أفراد الأسرة عن سبب تركه اللعب معهم فإنه يجيب بأنهم سيئوا الأخلاق... يتكلمون بكلمات بذيئة... يغمطون حقي... وبصورة موجزة فإنه ينتقدهم ويجبر بذلك فشله وانهياره.
كذلك التلميذ الذي لم يجهد نفسه في الدراسة، والذي يعجز على أثر ذلك من الإجابة على الأسئلة التحريرية أو الشفوية للمعلم، يحصل على درجة واطئة فيندحر أمام زملائه ويشعر بالحقارة والدونية، يأتي الى البيت باكياً ويقول لأمه: سوف لن أذهب الى هذه المدرسة. وعندما يُسأل عن السبب يقول: ان المعلم يصعّب علي كثيراً، ويتعمد إيذائي... له عداء شخصي معي. إن التلميذ يستر فشله بهذه الكلمات المشوبة بالنقد اللاذع الباطل.
شاب متفرغ من الدراسة الإعدادية يقدم على الجامعة، ويشترك في امتحان القبول ولكنه بالنظر الى انخفاض مستواه العلمي،يبدأ بالإنتقاد لتدارك الإنهيار النفسي. يقول: لا توجد مقاييس في بلادنا، إن التقدم منوط بالوسائط، والرشوة... الخ وأنا لا أملك صديقا ولا واسطة فمن البديهي أن أرسب. وبهذه الكلمات التافهة يخفي حقارته وينتقم من الأشخاص الذين تسببوا في منعه من الدخول في الجامعة.
كذلك ألرجل الكاسب الذي كان توقيعه معتبراً في البنوك، وكان يشتري البضائع والأجناس من المتاجر بأجل، عندما تضطرب أحواله المادية وتسقط كمبيالاته عن الاعتبار يمتنع التجار من بيعه البضاعة الى أجل. وهذا يؤدي الى تحطيم شخصيته، فيشعر بالحقارة ويحاول الإنتقام. فيبحث عن عيوب التاجر الذي سلب الثقة عنه. إنه يقول عنه: إنه متجاوز، إنه يأكل الربا أضعافاً مضاعفة، إن متجره مقر للمنحرفين والعاطلين وما شاكل ذلك من العبارات التي يحاول بها أن يتدارك الحقارة التي هو عليها.
الرقابة العامة
النهي عن المنكر من الفرائض الإسلامية المهمة،وهوعبارة عن رقابة عامة على جميع شؤون المجتمع ونقد بناء ونزيه يستطيع حفظ المجتمع من الإنهيار والسقوط. لكن من الشروط الأساسية للنهي عن المنكر: صفاء النفس والإستقامة عند الشخص الناهي.
لقد ورد بهذا المضمون عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "مَن لم ينسلخ من هواجسه ولم يتخلص من آفات نفسه وشهواتها، ولم يهزم الشيطان ولم يدخل كنف الله وتوحيده وأمان عصمته... لا يصلح له الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"17.
قد يتشبث بعض الأفراد الذين يظهر منهم الصلاح عندما يقعون في عقدة الحقارة بالنهي عن المنكر للإنتقام وتدارك الإنهيار الداخلي. إنهم يحاولون البحث عن عيوب الأشخاص الذين سببوا لهم هذا التحقير، فيذكرون ذنوبهم، وقد يوجهون اللوم والتقريع إليهم أمام ملأ من الناس، ظانين أنهم يطيعون الله بعباراتهم المسمومة التي تنبع من الحقارة التي يئنون من ويلاتها... غافلين عن أن أساس عملهم ذاك يستند الى الشعور بالحقارة، وأن النهي عن المنكر ليس إلا درعاً لإخفاء الرغبة في الانتقام وراءه.
يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "من أخطأ وجوه المطالب خذلته الحيلُ"18.
إن تطهير القلب من تلويث الذنوب وتنزيه الضمير الباطن من السيئات الخلقية والنوايا الفاسدة، وإتيان العمل بكل جد واخلاص لله تعالى إنما هو أعظم الذخائر للإنسان عندما يفد على خالقه... في حين أن الوصول إلى هذا الأمر المقدس أمر صعب.
قال علي عليه السلام: "تصفيةُ العمل أشد من العمل"19.
رجال لا يندحرون
إن الرجال العظماء ذوي الشخصية الرصينة لا يخسرون المعركة إذا وقعوا موقع السخرية والتحقير من قبل الآخرين، ولا يؤدي ذلك إلى شعورهم بالحقارة والضعة... إن قلوبهم كالمحيط العظيم الذي لا تستطيع الأوساخ والقذارات أن تؤثر فيه وتكدر صفو مائه. إنهم لا ينتقمون من المحتقرين لهم أبداً.
لقد كان أبو هريرة من المعارضين لحكومة الإمام علي عليه السلام. لقد كان في الأسابيع الأولى من خلافة الإمام يجلس على مقربة من أمير المؤمنين عليه السلام، ويتكلم بكلمات مشوبة بالتحقير في حديثه مع أصحابه. وكان يصر على أن يتكلم بصوت عالٍ جداً بحيث يسمع الإمام تلك الكلمات. لقد تألم أصحاب الإمام الذين شهدوا المنظر. وفي اليوم الثاني جاء أبو هريرة طالباً بعض الحوائج من الإمام أمير المؤمنين عليه السلام فلبى جميع حوائجه.
عند ذاك عاتبه أصحابه على ذلك. فقال:"إني لاستحيي أن يغلب جهلُه علمي، وذنبُه عفوي، ومسألته جودي"20.
إن علياً عليه السلام اعظم من أن يتغلب عليه أمثال أبي هريرة بالكلمات المشوبة بالسخرية والتحقير...
إنه يغض النظر عن زّلة أبي هريرة، ويقوم بقضاء حوائجه دون تردد. ولقد قال عليه السلام: "قلّة العفو أقبحُ العيوب. والتسرُع إلى الانتقام أعظم الذنوب"21.
إن أسوأ رد فعل يظهره الفاشلون والمصابون بعقدة الحقارة هو الرغبة في الإنتقام، إذ أن من الممكن أن يقوموا بذنوب عظيمة عن هذا الطريق نكتفي بما ذكرنا في توضيح هذا الموضوع، لننتقل في ختام المقال الى ردود الفعل الأخرى.
العجز حافز للتقدم
يعتبر الشعور بالعجز والحاجة عاملاً فاعلاً في الأمم النشيطة والواعية نحو التقدم والتكامل والإستمرار في النشاط. إذ لو لم ير الإنسان نفسه ضعيفاً أمام قوى الطبيعة لم يكن بمقدوره أن ينهض للكفاح ويتسبب في هذا التحول الهائل في حياة الإنسانية جمعاء !
إن عجز الإنسان تجاه الأمراض والآلام الشديدة هو الذي دفعه لاختراع علم الطب واكتشاف العقاقير المفيدة لأنواع الأمراض، وبالتدريج وصل هذا العلم الى الدرجة التي يحتلها من الأهمية. وكذلك عجزه أمام أمواج البحر العاتية هو الذي دعاه الى صنع البواخر الضخمة القاطعة للمحيطات. إن عجزه في قبال شدة البرد أو الحر هو الذي حفز فيه عوامل الإهتمام ببناء القصور الضخمة المجهزة بوسائل التبريد أو التدفئة المركزية. كذلك اختراعه القوة الكهربائية واستخدام ذلك في الإضاءة وسائر الأغراض وليد الحاجة الملحّة التي كان يحسّ بها عند فقدان النور ليلاً... وبصورة موجزة فإن شعور الإنسان بالضعف والعجز والحقارة والحاجة أدى إلى أعظم حركة، وسبب اكبر التحولات العلمية والصناعية في العالم.
التغافل عن النقص
هناك كثير من الأفراد الواعين يشعرون بالحقارة في أنفسهم بسبب العيوب والعاهات العضوية التي تميزهم عن غيرهم، لكن هذا الشعور لم يقدر على تحطيم شخصياتهم الحديدية، ومنعهم عن النشاط والعمل... فظلوا دائبين في سيرهم نحو الكمال حتى وردوا ما كانوا يقصدون إليه وتغافلوا عن النقص الذي هم فيه، وبذلك كشفوا عن جدارتهم وكفاءتهم لأنهم أصبحوا أعضاء نافعين في المجتمع.
يقول أمير المؤمنين: "عظّموا أقداركم بالتغافُل عن الدني من الأمور"22.
"إن النكتة الأخرى التي تعتبر مفيدة للجميع لمقاومة الشعور بالحقارة، وإحراز النجاح في الإتصال بالناس هي أن ننسى أنفسنا في احتكاكنا بالآخرين، وأن نتغافل عما يعتقده الآخرون فينا والزاوية التي ينظرون منها إلينا، فيجب أن لا نتوقع أن يجري الحديث عنا، وعن صفاتنا وأذواقنا. بل يجب علينا أن نتحدث عن الآخرين وعما يرغبون فيه".
"إذا تناسينا أنفسنا لحظة واحدة فقد استطعنا رفع حجاب معتم عن أعيننا، ونرى الحياة بعد ذلك مضيئة مشرقة، فنكتشف فضائل الآخرين ونبدأ بمدحهم عليها وتشجيعهم بالإستحسان والترغيب"23.
إذا أصيب شاب بشعور الحقارة لعدم استواء هندامه، فإن أفضل أسلوب لمقاومة ذلك أن يحاول الوالدان قدر المستطاع صرفه عن التفكير في ذلك النقص، وحثّه على القيام بالأعمال المفيدة، وحمايته بالتشجيع والتقدير. وبهذه الطريقة يمكن احتمال النجاح في هذه المهمة الى درجة كبيرة.
الإنزواء عن المجتمع
إن بعض الأفراد الذين يقعون في هوة الشعور بالحقارة ويتجرعون المآسي والويلات من ذلك بإستمرار، يخسرون أنفسهم ويفقدون شخصيتهم فيفرّون من المجتمع كيلا يقعوا موقع السخرية والاستهزاء... يختارون الإنزواء، ويتهربون من عبء المسؤوليات الإجتماعية، وبهذا الأسلوب يتداركون فشلهم الروحي، ويقللون من الضغط الداخلي.
"إذا أصيب شخص على أثر زّلة أو خاطرة مؤلمة بحالة مرعبة فإن نبذه حياته يمكن أن تلخص في أفكاره السلبية. وبعبارة أخرى فإن هذا بدلا من أن يتقدم نحو الكمال والإعتماد على النفس بواسطة الثبات والعزم يحاول الرجوع الى دور الفراغ والإهمال الطفولي. هذا الأسلوب يسمى في إصطلاح علماء النفس بالسير القهقرائي. لقد كان هذا الفرد في طفولته فاقداًَ لكل اختيار في القيام بأعماله، وفارغاً من كل مسؤولية تلقى على عاتقه ولذلك فإنه كان يعيش بفكر هادىء، والآن حيث أصيب بالخوف والشعور بالضعة والدونية فإنه يرغب في الرجوع الى حالته الأولى".
"هذا بعينه هو التفسير المعقول للسلوك الطفولي عند كثير من الكبار، وهو السبب في عدم بلوغ الجيل الجديد. إن فرداً كهذا لا يرغب في الرجوع الى دور الطفولة فحسب، بل يبقى قلقاً وحائراً في مواجهة صعوبات الحياة ومشاكلها"24.
الطفيليون
إن الأفراد الذين يظهر ردّ الفعل لعقدة الحقارة عندهم في الإنزواء الهروب من المجتمع، يكونون تعساء وتافهين في الغالب... إنهم طفيليون يعتمدون على غيرهم في تسيير شؤونهم المادية. في حين أن الإسلام ينقم أشد النقمة على هذه الطبقة.
ففي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: ملعون معلون من ألقى كله على الناس"25.
"يرغب كل فرد في الإتصال بالآخرين، ويأمل في أن يكون محبوباً وناجحاً في المجتمع. أما عندما لا يتحقق هذا الأمل فإن الفرار من الناس يبدو أسهل من التوافق مع الناس، في حين أن الحقيقة غير هذا. لأن الفرار من الناس والعجز عن الإنسجام معهم يهدىء الألم الموقت، ولكنه لا يلبي الحاجة الغريزية والرغبة الفطرية المستقرة في أعماقنا"26.
ألم الإنزواء
قد يكون الألم الروحي الناشيء من الإنزواء والحرمان من معاشرة الناس أشد بكثير من ألم الشعور بالحقارة. لأن الشخص الذي ينزوي عن الآخرين لجهله وضعف نفسه يتصور أنه سيصون بذلك نفسه من التحقير، في حين أنه وقع في سجن أضيق من سجن التحقير والسخرية.
قال الإمام الصادق عليه السلام: "الرجل يجزع من الذلّ الصغير فيدخله ذلك في الذّل الكبير"27 أي أن شدة جزعه تنقلب ذلا كبيراً.
من ردود الفعل السيئة لعقدة الحقارة عند الأشخاص حب الإنزواء عن المجتمع، إنهم يحرمون بهذا السلوك الأهوج من النشاطات المثمرة، ويجعلون أنفسهم طفيليين في المجتمع.
ليس الهروب من الناس بسبب خوف التحقير والسخرية مختصاً بالكبار. إن الأطفال المصابين بالشعور بالحقارة قد يفضلون الإنزواء نتيجة الخوف من التحقير والسخرية. حينئذ يجب على الآباء والأمهات بذل مزيد من العناية لهؤلاء الأطفال والعمل على مقاومة الضعف الروحي الذي هم عليه. لأن الطفل في البداية يشعر بالحقارة من جانب واحد ولكي لا يحتقر من ذلك الجانب يفضل الإنزواء. ولكن هذه الحالة النفسية تترك أثرها الفعال في سائر شؤون الطفل، وينشأ على حب الإنزواء ويفرّ من الاختلاط بالناس... وهذا بنفسه يتضمن نتائج وخيمة في مستقبله.
يقول شاختر: "ولد من أقاربي كان يفضل الإنزواء دائماً... كان يمشي وحده في فرص المدرسة، ويجول في غيوم الخيال وسمائه. كان يبادر بالذهاب إلى البيت فور خروجه من المدرسة، وكان يفر من اللعب مع زملائه... لم يشترك في أية جميعة خيرية، ولم يكن يدعو أحداً الى داره كما كان لا يذهب ضيفاً لأحد. كان يقول: أحب مكتبتي وغرفة عملي أكثر من أي شخص آخر. ولكن الحقيقة هي أن ذلك الشاب لم يكن ذا مزاج سليم، ولكي يستر ضعفه ولا يقع موقع السخرية والتحقير كان يحذر من اللعب... وبالتدريج فإن هذه العادة جعلت منه إنساناً منزوياً في جميع المناسبات الأخرى".
إشاعة عيوب الناس
المظهر الآخر من ردود الفعل لعقدة الحقارة، الرغبة في نشر عيوب الآخرين وإشاعتها. إن الأشخاص الذين يشعرون بالضعف والحقارة من جانب ويتألمون في باطنهم من هذا الشعور، يبحثون عن عيوب الآخرين دائماً ويتحدثون عن نقائص غيرهم، وإذا ذكر تلك العيوب غيرهم فإنهم يفرحون لذلك كثيراً.
قال علي عليه السلام: "ذوُوا العيوب يحبون إشاعة معايب الناس، ليتسعَ لهم العذرُ في معايبهم"28.
إن الطالب الذي رسب في الإمتحان على أثر التكاسل والتماهل في الدراسة لا يرضى بذكر أسماء الناجحين، ومدحهم على نشاطهم العلمي. إنه يسعى للحصول على أسماء الراسبين، ويحاول الإكثار من الحديث عنهم. حتى يخفف من شدة الشعور بالحقارة من جانب، ويقلّل من سيل اللوم والعقاب المتوجه نحوه من والديه وأقاربه من جانب آخر.
كذلك التاجر الذي أصيب بعجز مالي، ولم يستطع الوفاء بالتزاماته يشعر بالحقارة. ولكي يقلل من تألمه الروحي الى درجة ما، يعمد الى إبعاد التهمة عن مجالها الضيق فيشرك أسماء التجار الآخرين الذين هم على شرف الإنهيار أيضاً، ويرغب في أنتشار أخبارهم حتى لا ينحصر سيل النقد والعتاب عليه وحده.
تخدير الأحاسيس
هناك مظهر آخر لردّ الفعل تجاه عقدة الحقارة، هو إقدام البعض على الخمرة والمواد المخدرة. ومن المؤسف أن كثيراً من سكان العالم مصابون بهذا الداء الوبيل.
إن الشخص الذي يشكو من أحد أعضائه ويتألم لذلك كثيراً، يمكن إنقاذه من ذلك باحد طريقين: علاج المرض، وتهدئة الألم بواسطة العقاقير المسكنة والمخدرة. إن المريض يرتاح في كلتا الصورتين مع فارق كبير هو أنه في الصورة الأولى يكون قد تخلص من المرض تماماً، أما في الصورة الثانية فإن المرض لا يزال على حاله، غاية ما هناك أن المريض لا يشعر به.
وعقدة الحقارة مرض روحي يؤلم صاحبه ويقض عليه مضجعه. وبالإمكان إنقاذ المصاب بذلك بأحد طريقين:
أحدهما حل العقدة النفسية.
والثانية تخدير الأحاسيس.
إن المصاب بعقدة الحقارة يتخلص من الإضطراب والألم في كلتا الصورتين، مع فارق عظيم هو أنه في الصورة الأولى يكون قد تخلص من هذه العقدة تماماً، بينما لا تزال العقدة موجودة في الصورة الثانية لكن المصاب لا يشعر بها.
قد يلجأ العاجزون عن علاج عقدهم النفسية الى الخمرة والمواد المخدرة الأخرى لكي يستريحوا من عناء الألم لبضع ساعات ويتخلصوا من وطأة الإضطراب والقلق... ولكن ما ان يزول أثر السكر يعود الألم والشعور بالحقارة الى صاحبه، مخيماً، ومضيقاً الخناق عليه.
"لما كان كل ألم معلولا لإدراك معين فيجب العمل على إزالة العلل الروحية والجسمية التي توجب ذلك الإدراك أو إضعافها. ولذلك فإن أولى الوسائل التي تستخدم في هذا السبيل عبارة عن المواد الكحولية والعقاقير المخدرة".
"يجب أن نعلم بأن الإستمرار في تناول المخدرات يقلل من تأثيرها بالتدريج، بحيث لا تنتج الحساسية المطلوبة بعد ذلك، بل قد تؤدي هي الى الآلام والاضطرابات المختلفة"29.
"عندما نتعمق في هذه القضايا من وجهة نظر علم النفس نجد أن هؤلاء الأفراد فاقدون للإعتماد على النفس. ومن البديهي أن الشخص الذي عرف نفسه واطلع على الاستعدادات الباطنية المودعة عنده لا يرضى بأن يكون في عداد هؤلاء. إن هؤلاء التعساء اصطدموا بموانع في حياتهم الإجتماعية وأصيبوا باليأس. وبدلا من أن يلتمسوا الطريق الصحيح في حل المشاكل ومقاومتها نجدهم يلجأون الى المواد الكحولية والمخدرة، والقمار ونحو ذلك... وهم يريدون أن ينسوا عقدهم الروحية وبعبارة أخرى فإن هؤلاء غير مستعدين للكفاح في ساحة الحياة فيفرون بكل جبن"30.
وهكذا نجد أن الإنتقام، والنقد اللاذع، والإنزواء، والبحث عن عيوب الآخرين لاشاعتها، وتناول الخمر... والأعمال المشابهة لذلك، ردود فعل يظهرها المصابون بعقدة الحقارة بغية تدارك ما هم عليه من النقص والضعة وإقناع أنفسهم بتبرير فشلهم. ولكن شيئاً من ذلك لا يحل العقدة النفسية، ولا يعالج الداء علاجاً قطعياً، مضافاً إلى أنه يتضمن أضراراً مادية ومعنوية للإنسان.
أفضل طرق المقاومة
إن أفضل الطرق لمعالجة الشعور بالحقارة أن لا يندحر الإنسان أمامه ولا يخسر شخصيته، بل يحاول التغافل عنه قدر الإمكان وأن يفكر بهدوء ويجدّ لتنمية مواهبه واستغلالها حتى يبرز في جانب معين مفيد للمجتمع، ويعيش حياة ملؤها العز والفخار.
هناك أفراد ذوو عاهات عضوية كثيرون، تناسوا النقص الذي فيهم وعملوا في سبيل تحقيق غاياتهم بكل جد وإخلاص، وذلك في ظل العلم والثقافة، والجهد والنشاط وتوصلوا الى منازل رفيعة ودرجات سامية.
قال علي عليه السلام: "بالتّعب الشديد تدرك الدرجات الرفيعة والراحة الدائمة"31.
*الطفل بين الوراثة والتربية، محمد تقي فلسفي، الأعلمي ط3، 2002م، ج2، ص292-316.
1- چه ميدانيم ؟ تربيت اطفال دشوار ص22.
2- عقده حقارت ص 7.
3- عقده حقارت ص 31.
4- رشد شخصيت ص 81.
5- عقده حقارت ص 16.
6- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 780.
7- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ح2-643.
8- وسائل الشيعة للحر العاملي ج5-132.
9- مكارم الاخلاق للطبرسي ص 114.
10- وسائل الشيعة للحر العاملي ج5-132.
11- ما وفرزندان ما ص 72.
12- رشد شخصيت ص 97.
13- غرر الحكم ودرر الكلم للأمدي ص 777.
14- لا بد من الأشارة هنا الى أن النقد نوعان: بناء وهدّام
أ- النقد البنّاء: هو الذي يهدف الى تدارك النواقص الموجودة في سلوك الآخرين، حتى تتآزر القوى الإجتماعية في بناء الشخصيات المتكاملة. وهذا هو الممدوح، والمقصود من أنه أحد وسائل التكامل الفردي والإجتماعي.
ب- النقد الهدام: وهو الذي يهدف الى تتبع نقائص الآخرين لغرض السخرية منهم، أو التندر بأفعالهم. وهذا مذموم بلا شك وهو المقصود بكونه أحد وسائل الإنتقام لتدارك الحقارة.
15- تحف العقول عن ال الرسول ص 409.
16- تحف العقول عن آل الرسول ص 366.
17- المحجة البيضاء في إحياء الاحياء للفيض الكاشاني ج4-109.
18- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج17-138.
19- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 347.
20- بحار الأنوار للعلامة المجلسي 9-519.
21- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 537.
22- تحف العقول عن آل الرسول ص 224.
23- رشد شخصيت ص 120.
24- عقدة حقارت ص 6.
25- وسائل الشيعة للحر العاملي ج5-133.
26- رشد شخصيت ص 115.
27- تحف العقول عن آل الرسول ص 366.
28- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 407.
29- انديشه هاي فرويد ص 108.
30- عقده حقارت ص 33.
31- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 338.