الإمام الباقر عليه السلام في كلام الولي دام ظله
الإمام محمد الباقر (عليه السلام)
إنّ مرحلة حياة الإمام الخامس، الإمام الباقر عليه السلام ، هي استمرارٌ منطقيّ لحياة الإمام السجّاد عليه السلام . فها هم الشيعة مرّة أخرى يصبحون جماعةً ويشعرون بوجودهم وشخصيّتهم.
عدد الزوار: 306مرحلة البناء الفكري والتنظيمي-المواجهة الفكرية والثقافية
إنّ مرحلة حياة الإمام الخامس، الإمام الباقر عليه السلام ، هي استمرارٌ منطقيّ لحياة الإمام السجّاد عليه السلام . فها هم الشيعة مرّة أخرى يصبحون جماعةً ويشعرون بوجودهم وشخصيّتهم. إنّ الدعوة الشيعيّة الّتي توقّفت لعدّة سنوات على أثر حادثة كربلاء والأحداث الدموية الّتي تلتها - كواقعة الحرّة وثورة التوّابين - وبسبب بطش الأمويين، لم تكن تظهر نفسها إلا تحت الأستار السميكة، ها هي اليوم في العديد من الأقطار الإسلاميّة، خاصّة في العراق والحجاز وخراسان، تتجذّر وتستقطب شرائح كبيرة وحتّى أنّها في الدوائر المحدودة أضحت رابطةً فكرية وعملية يمكن التعبير عنها بالتشكيلات الحزبية. وولّت تلك الأيّام الّتي قال الإمام السجّاد عليه السلام عنها إنّ أتباعه ما كانوا يزيدون فيها على عشرين شخصاً في كلّ الحجاز1. وأضحى الإمام الباقر عليه السلام يدخل مسجد النبيّ في المدينة فيلتفّ حوله جمعٌ غفير من أهل خراسان وغيرها من أصقاع العالم الإسلامي، يسألونه عن القضايا الفقهيّة، ويفد عليه أمثال طاووس اليمانيّ، وقتادة بن دعامة، وأبو حنيفة، وآخرون من المشهورين بالمعارف الدينية. وبالطبع، ممّن يُعتبرون خارج التوجّه الإماميّ والشيعيّ. وقد سمعوا صدى علم الإمام الذائع وأقبلوا عليه للتعلّم أو للاحتجاج والمجادلة.
وبرز
شاعرٌ كالكُميت الأسدي
بذلك اللسان الفصيح
والفنّ العابق،ليترك أهم
آثاره الفنّية وهي
القصائد الّتي عُرفت
بالهاشميّات وأضحت تنتقل
من يدٍ إلى يد ومن لسانٍ
إلى لسان، لتعرّف الناس
على حقّ آل محمّد وفضل
علمهم ومقاماتهم
المعنوية. من جهةٍ أخرى،
فإنّ خلفاء بني مروان
أحسّوا خلال هذه الفترة
بنوعٍ من الطمأنينة،
وشعروا بالاستقرار بعد أن
استطاع عبد الملك بن
مروان - توفّي سنة 86 هـ
- خلال فترة حكمه الّتي
استمرّت عشرين عاماً أن
يقمع كلّ المعارضين. وقد
يعود شعور الخلفاء
المروانيّين في هذا العصر
بالأمن والاطمئنان إلى
أنّ الخلافة وصلتهم غنيمة
باردة، لا كأسلافهم
الّذين كدحوا من أجلها
مما أدّى إلى انشغالهم
باللهو والملذّات الّتي
تصاحب الشعور بالاقتدار
والجاه والجلال. مهما يكن
الأمر، فإنّ حساسيّة
خلفاء بني مروان تجاه
مدرسة أهل البيت قد قلّت
في هذا العصر، وأصبح
الإمام عليه السلام
وأتباعه في مأمن تقريباً
من مطاردة الجهاز
الحاكم.(قيادة الإمام
الصادق عليه السلام
،32-33)
كان من الطبيعي أن يقطع
الإمام عليه السلام خطوة
رحبة في ظلّ هذه الظروف
على تحقيق أهداف مدرسة
أهل البيت، ويدفع
بالتشيّع نحو مرحلةٍ
جديدة. وهذا ما يميّز
حياة الإمام الباقر عليه
السلام .
لقد قيل الكثير بشأن
الإمام الباقر عليه
الصلاة والسلام، غاية
الأمر أنّني سأكتفي
بنقطتين من حياته.
إحداهما، عبارة عن
مواجهته لتحريف المعارف
الإسلاميّة والأحكام؛ هذا
الشيء الّذي حدث في عصر
الإمام الباقر عليه
السلام بصورةٍ أوسع وأكثر
تفصيلاً من أيّ زمانٍ
آخر، فماذا تعني مواجهة
التحريف؟ المقصود من
مواجهة التحريف هو أنّ
دين الإسلام المقدّس
بالمعارف والأحكام
الموجودة فيه، وبآيات
القرآن الّتي حدّدت
للمجتمع الإسلامي خصائص
وشروط، بل لكلّ عالم
الإنسان وحياة البشر، لو
عرفها الناس وتمسّكوا بها
لما أمكن تحمّل بعض
الأشياء الموجودة في
المجتمع الّذي يُدعى
إسلامياً، كحكومة
الظالمين مثلاً، أو حكومة
الفسّاق والفجّار،أو
حكومة الجاهلين بالدين،
فكلّ ذلك لا يمكن تحمّله.
التمييز والتقسيم غير
العادل للثروة في المجتمع
لا يكون بالإمكان تحمّله،
والكثير من هذا الفساد
الّذي كان في المجتمعات
الإسلامية، فمثل هذه
الأمور لا يمكن أن تنسجم
مع الأحكام الإسلامية
والنظام الإسلامي.
بعض السلاطين والحكّام
الّذين أمسكوا بزمام
السلطة تحت عنوان خلافة
النبيّ - كبني أميّة وآل
مروان - هؤلاء لم يكونوا
لائقين بأيّ شكل لحكومة
المجتمع الإسلامي، وفي
زمن حكومتهم أوجدوا كلّ
أنواع الفسق والظلم
والفساد والتمييز والجهل،
وباختصار الانحرافات
المختلفة. لو كان من
المقرّر تبيان الأحكام
الإسلامية والآيات
القرآنية كما هي للناس،
لما كان ممكناً لهؤلاء أن
يستمرّوا في الحكم
والإمساك بالسلطة، لهذا
قاموا بعملية التحريف،
وقد فعلوا ذلك من عدّة
طرق. أحدها هو أن يخدعوا
بعض الفقهاء والحكماء
والمحدّثين والقرّاء
والوجهاء وأمثالهم
ويجعلونهم إلى جانبهم،
يعطونهم المال أو
يخوّفونهم. فحملوا البعض
طمعاً أو خوفاً لترويج ما
يحلو لهم بين الناس.
لهذا، لو نظرتم إلى تاريخ
القرنين الأوّلين
للإسلام، لرأيتم مشهداً
عجيباً، لرأيتم من
الشخصيات المعروفة
بالقداسة والتقوى والعلم
الكثير، ممّن صاروا في
خدمة الحكّام وأمراء
الجور، ممّن كانوا يفتون
الناس بأحكام عجيبة
وغريبة تحت عنوان
الإسلام. انظروا الآن من
باب النموذج، أيّ حكمٍ
هذا الّذي ينطق به عالمٌ
بهذا الشكل، حيث يعتبر
أنّ أولي الأمر، الّذين
أمرنا الله تعالى والقرآن
بطاعتهم، هم أيّ شخص
يتسلط على الناس بأية
وسيلة، حتّى ولو كان ذلك
بالمكر والحيلة والسيف
والقهر والقتل، فإنّه
يستطيع أن يحكم الناس،
فسّروا "أولي الأمر" بهذا
التفسير.
إنّ هذا الفهم بعيدٌ عن
العقل، وغير صحيحٌ، بحيث
لو لم يتم ربطه بالإسلام
وبأصلٍ اعتقاديّ وإيمانيّ
عند الناس لما قبِل به
أحد. لكنّ هؤلاء جاؤوا
وربطوهبالإسلام وذكروا
الكثير من هذه الأمور،
نجد منها الكثير في تاريخ
القرنين الأوّلين
للإسلام. ولقد كان هؤلاء
الحكّام يصحبون هذه
الشخصيات اللامعة أينما
ذهبوا في مكّة والمدينة
ويعرضونهم على الناس في
الاجتماعات العامّة
ويجعلونهم وسيلة لتأييدهم
... لقد كان هذا من طرق
تحريف الدين؛ كان أمثال
هؤلاء المتظاهرين بالعلم
والفقاهة والقداسة والزهد
في خدمة الحكّام الّذين
كانوا يقدّمون كلّ ما
يحلو لهم أن يعتقد به
الناس تحت عنوان الدين.
وبعض هذه الأمور ما زالت
موجودة في الكتب اليوم،
وللأسف إنّ الكثير من
المسلمين ما زالوا
يعتقدون بهذه الأشياء.
كان هذا أحد طرق التحريف،
حيث إنّ الحكّام عندما
كانوا يمسكون بزمام
السلطة ويجلسون على أريكة
القدرة، ويشعرون أنّ كلّ
ما يقولونه يجب على الناس
أن يقبلوا به. فأيّة
كلمةٍ أو فكرةٍ أو مبنىً
يعرضونه تحت عنوان
الإسلام ويحوّلوه إلى
ثقافةٍ رائجةٍ وينشرونه
على مستوى العالم
الإسلامي، ليُنشر ويتكرّر
ويُنقل من لسانٍ إلى لسان
حتّى يشكّل الذهنية
العامّة. مثلما أنّ بعض
زعماء جهاز عبد الملك،
كالحجّاج وأمثاله كانوا
يعتقدون، أو هكذا يظهرون،
أنّ الخلافة أفضل من
النبوّة، فهؤلاء ما كانوا
مقتنعين بأنّ عبد الملك
بن مروان وأولاده وأولئك
الفسقة والفجرة أن يكونوا
تحت عنوان خلافة النبيّ
حيث كانت هذه العمامة
أوسع بكثير من رؤوسهم،
وذاك اللباس لم يكن
ملائماً لقامتهم، وأن
يكونوا غاصبين لهذا
العنوان، لكنّهم لم
يكتفوا بذلك بل أرادوا أن
يدّعوا أنّ الخلافة أفضل
من النبوّة... لقد وقعت
تلك التحريفات في الدين،
وقد كان العامل الأساسيّ
لاستمرار سلطة بين أميّة
وبني العبّاس والمانع
الأساسيّ لحكومة الإسلام
الحقّة هو تلك الثقافة
الخاطئة الّتي سيطرت على
أذهان الناس.
ها هنا يريد الأئمّة
عليهم السلام أن يقيموا
الحكومة الإسلامية
الصحيحة، يريدون أن يأتوا
بالنظام العلويّ، فماذا
يفعلون؟ إنّ أوّل خطوة هي
تبديل الذهنيّةالعامّة،
فعليهم أن يبدّلوا تلك
الثقافة، الّتي يُصطلح
عليها بأنّها إسلامية ضدّ
الإسلام والّتي كانت قد
رسخت في أذهان الناس، إلى
ثقافةٍ صحيحةٍ وإلى
القرآن الحقيقي والتوحيد
الواقعي، وهذه هي
المواجهة الثقافية.
فالمواجهة الثقافية لا
تعني فقط الجلوس وبيان
بعض الأشياء من أحكام
الإسلام، من دون توجّهٍ
ومن دون مسارٍ ثوريّ
وجهاديّ، فهذه ليست
مواجهة؛ بل المواجهة
الثقافية تعني السعي
لتبديل الذهنية العامّة
والثقافة الحاكمة على
عقول الناس، لكي يتمّ
تعبيد الطريق باتّجاه
الحكومة الإلهية، وسدّ
السبيل على حكومة الطاغوت
والشيطان. وقد بدأ الإمام
الباقر عليه السلام هذا
العمل. هذا هو باقر علم
الأوّلين، فهو باقر وفاتح
الحقائق القرآنية، فهو من
يبقر ويشقّ طرائق الحقائق
القرآنية والعلوم
الإسلامية. وكان يبيّن
القرآن للناس. لهذا، كان
كلّ من يحتكّ بنفس الإمام
الباقر عليه الصلاة
والسلام، ولم يكن تابعاً
ولا خاضعاً ولا مشاركاً
لمعلفهم، يبدّل رأيه
بالنسبة لوضع حاكميّة
الزمان. لهذا، نجد أنّ
الكثير من الناس ممّن هم
من الطبقة الوسطى، في زمن
الإمام الباقر عليه
السلام ، كانوا يقبلون
على مدرسة أهل البيت
ومذهب الإمامة، وما هو
رائجٌ في عرف اليوم تحت
عنوان التشيّع. التشيّع
هو هذا، أي اتّباع أهل
البيت من أجل إقامة
الحاكمية الحقيقية
للإسلام، وإعلاء كلمة
القرآن، وبيان وتطبيق
المعارف القرآنية بين
الناس. وكلّ من كان
الإمام الباقر عليه
السلام يتّصل به ويبيّن
له المسائل كان يبدّل
تفكيره. لقد كان هذا هو
العمل الأوّل للإمام
الباقر عليه السلام الّذي
يُعدّ عملاً مهمّاً جداً
وأساسيّاً وهو أهم ما قام
به عليه السلام .
بناء التشكيلات السرية
الأمر الآخر في حياة هذا
الإمام، كان عبارة عن
التشكّل، فماذا يعني هذا؟
أي أنّ المرء يقوم بنشر
تلك المعارف وذلك التغيير
الثقافي والمواجهة
الثقافية داخل المجتمع
كبذرٍ ينثره الإنسان في
الأرض هنا وهناك. حسنٌ،
فإنّ بعض هذا البذار
سيُنبت وبعضه سيموت، وبعض
ما ينبت سيُداس عليه
ويزول، ولعلّ بعضه لن
يثمر كثيراً، هذا هو حال
البذر. وبعض الأحيان،
كلا، فذلك المزارع الماهر
الخبير والعاقل، بالإضافة
إلى أنّه يبذر الحبوب،
فإنّه يحافظ عليها، فكيف
يفعل ذلك؟ من خلال تجهيز
أشخاصٍ وبثّهم في أرجاء
العالم الإسلامي من أجل
القضاء على الشبهات الّتي
وقع فيها أولئك الّذين
تأثّروا بذلك الإعلام
والتعاليم، فيحصلون على
المزيد من المعرفة ولا
يقعون تحت تأثير إلقاءات
العدوّ، فلا يشتبه عليهم
الأمر ويحافظون على
روابطهم فيما بينهم،
فيكون ذلك ضمانة كافية
لأجل أن ينمو ذلك الحبّ
سالماً في أرضٍ مستعدّة
وخصبة.
وقد كان هذا الأمر من
أعمال الإمام الباقر عليه
السلام ، حيث كان يربّي
أشخاصاً ويعدّهم ويخصّهم
بالعناية - التلامذة
الخواص - ثم يربطهم
ببعضهم، ويبثّهم في أرجاء
العالم الإسلامي كأقطاب
وأركان ووكلاء ونوّاب
ليتابعوا ما قام به،
ويتحمّلوا أعباء التبليغ
والتعليم الّذي قام به.
وهذا التنظيم السرّي
للإمام الباقر عليه
السلام ، كان قد بدأ قبل
عصر زمانه، لكنّه تفاقم
وازداد في زمانه، وبالطبع
وصل في زمن الإمام الصادق
والإمام موسى بن جعفر
عليه السلام إلى أوجه؛
لقد كان هذا عملاً آخراً
وهو شديد الخطورة.
لهذا ترون في الروايات
كيف أنّ بعض أصحاب الإمام
الباقر عليه السلام ،
يُعرفون بأصحاب السرّ،
كجابر بن يزيد الجعفيّ،
وجابر الجعفيّ. فجابر
الجعفيّ كان من أصحاب
السرّ، فماذا يعني ذلك؟
إنّه من أولئك الّذين
كانوا يتواجدونفي أرجاء
العالم الإسلامي وفي كلّ
الأماكن ممّن يتحمّلون
مسؤولية هداية المستعدّين
والمحبّين والأخذ بأيديهم
وإشباع أذهانهم. وكان
الجهاز الحاكم أينما وجد
هؤلاء يعرّضهم لكلّ أشكال
الضغط
والقمع.(09/05/1366)
بمطالعةٍ مختصرة يمكن
تلخيص كلّ مرحلة إمامة
الإمام الباقر الّتي
امتدّت إلى تسعة عشرة سنة
من عام 95 للهجرة وإلى
عام 114 بالشكل التالي:
لقد اختاره أبوه الإمام
السجّاد عليه السلام في
آخر لحظات عمره، كإمامٍ
للشيعة وخليفةٍ له، وقد
سجّل هذا التنصيب في محضر
سائر أبنائه وأقاربه.
وأراه صندوقاً بحسب
الروايات مليئاً بالعلم2 أو حاوياً لسلاح رسول
الله وقال: "يا محمّد
احمل هذا الصندوق إلى
بيتك"، ثمّ يتوجّه
بالخطاب إلى الآخرين: "لا
يوجد في هذا الصندوق من
الدرهم والدينار شيءٌ، بل
هو مليءٌ بالعلم"3،
وكأنّه بهذا الموقف،
وبمثل هذا التعبير، عرّف
الحاضرين على إرث القيادة
العلميّة والفكريّة -
العلم - والقيادة
الثوريّةـ سلاح النبيّ.
من اللحظات الأولى، اتّخذ
السعي الوسيع والشامل
للإمام وأتباعه المخلصين
مطلعاً جديداً في إشاعة
دعوة التشيّع الهادفة
والبنيوية. إنّ اتّساع
نطاق هذه الدعوة كان،
بالإضافة إلى المناطق
الّتي يسكنها الشيعة -
كالمدينة والكوفة - يشمل
مناطق جديدة وخصوصاً تلك
القطاعات من الدولة
الإسلاميّة الّتي كانت
بعيدةً عن مركز حكومة بني
أميّة، لتُضاف بذلك إلى
نطاق طراز الفكر الشيعي؛
ويمكن ذكر خراسان في هذا
المجال أكثر من غيرها،
حيث نشاهد نفوذ التبليغ
والدعوة الشيعيّة في أهل
تلك المناطق في الروايات
العديدة4.
إنّ ما يدفع الإمام
وأتباعه نحو هذه الحركة
الّتي لا تعرف السكون، في
كلّ هذا السعي المجهد
ويدعوهم للقيام بهذا
التكليف الإلهيّ هو
الواقع الاجتماعي والذهني
المؤسف. وهم يشاهدون أمام
أعينهم أناساً من جهة
غرقوا وسقطوا في تيّار
الفساد العام للمجتمع على
أثر التربية المضلّة
والمخرّبة يوماً بعد يوم،
وشيئاً فشيئاً وصل الأمر
إلى حيث أنّ عامّة الناس
لم يعودوا يستمعون إلى
الدعوة المنجية للإمامة،
كحال الزعماء والمسؤولين،
"إن دعوناهم لم يستجيبوا
لنا5"، ومن جانبٍ آخر لم يعد
هناك في هذا التيّار
الانحرافيّ - الّذي أصبح
كلّ شيء فيه، حتّى الدرس
والبحث والفقه والكلام
والحديث والتفسير لمصلحة
أماني ورغبات الطواغيت
الأمويين - أيّ طاقة أمل
مفتوحةٌ عليهم، ولو لم
ينهض التشيّع لأجل دعوتهم
وهدايتهم لأُغلق عليهم
طريق الهداية كلّياً،
"وإن تركناهم لم يهتدوا
بغيرنا"6.
على أساس الإدراك العميق
لهذا الواقع الاجتماعيّ
السيّئ، يعلن الإمام
موقفه العدائيّ تجاه
القوى الفكريّة
والثقافيّة، أي الشعراء
والعلماء الّذين باعوا
أنفسهم - والّذين كانوا
مختلقي الأجواء غير
السليمة على صعيد فكر
المجتمع - وبإنزاله
لأصوات توبيخه على رؤوس
هؤلاء، أحدث أمواجاً من
التنبيه واليقظة لم يكن
على مستوى وجدانهم
الميّت، ففي أذهان وقلوب
أتباعهم الغافلين.
وبلهجته المعترضة على
كُثير الشاعر يقول: هل
مدحت عبد الملك؟! فيجيب
بسذاجةٍ أو غفلةٍ وهو
بصدد تبرير معصيته ويقول:
لم أخاطبه بإمام الهدى،
بل مدحته بكلمات الأسد
والشمس والبحر والأفاعي
والجبال، والأسد كلبٌ،
والشمس جسمٌ جامدٌ،
والبحر جسمٌ بلا روح،
والأفاعي حشراتٌ، والجبل
صخرةٌ صمّاء. وهنا يتبسّم
الإمام مقابل هذا
العذروالتبرير غير
الوجيه، بطريقة ذات مغزى،
وهنا ينهض الكُميت -
الشاعر الثوريّ والهادف -
وينشئ واحدة من قصائده
الهاشميّات7
ليضع في أذهان الحاضرين
معنى المقارنة بين هذين
النوعين من العمل الفنّي،
ويوصل ذلك إلى كلّ الّذين
سمعوا بهذه الواقعة8.
عكرمة التلميذ المعروف
لابن عبّاس والّذي كان
يتمتّع بشأنيّة ومقام
عظيم بين الناس، يذهب
لرؤية الإمام عليه السلام
ويقع تحت تأثير وقاره
ومعنويّاته وشخصيّته
الروحية والعلميّة، بحيث
يرمي نفسه بدون إرادةٍ
بين يدي الإمام عليه
السلام ويقول بذهولٍ: لقد
جالست عظماء كابن عباس،
ولم يحدث أن جرى ما جرى
معي الآن بين أيديهم.
فقال الإمام في جوابه:
"ويلك يا عبيد أهل الشام
إنّك بين يديّ بيوتٍ أذن
الله أن تُرفع ويُذكر
فيها اسمه"9.
وكان الإمام عليه السلام
يستغلّ كلّ فرصةٍ مناسبة
لتحريك مشاعر النّاس
الغافلين وعواطفهم من
خلال بيان زاويةٍ من
الوقائع المرّة لحياة
الشيعة، وذكر الضغوط
وأنواع العنف والتشدّد
الّتي كانت تُمارس على
الإمام وأتباعه من قبل
القوى المهيمنة، وبذلك
كان يهزّ عروقهم الميّتة
والراكدة، ويزلزل قلوبهم
الفاترة أي أنّه يعدّهم
لتلك التوجّهات الشديدة
والتحرّكات الثوريّة.
وقد أجاب رجلاً، سأله ذات
يوم كيف أصبحت يا ابن
رسول الله، يروي المنهال
بن عمرو تلك الرواية
فيقول: "كنت جالساً مع
محمد بن علي الباقر
عليهما السلام إذ جاءه
رجل فسلم عليه فرد عليه
السلام، قال الرجل: كيف
أنتم؟ فقال له محمد عليه
السلام : أوما آن لكم أن
تعلموا كيف نحن، إنّما
مثلنا في هذهالأمة
مثل بني إسرائيل، كان
يذبح أبناؤهم وتستحيا
نساؤهم، ألا وإن هؤلاء
يذبحون أبناءنا ويستحيون
نساءنا".
(وبعد هذا البيان البليغ
والمحرّك يجرّ الكلام إلى
القضيّة الأساسية - أي
أولوية الدعوة الشيعيّة
وحكومة أهل البيت عليهم
السلام ).
"زعمت العرب أنّ لهم
فضلاً على العجم، فقالت
العجم: وبماذا؟ قالوا:
كان محمد صلى الله عليه
وآله وسلم عربي. قالوا
لهم: صدقتم، وزعمت قريش
أنّ لها فضلاً على غيرها
من العرب، فقالت لهم
العرب من غيرهم: وبما
ذاك؟ قالوا: كان محمد صلى
الله عليه وآله وسلم
قرشياً. قالوا لهم:
صدقتم؟ فإن كان القوم
صدقوا فلنا فضل على
الناس، لأنّا ذرية محمد
صلى الله عليه وآله وسلم
، وأهل بيته خاصة وعترته،
لا يشركنا في ذلك غيرنا
فقال له الرجل: والله إني
لأحبكم أهل البيت عليهم
السلام . قال: فاتخذ
للبلاء جلباباً، فوالله
إنّه لأسرع إلينا وإلى
شيعتنا من السيل في
الوادي، وبنا يبدأ البلاء
ثم بكم، وبنا يبدأ الرخاء
ثم بكم"10.
وعلى نطاقٍ أضيق وأكثر
وثاقةً تمتّعت علاقة
الإمام بشيعته بخصائص
أخرى. ففي هذه العلاقات
نشاهد الإمام وكأنّه
العقل المفكّر في جسمٍ
حيّ وفي علاقته مع
الأعضاء والجوارح، وكقلبٍ
نابضٍ في تغذية الأجهزة
والأعضاء. إنّ النماذج
الموجودة بمتناول أيدينا
بشأن علاقات الإمام عليه
السلام مع هذه المجموعة
تشير من ناحيةٍ إلى
الصراحة في مجال التعاليم
الفكريّة، ومن جهةٍ أخرى
تشير إلى الروابط
والتشكيلات المدروسة بين
هؤلاء والإمام.
ونجد الفُضيل بن يسار11،
وهو من أقرب أصحاب الإمام
وأصحاب سرّه، يرافقه في
مراسم الحج، فينظر الإمام
إلى الحجّاج وهم يطوفون
حول الكعبة، ويقول: هكذا
كانوا يطوفون في
الجاهلية! إنّما أمروا أن
يطوفوا بها،ثم ينفروا
إلينا فيُعْلمونا ولايتهم
ومودتهم ، ويعرضوا علينا
نصرتهم ! ثم قرأ هذه
الآية:
﴿فَاجْعَلْ
أَفْئِدَةً مِّنَ
النَّاسِ تَهْوِي
إِلَيْهِمْ﴾.
أي لم يقل: إليها! ويوصي
جابر الجعفيّ في أوّل
لقاء له مع الإمام عليه
السلام أن لا يخبر أحداً
أنّه من الكوفة بل أن
يتظاهر أنّه من أهل
المدينة. وبهذه الطريقة
يعلّم الإمام عليه السلام
مثل هذا التلميذ الحديث
الّذي ربّما لديه
قابليّات كبيرة لتحمّل
أسرار الإمام عليه السلام
والتشيّع كما ظهر عليه
ذلك من البداية، دروس
كتمان السرّ، ونفس هذا
التلميذ المستعدّ والّذي
يُعرف فيما بعد كأحد
أصحاب سرّ الإمام عليه
السلام ، ويصل به الأمر
إلى أن يكون داخل جهاز
الخلافة.
يقول النعمان بن بشير:
"كنت ملازماً لجابر بن
يزيد الجعفيّ. فلمّا أن
كنّا بالمدينة، دخل عليّ
أبي جعفر - الإمام الباقر
عليه السلام - فودّعه
وخرج من عنده وهو مسرور،
حيث وردنا الأخيرجة (من
نواحي المدينة) يوم جمعة
فصلّينا الزوال فلما نهض
بنا البعير إذا أنا برجل
طويل آدم (أسمر) معه كتاب
فناوله، فقبّله ووضعه على
عينيه، وإذا هو من محمد
بن علي (الباقر) إلى جابر
بن يزيد وعليه طين أسود
رطب. فقال له: متى عهدك
بسيّدي؟ فقال: الساعة،
فقال له: قبل الصلاة أو
بعد الصلاة؟ فقال: بعد
الصلاة. فقال: ففكّ
الخاتم وأقبل يقرأه ويقبض
وجهه حتّى أتى على آخره،
ثم أمسك الكتاب فما رأيته
ضاحكاً ولا مسروراً، حتّى
وافى الكوفة.
يقول النعمان بن بشير:
فلمّا وافينا الكوفة
ليلاً بتّ ليلتي، فلمّا
أصبحت أتيت جابر الجعفيّ
إعظاماً له، فوجدته قد
خرج عليّ وفي عنقه كعاب
قد علّقها وقد ركب قصبة
(كما يفعل المجانين) وهو
يقول: أجد منصور بن
جمهور.. أميراً غير
مأمور، وأبياتاً من نحو
هذا فنظر في وجهي ونظرت
في وجهه فلم يقل لي
شيئاً، ولم أقل له،
وأقبلت أبكي لما رأيته،
واجتمع عليّ وعليه
الصبيان والناس، وجاء
حتّى دخل الرّحبة، وأقبل
يدور مع
الصبيان، والناس يقولون:
جُنّ جابر بن يزيد.
فوالله ما مضت الأيام
حتّى ورد كتاب هشام بن
عبد الملك إليّ وإليه أن
انظر رجلاً يقال له: جابر
بن يزيد الجعفيّ، فاضرب
عنقه وابعث إليّ برأسه.
فالتفت إلى جلسائه فقال
لهم: من جابر بن يزيد
الجعفيّ؟ قالوا: أصلحك
الله كان رجلاً له علم
وفضل وحديث، وحجّ فجنّ
وهو ذا في الرّحبة مع
الصبيان على القصب يلعب
معهم. قال: فأشرف عليه،
فإذا هو مع الصبيان يلعب
على القصب. فقال: الحمد
لله الّذي عافاني من قتله"12.
هذا أنموذجٌ من كيفية
تعامل الإمام وارتباطه مع
أصحابه المقرّبين وشاهدٌ
على وجود العلقة والرابطة
المحسوبة بدقّة
والتشكيلات؛ وأيضاً هو
نموذجٌ حول موقف الحكومة
تجاه هؤلاء الأصحاب. من
الواضح أنّ أيادي الحكومة
- والّتي لا تفكّر بأكثر
من الحفاظ على نفسها
وسلطتها، وترسيخ
موقعيّتها - لا تبقى في
غفلةٍ مطبقة عن علاقات
الإمام عليه السلام مع
أصحابه المقرّبين
وأنشطتهم، ولا شك بأنّهم
سيشمّون رائحة مثل هذا
الموضوع وسيسعون لكشفه
ومواجهته13.
وبالتدريج يبرز نهج
الاعتراض في حياة هذا
الإمام عليه السلام وكذلك
في الجوّ الشيعيّ العام،
ويبشّر ببداية فصلٍ جديد
في تاريخ حياة أئمّة
الشيعة.
هذا وإن لم يكن في متون
التواريخ الإسلاميّة
وكذلك في كتب
الأحاديثوغيرها، حديثٌ
صريحٌ عن أنشطة الإمام
الباقر عليه السلام
الاعتراضيّة والحادّة
نسبيّاً - وبالطبع إنّ
هذا نفسه ناشئٌ من أسبابٍ
وعوامل عدّة، أهمّها
القمع المسيطر على
الأجواء وضرورة التقيّة
من قبل أصحاب الإمام عليه
السلام الّذين كانوا
المراجع الوحيدين
المطّلعين على مجريات
الحياة السياسية للإمام
عليه السلام - ولكن يمكن
دوماً اكتشاف عمق أداء
أيّ إنسان من خلال ردود
الفعل المحسوبة بدقّة من
قبل أعدائه المتيقّظين.
إنّ الجهاز المقتدر
والمدبّر كجهاز هشام بن
عبد الملك الّذي عدّه
المؤرّخ أكثر الخلفاء
الأمويين اقتداراً، إذا
كان يواجه الإمام الباقر
عليه السلام أو أي شخص
آخر بذلك الوجه العنيف،
فهذا لا شكّ ناشئٌ من
أنّه كان يرى في أدائه
وعمله تهديداً لنفسه، ولم
يعد قادراً على تحمّل
وجوده. فلا يمكن الشكّ
بأنه لو كان الإمام
الباقر عليه السلام
مشغولاً فقط بالحياة
العلميّة وليس بالبناء
الفكريّ و التنظيميّ،
فإنّ الخليفة ورؤوس نظام
الخليفة لما رأوا من
مصلحتهم ونفعهم أن
يتصرّفوا بشدّة وعنف
لأنّهم بذلك، سوف
يستفزّون الإمام عليه
السلام ، لمواجهتهم بشدّة
- مثلما حدث في زمنٍ
قريبٍ لهم، أن شاهدنا
أنموذجاً لهذه القضية
ومنها قيام حسين بن عليّ
"شهيد
الفخّ14"
- وأيضاً سوف يغضبون منهم
جماعة الأنصار والمعتقدين
بالإمام عليه السلام -
ولم يكن عددهم قليلاً -
ويسخطونهم على جهازهم
الحاكم. خلاصة الحديث أنّ
ردّ الفعل الحادّ نسبيّاً
من قبل نظام الخلافة في
أواخر عمر الإمام الباقر
يمكن أن يكون سبباً أن
نستنتج منه شدّة عمل
الإمام عليه السلام
وحدّته.
إحضار الإمام الباقر عليه السلام إلى الشام
من الحوادث المهمّة في أواخر حياة الإمام وأكثرها شهرةً حادثة إحضاره إلى الشام، الّتي كانت عاصمة الحكم الأمويّ. فلأجل معرفة موقف الإمام تجاه جهاز الخلافة، أمر الخليفة الأمويّ باعتقال الإمام الباقر - وطبق بعض الروايات، مع ابنه الإمام الصادق أيضاً، الّذي كان شابّاً ومساعداً ملازماً لأبيه - ونقلهما إلى الشام. فأُحضر الإمام إلى الشام إلى قصر الخليفة. وقد أملى هشام قبل ذلك على حضّار مجلسه وحاشيته ليقوموا بالإجراءات اللازمة حينما يدخل الإمام ويواجهوه، فكان من المقرّر أن يبدأ الخليفة نفسه، ومن بعدها حضّار المجلس - الّذين كانوا جميعاً من الرجال والزعماء - وينهالون عليه بالطعن والشماتة. وقد أراد بهذا العمل تحقيق هدفين:
الأوّل: أن يُضْعِف
روحيّة الإمام بمثل هذه
التصرّفات الشديدة
والمسيئة، وليكون ذلك
أرضية من أجل أيّ عملٍ،
يبدو لهم لازماً. والآخر
أن يدين الخصم في لقاءٍ
بين أعلى قيادات الجبهتين
المتعاديتين، وبهذه
الوسيلة ينتزع سلاح كلّ
عناصر جبهته من خلال نشر
خبر هذه الإدانة، والّتي
ستحصل بفضل الأبواق
الجاهزة دوماً لخدمة
الخليفة كالخطباء
والعمّال والجواسيس.
يدخل الإمام وبخلاف
الرّسوم والعادات
المتعارفة الّتي تقتضي
أنّ كلّ من يدخل إلى
المجلس يجب أن يسلّم على
الخليفة بذلك اللقب
المخصوص بأمير المؤمنين،
فإنّه توجّه إلى جميع
الحاضرين، وأشار بيده
مخاطباً إيّاهم وقال:
السلام عليكم، ومن دون أن
ينتظر أيّ ردٍّ يجلس.
وبهذا التصرّف يشعل
نيرانالحقد والحسد في
قلب هشام، ويبدأ برنامجه،
أنتم يا أبناء عليّ كنتم
دوماً تشقّون عصا
المسلمين بدعوتهم إلى
أنفسكم، وتنشرون بينهم
الشقاق والنفاق وتدعون
الإمامة لأنفسكم بجهلكم
وسفاهتكم. ويتفوّه بأمثال
هذه الترّهات ويسكت. ثمّ
بعد ذلك، كلّ واحد من
عبيده وأصحاب معلفه،
ينهضون ويتفوّهون بمثل
هذه الكلمات، ويتوجّهون
بألسنتهم للطعن بالإمام
عليه السلام وتوبيخه.
وقد كان الإمام عليه
السلام طيلة هذه المدّة
ساكناً وهادئاً. وعندما
سكت الجميع ينهض الإمام
ويقف ويتوجّه إلى
الحاضرين، وبعد الحمد
والثناء على الله تعالى
والسلام على النبيّ، يردّ
بكلماته المختصرة
والمزلزلة كيد أولئك إلى
نحورهم، وكأنّه يوجّه لهم
بهذه الكلمات صفعةً
قاضية، ويبيّن موقعه
وأصول عائلته المفتخرة،
الّتي تنطبق مع أعلى
المعايير الإسلاميّة -
وهي الهداية - وفي
النهاية يبيّن عاقبة
طريقهم بحسب السّنن
الإلهية في التاريخ
ويزلزل روحيّتهم أكثر
ممّا كانت متزلزلة: "أيها
الناس! أين تذهبون؟ وأين
يراد بكم؟ بنا هدى الله
أوّلكم، وبنا يختم آخركم،
فإن يكن لكم ملك معجّل،
فإنّ لنا ملكاً مؤجّلاً،
وليس بعد ملكنا ملك،
لأنّا أهل العاقبة، يقول
الله عز وجلّ: والعاقبة
للمتقّين15"16.
في هذا البيان المختصر
والمليء بالمعنى - الّذي
تضمّن التظلّم والبشارة
والتهديد والإثبات والردّ
- تحقّق التأثير
والجاذبيّة إلى درجة أنّه
لو أذيع ووصل إلى أسماع
الناس لكان من الممكن أن
يجعل كلّ من يسمعه
معتقداً بحقّانية قائله.
ولأجل الردّ على هذا
الكلام، كان المطلوب وجود
خطيبٍ متفوّه مقنعٍ
ومنطقيّ. ولم يكن أيٌّ من
هذا في من خاطبهم الإمام،
ولهذا لم يعد أمامهم
سوىاستخدام العنف
والقهر. فيأمر هشام
بإلقاء الإمام في السّجن؛
وهو يعترف من الناحية
العمليّة بضعف معنويّاته
وضعف منطقه، فيقوم الإمام
في السّجن ببيان الحقائق،
ليؤثّر في نزلائه في
السّجن، بحيث أنّه لا
يبقى أيّ واحدٍ منهم لا
يعتقد من أعماق قلبه، بما
قاله. فينقل مأمورو
السّجن مجريات الأحداث
إلى هشام. وقد كان هذا
الموضوع غير قابلٍ
للتحمّل من قبل جهازٍ كان
بعيداً طيلة عشرات السنين
داخل الشّام عن الخطاب
العلوي. فيأمر هشام
بإخراج الإمام عليه
السلام ومن معه من
السّجن، ولم يكن من مكانٍ
أنسب لهم من المدينة
المنوّرة، تلك المدينة
الّتي كانوا يعيشون فيها،
وبالطبع، مع وضعهم تحت
المراقبة وكلّ أنواع
التشدّد المستمرّ وأكثر.
وعند الضرورة، إنزال
الضربة الأخيرة وإبادة
الخصم من دون ضجيج في
بيته، والتنصّل من وبال
تهمة قتل الإمام عليه
السلام ووضعه في رقبته.
لهذا وُضعوا بأمرٍ من
هشام على مراكب سريعة -
كان عليها أن تقطع كلّ
الطريق من دون توقّف -
ويحملونهم إلى المدينة.
وكانوا قبل ذلك قد منعوا
أيّ إنسان في كلّ المدن
الّتي تقع على الطريق من
أن يتعامل مع هذه القافلة
المغضوب عليها، أو أن
يبيعهم الماء والخبز17.
وقد استمرّ هذالوضع
طيلة الطريق ثلاثة ليالٍ
وأيّام فنفذ ما كان لديهم
من الماء والخبز.
ووصلوا "مدين". وأغلق أهل
المدينة بحسب ما لديهم من
أوامر، أبواب مدينتهم،
وأبوا أن يبيعوا متاعاً.
اشتدّ على أتباع الإمام
عليه السلام الجوع
والعطش. صعد الإمام عليه
السلام على مرتفع يطلّ
على المدينة ونادى بأعلى
صوته: "يا أهل المدينة
الظالم أهلها، أنا بقيّة
الله. يقول الله:
﴿بَقِيَّةُ
اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ
إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم
بِحَفِيظٍ﴾.
يقول الراوي: وكان بين
أهل المدينة شيخٌ كبير،
فأتاهم فقال: "يا قوم
هذه والله دعوة شعيب عليه
السلام . والله لئن لم
تخرجوا إلى هذا الرجل
بالأسواق لتؤخذنّ من
فوقكم ومن تحت أرجلكم
فصدقّوني وأطيعوني..
فإنّي لكم ناصح. استجاب
أهل المدينة لدعوة الشيخ
فبادروا وأخرجوا إلى أبي
جعفر وأصحابه الأسواق"18.
والقسم الأخير من هذه
الرواية التاريخيّة -
والّذي يمكن أن يكون من
جهاتٍ عدّة عرضاً للوضع
السياسي والقمع وكذلك
الاستخفاف الشامل بجميع
الأذهان في ذلك الزمان
ومن جانبٍ آخر يمثّل
بياناً للموقف الخاص
للإمام الباقر عليه
السلام مقابل جهاز حكم
بني أميّة - هو على الشكل
التالي: عندما وصل خبر
المدينة إلى هشام أمر قبل
أي شيء بمعاقبة ذلك الرجل
المتمرّد على خيانته
لأنّه تجرّأ على الإعراب
عن مخالفته لخطّة زعماء
نظام الخلافة وجنّب
النّاس من غفلةٍ كبرى.
وقد أُخذ هذا الرّجل
وقُتل بأمرٍ من الخليفة.
ومع كلّ ذلك، يتجنّب
الإمام أيّة مواجهة حادّة
ومجابهة مباشرة مع الجهاز
الحاكم. فلا يعمد إلى
سيف، ولا يسمح للأيدي
المتسرّعة إلى السلاح أن
تشهره، ويوجّهها توجيهاً
حكيماً، وسيف اللسان
أيضاً لا يشهره، إذا لم
يتطلّب عمله التغييريّ
الأساسيّ الجذريّ ذلك.
ولا يسمح لأخيه زيد،
الّذي بلغ بهالغضب
مبلغه، وثارت عواطفه
أيّما ثورة، أن يخرج
(يثور)، بل أن يركّز
نشاطه العام على التوجيه
الثقافي والفكري. وهو
بناء أساس أيديولوجي في
إطار مراعاة التقية
السياسية.
ولكن هذا الأسلوب لم يكن
يمنع الإمام عليه السلام
، كما أشرنا، من توضيح
"حركة الإمامة" لأتباعه
الخلّص. وإذكاء أمل
الشيعة الكبير، وهو إقامة
النظام السياسي بمعناه
الصحيح العلويّ في قلوب
هؤلاء، بل يعمد أحيانا
إلى إثارة عواطفهم بالقدر
المطلوب على هذا الطريق.
التلويح بمستقبلٍ مشرق هو
أحد السبل الّتي مارسها
الإمام الباقر عليه
السلام مع أتباعه. وهو
يشير أيضاً إلى تقويم
الإمام عليه السلام
للمرحلة الّتي يعيشها من
الحركة. يقول الحكم بن
عيينة: بينما أنا مع أبي
جعفر عليه السلام والبيت
غاص بأهله إذ أقبل شيخ
يتوكّأ على عنزة (عكازة)
له، حتّى وقف على باب
البيت، فقال: السلام عليك
يا ابن رسول الله ورحمة
الله وبركاته. ثمّ سكت،
فقال أبو جعفر: وعليك
السلام ورحمة الله
وبركاته. ثم أقبل الشيخ
بوجهه على أهل البيت
وقال: السلام عليكم، ثم
سكت حتّى أجابه القوم
جميعاً، وردّوا عليه
السلام. ثم أقبل بوجهه
على الإمام عليه السلام
وقال: يا ابن رسول الله
أدنني منك جعلني الله
فداك. فوالله إنّي
لأحبّكم وأحبّ من يحبّكم،
ووالله ما أحبّكم وأحبّ
من يحبّكم لطمع في دنيا،
وإنّي لأبغض عدوّكم وأبرأ
منه، ووالله ما أبغضه
وأبرأ منه لوترٍ كان بيني
وبينه. والله إنّي لأحلّ
حلالكم وأحرّم حرامكم،
وأنتظر أمركم، فهل ترجو
لي، جعلني الله فداك؟
فقال الإمام عليه السلام
: إليّ إليّ حتّى أقعده
إلى جنبه، ثم قال:
"أيها الشيخ، إنّ أبي
عليّ بن الحسين عليه
السلام ، أتاه رجل فسأله
عن مثل الّذي سألتني عنه
فقال له أبي عليه السلام
: إن تمت ترد على رسول
الله صلى الله عليه وآله
وسلم وعلى عليّ والحسن
والحسين وعلى عليّ بن
الحسين، ويثلج قلبك،
ويبرد فؤادك، وتقرّ عينك،
وتستقبل بالروحوالريحان
مع الكرام الكاتبين...
وإن تعش ترى ما يقرّ الله
به عينك، وتكون معنا في
السنام الأعلى". قال
الشيخ وهو مندهش من عظمة
البشرى: كيف يا أبا جعفر؟
فأعاد عليه الكلام، فقال
الشيخ: الله أكبر يا أبا
جعفر، إن أنا متّ أرد على
رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم وعلى عليّ
والحسن والحسين وعلي بن
الحسين وتقرّ عيني ويثلج
قلبي ويبرد فؤادي
وأُستقبل بالروح والريحان
مع الكرام الكاتبين لو قد
بلغت نفسي ههنا. وإن أعش
أرى ما يقرُّ الله به
عيني، فأكون معكم في
السنام الأعلى؟ ثم أقبل
الشيخ ينتحب حتّى لصق
بالأرض. وأقبل أهل البيت
ينتحبون لما يرون من حال
الشيخ. ثم رفع الشيخ رأسه
وطلب من الإمام عليه
السلام أن يناوله يده
فقبّلها ووضعها على عينه
وخدّه، ثم ضمّها إلى صدره
وقام فودّع وخرج والإمام
عليه السلام ينظر إليه
ويقول: "من أحبّ أن
ينظر إلى رجل من أهل
الجنّة فلينظر إلى هذا"19.
الظروف السياسية عند شهادة الإمام الباقر عليه السلام
عن أبي حمزة الثمالي قال سمعت أبي عبد الله عليه السلام يقول: إنّ الله تبارك
وتعالى قد كان وقت هذا الأمر في السبعين، فلمّا قُتل الحسين صلوات الله عليه اشتدّ
غضب الله تعالى على أهل الأرض فأخّره إلى الأربعين ومائة فحدّثناكم فأذعتم الحديث
فكشفتم قناع الستر ولم يجعل الله له بعد ذلك وقتاً عندنا، ويمحو الله ما يشاء ويثبت
وعنده أمّ الكتاب. قال أبو حمزة: فحدّثت بذلك أبا عبد الله عليه السلام فقال: قد
كان كذلك.20
مثل هذه التصريحات، تزكّي روح الأمل في قلوب تعيش جوّ الاضطهاد والكبت، فتكسبها
زخماً ودفعاً نحو الهدف المنشود المتمثّل في إقامة النظام الإسلامي العادل.
تسعة عشر عاماً من إمامة الباقر عليه السلام تواصلت على هذا الخط المستقيم المتماسك
الواضح. تسعة عشر عاماً من التعليم الأيديولوجي، والبناء، والتكتيك النضالي،
والتنظيم، وصيانة وجهة الحركة، والتقيّة وإذكاء روح الأمل. تسعة عشر عاماً من مسير
شائك وعر يتطلّب كثيراً من الجدّ والجهد. وحين أشرفت هذه الأعوام على الانتهاء
وأوشكت شمس عمره المبارك على المغيب، تنفّس أعداؤه الصعداء، لأنّهم بذهاب هذا
القائد الموّجه سوف يتخلّصون من مصدر إثارةٍ، لطالما قضّ مضاجعهم وسرق النوم من
عيونهم. لكنّ الإمام عليه السلام خيّب آمالهم وفوّت عليهم هذه الفرصة، حين جعل من
وفاتهمصدر عطاء، ومنطلق إثارة ووسيلة توعية مستمرّة! لقد وجّه ولده الصادق عليه
السلام في اللحظات الأخيرة من حياته توجيهاً يمثّل نموذجاً رائعاً من نماذج التقيّة
الّتي مارسها الإمام الباقر عليه السلام والأسلوب الّذي استعمله في مرحلته الزمنيّة
الخاصة. في الرواية عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: "قال لي أبي: يا
جعفر أوقف لي من مالي كذا وكذا لنوادب تندبني. عشر سنين بمنى أيام منى".
وهذه الرواية لم يقف عندها من بحث في حياة الإمام الباقر عليه السلام وغفلوا عما
فيها من دلالات كبيرة. لقد خلّف الإمام (800) درهم، وأوصى أن يخصّص جزء منها لمن
يندبه في منى. وندب الإمام عليه السلام في منى له معنى كبير. إنه عملية إحياء ذلك
المصدر الّذي كان يشعّ دائماً بالتوعية والإثارة وخلق روح الحماسة والمقاومة.
واختيار منى بالذات يعني مواصلة العمل في وسط تمركز الوافدين من كلّ أرجاء العالم
الإسلامي، خلال فترة الاستقرار الوحيدة في موسم الحج. فكلّ مناسك الحج يمرّ بها
الحاج وهو في حركة دائبة مستمرّة، إلاّ في منى، حيث يبيت الليلتين أو الثلاث،
فيتوفّر لديه الوقت الكافي يسمع ويطّلع. وندب الإمام عليه السلام في هذا المكان
سيثير التساؤل عن شخصية هذا المتوفّى، من هو؟ فيحصلون على الجواب من أهل المدينة
الّذين عاصروه. أنه من أبناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأستاذ الفقهاء
والمحدّثين. ولماذا يندب في هذا المكان؟ ألم يكن موته طبيعياً؟ من الّذي قتله أو
سمّه؟ هل كان يشكّل خطراً على الجهاز الأمويّ؟ و.. و.. عشرات الأسئلة كانت تثار حين
يندب الإمام عليه السلام في هذا المكان. ثم يحصل السائلون على الإجابة، وتنتشر
الأخبار في أطراف البلاد وأكنافها بعد عودة الحجيج إلى أوطانهم. وكان هناك في مواسم
الحج من يأتي من الكوفة والمدينة ليجيب عن هذه التساؤلات مغتنماً فرصة تجمّع
المسلمين. وليبثّ روح التشيّع منخلال أعظم قناة إعلامية آنذاك. هكذا عاش الإمام
عليه السلام ، وهكذا خطط لما بعد وفاته، "وجعله مباركاً أينما كان، وسلام عليه
يوم ولد ويوم جاهد ويوم استشهد في سبيل الله ويوم يبعث حيّاً"21.(قيادة
الإمام الصادق عليه السلام ،33-54)
توفيّ الإمام الباقر عليه السلام وهو في السابعة والخمسين من عمره، على عهد هشام بن
عبد الملك، وهو من أكثر ملوك بني أميّة اقتداراً. ورغم ما كانت تحيط بالحكومة
الأموية آنذاك من مشاكل ومتاعب، فإنّ ذلك لم يصرفها عن التآمر على القلب النابض
للشيعة، أي الإمام الباقر عليه السلام ، فأوعز هشام إلى عملائه أن يدُسّوا السمّ
للإمام عليه السلام ، وحقّق بذلك انتصاره في القضاء على أخطر أعدائه.
كان نظام بني أميّة في السنوات الأخيرة لحياة الإمام الباقر عليه السلام ، وفي
سنوات بدايات إمامة ولده الإمام الصادق عليه السلام ، يمرّ بأحد أكثر فصوله المليئة
بالأحداث والمتغيّرات. فالتحدّيات العسكرية في الحدود الشمالية الشرقية - تركستان
وخراسان - وفي الشمال - آسيا الصغرى وآذربايجان - والمغرب - وأفريقيا والأندلس
وأوروبا - هذا من جانب، والثورات والانتفاضات المتلاحقة في أنحاء العراق العربية
وخراسان وشمال أفريقيا الّتي كانت تنطلق بالأغلب بواسطة السكّان المحلّيين الساخطين
الّذين يئنّون من الظلم، وأحياناً، كانت بتحريك أو مساعدة القادة العسكريين المغول
الأمويّين22. ومن جانبٍ
آخر، كذلك الوضع الصعب الداخليّ في كلّ الأماكن وخصوصاً في العراق - مقر الدهّاقين
الكبار لبني أميّة وموقع الأراضي الخصبة الّتي كانت في الأغلب من ممتلكات الخليفة
أو أحد رجالاته - وكلّ الظلم والحيف الهائل لهشام وواليه المتجبّر في العراق
- خالد بن عبد الله
القسري23 - وفي النهاية القحط والطاعون في مختلف المناطق، ومنها خراسان والعراق
والشام، جعلت البلاد المترامية للمسلمين في حالةٍ عجيبة بسبب نظام بني أميّة وعلى
يد أشهر الولاة. وينبغي أن نضيف أكبر خسارة حلّت بالعالم الإسلامية هي الخسارة
المعنوية والفكرية والروحية.
في الأجواء الكئيبة للدولة الإسلاميّة، الّذي كان فيه الفقر والحرب والأمراض، مثل
صاعقةٍ نزلت من أصحاب السلطة والمستبدّين الأمويين على رؤوس النّاس المساكين، تحرق
وتذر رماداً. فإنّ تربية غرسة الفضيلة والتقوى والأخلاق والمعنويّات أضحت في عداد
المستحيلات. فالعلماء والقضاة والمحدّثون والمفسّرون الّذين كان ينبغي أن يكونوا
ملجأ وملاذ الناس المساكين والمظلومين صاروا في الأغلب سبباً لزيادة مشاكل النّاس،
بطريقةٍ أشدّ خطراً من رجال السياسة. فقد أصبح المشاهير والشخصيّات المعروفة في
الفقه والكلام والحديث والتصوّف بيادقة بيد جهاز الخلافة الكبير، وألاعيب بيد
الأمراء والحكّام.
من المؤسف لو قيل إنّ دراسة أحوال هذه الشخصيّات الوجيهة وأصحاب السّمعة تجعلهم
يتجسّدون في ذهن كلّ من يطالع بصورة رجال يشتركون في معلف الأماني المنحطّة كالسّعي
لنيل السلطة والسّمعة والشهرة، أو جبناء ومنحطّين وطلّاب راحة، أو زهّاد مرائين
وحمقى، أو متظاهرين بالعلم، مشغولين بالأبحاث الدمويّة الكلاميّة والاعتقادية24.
فقد تبدّل القرآن والحديث
الّذي ينبغي لكلّ منهما أن يصبح سبباً لرشد ونموّ غرسات المعرفة والخصال الحسنة،
إلى أدوات بيد أصحاب السّلطة، أو للانشغال بالأمور الّتي لا فائدة منها.
في هذه الأجواء السّامّة والخانقة والمظلمة وفي ذلك الزمن المحفوف بالبلاء
والمصاعب، حمل الإمام الصادق عليه السلام ثقل الأمانة الإلهيّة على عاتقه. وحقّاً،
كم كان ضروريّاً وحيويّاً أن نتعرّف على الإمامة بذلك المفهوم الرّاقي الموجود في
الثقافة الشيعيّة. وبالنسبة للأمّة الذليلة والخانعة والمخدوعة والجاهلة في ذلك
الزمان المظلم والمليء بالمصائب، رأينا سابقاً أنّ الإمامة منبعٌ لتيّارين
حياتيّين: الفكر الإسلاميّ الصحيح، والنّظام التوحيديّ العادل؛ والإمام مكلّفٌ
بهاتين الوظيفتين: الأولى، تبيين الدّين وتطبيقه وتفسيره - وبما يتضمّن مواجهة
التحريفات، والاختلاقات الجاهلة والمغرضة - ومن ثمّ التخطيط وإيجاد الأرضية لنظام
التوحيد العادل والحقّانيّ؛ وفي حال وجود مثل هذا النّظام، منحه الدوام
والاستمراريّة. والآن في مثل هذه الأوضاع والأحوال السيّئة، يتحمّل الإمام الصادق
عليه السلام ثقل هذه الأمانة، ويصبح مسؤولاً عن هذين التكليفين. ففي آنٍ واحد، تصبح
هاتان الوظيفتان أمام ناظريه، فماذا يقدّم منهما؟ صحيحٌ أنّ العمل السياسيّ له
مصاعبه الكثيرة، ولا يوجد شيءٌ يمكن لهشام الأمويّ مع كلّ مشاغله ومتاعبه أن يغفره،
أو لا ينتقم منه بشدّة؛ ولكنّ العمل الفكريّ - أي مواجهة التحريف - في الحقيقة
عبارة عن اقتلاع وريد الجهاز الحاكم؛ جهازٌ لا قدرة له على البقاء إلّا بالاعتماد
على الدين الانحرافيّ25.
لهذا، فإنّه أيضاً لن
يغفر هذا العمل؛ فلا هشام
ولا غيره من علماء العصر،
العلماء الّذين يسعون
لترويج المجتمع المنحطّ
والمنحرف، ويتحرّكون
بفعاليّة من أجل ذلك.
ومن جانبٍ آخر، فقد
تهيّأت الظروف من أجل نشر
وتعميم الفكر الثوري
الشيعي. فقد كان هناك حربٌ
وفقرٌ واستبداد؛ عوامل
ثلاث مهيّئة ومعدّة
للثورة، وتهيّأت الأرضية
من قبل الإمام السابق،
والّذي جعل أجواء المناطق
القريبة وحتى البعيدة
مهيّأة إلى حدّ ما. إن
الاستراتيجية العامّة
للإمامة عبارة عن إيجاد
الثورة التوحيدية
والعلوية؛ ففي أجواءٍ
سيكون فيها جماعة مطلوبة
من الناس تعرف أيديولوجية
الإمامة وتؤمن بها
وتتشوّق انتظاراً
لتحقّقها وجماعة أخرى
مطلوبة كانت قد انضمّت
إلى تلك التشكيلات
المناضلة.
فاللازم المنطقي لهذا
التحرّك العام والنهج
الكلّي هو دعوة شاملة في
كلّ العالم الإسلامي، من
أجل تهيئة الأجواء لإشاعة
الفكر الشيعي في كلّ
الأقطار، ودعوة أخرى من
أجل إعداد الأفراد
المستعدّين والمضحّين
لأعضاء ا
2013-04-01