الهجرة إلى الحبشة
شهادة جعفر الطيار(ع)
لما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما حل بأصحابه من جهد وعذاب قال لهم: ارحلوا مهاجرين إلى أرض الحبشة إلى النجاشي فإنه يحسن الجوار، فخرج في المرة الأولى أحد عشر رجلاً وأربع نسوة،
عدد الزوار: 325
لما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما حل بأصحابه من جهد وعذاب قال لهم:
ارحلوا مهاجرين إلى أرض الحبشة إلى النجاشي فإنه يحسن الجوار، فخرج في المرة الأولى
أحد عشر رجلاً وأربع نسوة، خرجوا متسللين سراً، منهم من هاجر بأهله ومنهم من هاجر
بنفسه وساروا حتى وصلوا إلى الشعيبة وهي مرفأ مكة ومرسى سفنها قبل جدة، وكان ذلك في
شهر رجب من السنة الخامسة للبعثة وكان من محاسن الصدف أن وجد هؤلاء المهاجرون
سفينتين للتجار فحملوهم فيها إلى الحبشة.
وبلغ الخبر قريشاً فخرجوا يجدّون في طلبهم ليحولوا بينهم وبين الهجرة ولكن وصلوا
متأخرين فلم يدركوهم وعلى كل الأحوال فقد نجا المهاجرون ولم يستطع المشركون ردهم
ويقال أنهم أقاموا في الحبشة ثلاثة أشهر حيث كانوا يعبدون الله باطمئنان وأقاموا
معالم دينهم دون أن ينالهم أذىً أو مكروه ثم أنهم بعد ذلك رجعوا إلى مكة حيث بلغهم
أن قريشاً دانوا بالإسلام واتبعوا محمداً، وفعلاً رجعوا، لكن ما كادوا يصلون إلى
مشارف مكة وسمع المشركون بوصولهم حتى استقبلوهم شر استقبال ولم يتمكن أي واحد منهم
من دخول مكة إلا إذا احتمى بجوار واحد من زعماء قريش. وحينها بدأت قريش تسلط ألوان
العذاب على هؤلاء العائدين من الحبشة.
إلى الحبشة.. ثانيةً
لما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما حل بأصحابه من جهد وبلاء أمر المستضعفين
منهم بالهجرة بدينهم إلى الحبشة مرة أخرى وكان اختيار الحبشة داراً لهجرة المسلمين
خطوة موفقة من خطوات الرسول. ولم يكن انتداب جعفر بن أبي طالب لهذه المهمة العظيمة
أمراً اعتباطياً ولعل ما روي من إسلام النجاشي وغيره من الأحباش على يد جعفر مما
يؤكد هذا الأمر. وهذه الهجرة الثانية لم تكن كسابقتها حيث ازداد عدد المهاجرين
بنسبة ازدياد المسلمين أولاً وشدة إيذاء قريش لهم ثانية حتى بلغ عدد المهاجرين هذه
المرة ثلاثة وثمانين رجلاً وثماني عشرة امرأة وأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
أن يكون جعفر بن أبي طالب أميرهم ورئيسهم. ينظم أحوالهم ويشرف على شؤونهم علماً أنه
كان أصغر الرجال المهاجرين سناً ولكن الرسول اختاره لأنه كان أرجحهم عقلاً وأوسعهم
إحاطة بأحكام الإسلام ومبادئه كما كان أعظمهم شجاعة وكانت معه زوجته أسماء بنت
عُميس وحين أزمع جعفر على الرحيل مع المهاجرين خرج النبي لتوديعه ودعا له بهذه
الكلمات:
(اللهم الطف به في تيسير كل عسير فإن تيسير العسير عليك سهل يسير، أسألك
المعافاة في الدنيا والآخرة)، وعندما رأت قريش أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم قد أمنوا واطمأنوا بأرض الحبشة قرر زعماؤهم أن يبعثوا في طلبهم رجلين
قديرين إلى النجاشي لكي يردوا المهاجرين فمارسوا معهم من جديد الفتنة والاضطهاد
واتجه الوفدان عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة إلى الحبشة وهما يحملان
الهدايا للنجاشي ولبطارقته وحين رأى أبو طالب ذلك بعث للنجاشي أبياتا يحضُهُ فيها
على حسن جوارهم والدفع عنهم قائلاً له:
ألا ليت شعري كيف في النأي جعفر***وعـــــمرو وأعــداء
العدو الأقارب
فهل نالــــــت أفعال النجاشي جعفرَ ***لأصحابه أو عـــــــاق ذلك شــاغب
تعلم أبيت اللـــــعن أنـــــــك مـــاجد***كريم فلا يشــــــقى لديـــك المجانب
تعلمّ بــــــــأن الله زادك بســــــــطةً***وأســـــــباب خـــــير كلها بك لازبُ
وإنك فيــضٌ ذو ســـــــجال غزيرةٍ***ينال الأعـــادي نفـــــــعها والأقاربُ
وحط عمرو بن العاص وصاحبه رحالهما بالحبشة وقابلا الزعماء من القساوسة والبطارقة
ونثرا بين أيديهم الهدايا التي حملاها إليهم. ثم أرسلا للنجاشي هداياه ومضيا يوغران
صدور القسس والأساقفة ضد المسلمين المهاجرين ويستنجدان بهم لحمل النجاشي على
إخراجهم من بلاده وكان عمرو بن العاص قد أقنع البطارقة - وهم قواد الجيش - بأن هذا
الدين الجديد سيقضي على نصرانيتهم إذا ما سمحوا له بالانتشار واتفق معهم على أن
يقنعوا الملك بتسليم هؤلاء المهاجرين إلى قومهم ولا يكلمهم فإن قومهم أعلم بهم
وأعلم بما عابوا عليهم.
وتحدد يوم اللقاء مع النجاشي وفي مجلسه الذي يسوده الهدوء والوقار. جلس النجاشي على
كرسيه العالي تحف به الأساقفة ورجال الحاشية وجلس أمامه المسلمون المهاجرون تزدانهم
السكينة ويطمئنهم الإيمان بوعده تعالى. وعندها اتجه عمرو ورفيقه إلى النجاشي وعرضا
عليه طلبهما بتسليمهما المهاجرين. وقال البطارقة من حوله صدقا أيها الملك، قومهم
أعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما.
غضب النجاشي وقال: لا والله إذن لا أسلمهم إليهما ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا
بلادي واختاروني على من سواي حتى أوعدهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم فإن كانوا
كما يقولون أسلمهم إليهما، وإن كانوا غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما
جاوروني.
وما لبث النجاشي أن سأل المهاجرين عن طبيعة الدين الذي دفعهم إلى مفارقة قومهم،
فتقدم جعفر بن أبي طالب ليؤدي المهمة التي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قد اختاره لها وبكل هدوء ورباطة جأش، قال: (أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية نعبد
الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا
الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه
فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة
والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن
المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات.
وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام،
فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا
عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، فلما قهرونا وظلمونا
وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك
ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.
فطلب منه النجاشي أن يقرأ عليه شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن
الله تعالى، فقال له: (هل معك مما أنزل على رسولكم شيء)، قال جعفر: نعم، قال أي شيء:
فاقرأه عليّ، انبرى جعفر يتلو عليه آيات من سورة مريم بكل خشوع فبكى النجاشي حتى
اخضلت لحيته وبكت أساقفته حتى اخضلت مصاحفهم، ثم أخذ يكفكف دموعه ويقول لمبعوثي
قريش: إن هذا والذي جاء به عيسى (عليه السلام) ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا فلا
والله لا أسلمهم إليكما.
لكن عمرو بن العاص لم ييأس وعاد إلى
النجاشي ليجرب حظه مرة أخرى، قائلاً له: إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً
فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه فاستدعاهم وسألهم، فأجابه جعفر: نقول فيه الذي
جاء به نبينا صلى الله عليه وآله وسلم هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى
مريم العذراء البتول، فتناول النجاشي عوداً، وقال: والله ما عدا عيسى ابن مريم مما
قلت هذا العود، ثم التفت صوب حاشيته وقال وسبابته تشير إلى مبعوثي قريش: ردوا
عليهما هداياهما فلا حاجة لنا بها. فغادر عمر ورفيقه أرض الحبشة عائدين إلى مكة.
وخرج المسلمون بزعامة جعفر ليستأنفوا حياتهم الآمنة في الحبشة لابثين فيها حتى يأذن
الله لهم بالعودة إلى رسولهم وإخوانهم وديارهم.
النجاشي يُسلم..
أثر محاولة قريش الفاشلة لاسترجاع المهاجرين تعززت مكانة المسلمين المهاجرين
ولاسيما جعفر (رضي الله عنه) عند النجاشي، حيث تجلت شخصيته الرصينة ومنطقه الفياض
وحسن أدبه وأخلاقه، أخذ النجاشي يلتقي جعفرَ بين الحين والآخر فتتجلى له في كل يوم
ملكاته وخصائصه العالية أكثر فأكثر، فرأى النجاشي فيه صورة مثلى متجسدة للدين
الإسلامي، ولا عجب في هذا فشهادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم صريحة بحقه لما قال
له: (يا جعفر أشبهت خَلْقي وخُلُقي).
استطاع جعفر بما أوتي من منطق رصين ورجاحة عقل أن يجذب النجاشي إلى الإسلام، وما هي
إلا فترة يسيرة حتى أسلم النجاشي ولكنه كتم إسلامه لئلا يبطش به قومه ويثورون عليه.
ومرت سنين على جعفر (رضي الله عنه) وأصحابه في الحبشة وكانت الأخبار تترى عليهم
بانتشار الإسلام وتوطيد أركانه بعد أن تجاوز مرحلة الخطر وأصبح له كيان في المدينة
وكانوا يتابعون أنباء الانتصارات واحدة تلو الأخرى وقد امتلأت نفس جعفر روعة بما
سمع من أبناء إخوانه المؤمنين الذين خاضوا تلك المعارك المظفرة وكان يتلهف شوقاً
إلى إخوانه الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وكان ينتظر الشهادة ليلتحق بذلك الركب
المبارك وفعلاً أقبل من الحبشة سنة 7هـ بالوقت الذي كان الرسول صلى الله عليه وآله
وسلم يعيش فرحة الانتصارات على أعداء الله بعد أن فتح الله عليه خيبر.
ولما رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم استبشر بقدومه وضمه إليه وقبّل ما بين
عينيه، وقال: (ما أدري بأيهما أسر بقدوم جعفر أم بفتح خيبر).
* كتاب جعفر الطيار وشهداء مؤتة.
2013-04-10