يتم التحميل...

مجلس شهادة الإمام علي عليه السلام-1

الشهادة

لمّا كانت ليلةَ تسعَ عشرةَ من شهر رمضانَ قدّمتُ إليه عند إفطاره طبقاً فيه قرصان من خبز الشعير وقصعةً فيها لبن وملح جريش،

عدد الزوار: 1223

مجلس شهادة الإمام علي عليه السلام

قُمْ نَاشِدِ الإسْلَامَ عن مُصَابِهْ                      أُصِيْبَ بِالنَّبِيِّ أَمْ كَتَابِهْ
أَمْ أَنَّ رَكْبَ الموتِ فيهِ قد سَرَى                  بالروحِ محمولاً على رِكابِهْ
بَلَىْ قَضَى نَفْسُ النبيِّ المرتضَى                  وَأُدْرِجَ الليلةَ في أثوابِهْ
مَضَى على اهتضامِهِ بغُصَّةٍ                      غَصَّ بها الدهرُ مَدَى أحْقابِهْ
عاشَ غريباً بينَها وقد قضَى                      بسَيْفِ أشقاها على اغترابِهْ
لقد أراقوا ليلةَ القَدْرِ دماً                          دماؤها انْصَبَبْنَ بانصبابِهْ
تنزَّلُ الروحُ فوافى روحَهُ                        صاعدةً شوقاً إلى ثوابِهْ
فَضَجَّ والأملاكُ فيها ضجّةً                       منها اقشعرَّ الكونُ في إهابِهْ
وانقلبَ الإسلامُ للفجرِ بها                         للحَشْرِ إعوالاً على مُصابِهْ
للهِ نَفْسُ أحمدٍ مَنْ قد غدَا                         مِنْ نَفْسِ كُلِّ مؤمنٍ أَوْلَى بِهْ
غادرَهُ ابنُ مَلْجَمٍ ووجهُهُ                         مخضّبٌ بالدَّمِ في محرابِهْ
فَلْيَبْكِ جبريلُ لهُ ولْينتحِبْ                         في المَلَأ الأعلى على مُصابِهْ1

شعبي:
الله يالناعي افجعت قلبي او مردته
                        يا ريت صوتك لا عليّ مرّ اوسمعته
كن عودي ما تمم ابمحرابه سجدته
                       الله يالناعي افجعتنه ابهذا المصاب
گلها يويلي راح ابوك او هلّي العين
                     صابه المرادي ابسيفه او طبّر اسه نصين
من سمعته صاحت يخويه حسن واحسين
                    گوموا لبونه اتلاحگوا بالمسجد انصاب

أبوذْية:
أركان الهدى من صاح هدّام
                      اومن راسك يحامي الجار هدّام
او عليك الحزن طول الدهر هدّام
                     او ما ننساك يا حامي الحمية

عن أمّ كلثوم بنت أمير المؤمنين صلوات الله عليه أنّها قالت: لمّا كانت ليلةَ تسعَ عشرةَ من شهر رمضانَ قدّمتُ إليه عند إفطاره طبقاً فيه قرصان من خبز الشعير وقصعةً فيها لبن وملح جريش، فلمّا فرغ من صلاته أقبل على فطوره، فلمّا نظر إليه وتأمّله حرّك رأسه وبكى بكاءً شديداً عالياً، وقال: يا بنيّة، ما ظننت أن بنتاً تسوء أباها كما قد أسأت أنت إليّ، قالت: وماذا يا أباه؟ قال: يا بنيّة، أتقدّمين إلى أبيك إدامين في فرد طبق واحد؟ أتريدين أن يطول وقوفي غداً بين يدَيِ الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة؟! أنا أريد أن أتبعَ أخي وابنَ عمّي رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ما قُدِّمَ إليه إدامان في طبق واحد إلى أن قبضه الله، يا بنيّة، ما مِنْ رجُلٍ طاب مطعمُه ومشربُه وملبسُه إلّا طال وقوفُه بين يدَيِ الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة، يا بنيّة، إنّ الدنيا في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب..

يا بنيّة، والله لا آكل شيئاً حتّى ترفعي أحد الإدامين، فلمّا رفعته تقدّم إلى الطعام فأكل قرصاً واحداً بالملح الجريش، ثمّ حمد الله وأثنى عليه، ثمّ قام إلى صلاته فصلّى ولم يزل راكعاً وساجداً ومبتهلاً ومتضرّعاً إلى الله سبحانه، ويكثر الدخول والخروج وهو ينظر إلى السماء..، ثمّ رقدَ هنيئة وانتبه.. ونهضَ قائماً على قدميه وهو يقول: "اللهمّ بارك لنا في لقائك" ويكثر من قول: "لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم"، ثمّ صلّى حتّى ذهب بعضُ الليل، ثمّ جلس للتعقيب، ثمّ نامت عيناه وهو جالس، ثمّ انتبه من نومته..

.. ولم يزل تلك الليلة قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً، يخرج ساعة بعد ساعة يقلّب طرفه في السماء وينظر في الكواكب وهو يقول: والله ما كَذَّبتُ ولا كُذِّبت، وإنّها الليلة التي وُعِدتُ بها، ثمّ يعود إلى مصلّاه ويقول: اللهمّ بارك لي في الموت، ويكثر من قول: "إنا لله وإنا إليه راجعون ولا حولَ ولا قوّةَ إلّا بالله العليّ العظيم" ويصلّي على النبيّ وآله، ويستغفر الله كثيراً.

ولَمّا قرب الفجر أسبغ الوضوء وقام ولبس ثيابه وفتح بابه، ثمّ نزل إلى الدار وكان في الدار إوزّ قد أُهدي إلى الحسين عليه السلام ، فلمّا نزل خرجن وراءه ورفرفن وصِحْنَ في وجهه، وكان قبل تلك الليلة لم يصحن، فقال عليه السلام: لا إله إلّا الله صوارخ تتبعها نوائح، وفي غداة غدٍ يظهر القضاء..

ولمّا وصل إلى الباب عالجه ليفتحه فتعلّق الباب بمئزره فانحلَّ مئزره حتّى سقط، فأخذه وشدَّه وهو يقول:
(أُشْدُدْ) حيازيمك لِلْمَوْتِ             فَإنَّ المَوْتَ لَاقِيْكَا
وَلَا تَجْزَعْ مِنَ الْمَوْتِ                إِذَا حَلَّ بِنَادِيْكَا
وَلَا تَغْتَرَّ بِالْدَّهْرِ                     وَإِنْ كَانَ يُوَاتِيْكَا
كَمَا أَضْحَكَكَ الدَّهْرُ                 كَذَاكَ الْدَّهْرُ يُبْكِيْكَا

ثمّ قال: اللهمّ بارك لنا في الموت، اللهمّ بارك لي في لقائك. قالت أم ّكلثوم: وكنت أمشي خلفه، فلمّا سمعته يقول ذلك، قلت: وا غوثاه يا أبتاه، أراك تَنْعَىْ نفسك منذ الليلة. قال: يا بنيّة، ما هو بنعاء، ولكنّها دلالات وعلامات للموت تتبع بعضها بعض، فأمسكي عن الجواب، ثمّ فتح الباب وخرج.

وسار أمير المؤمنين عليه السلام حتّى دخل المسجد، والقناديل قد خمد ضوؤها، فصلّى في المسجد وِرده وعقَّب ساعة، ثمّ إنّه قام وصلّى ركعتين، ثمّ علا المئذنة ووضع سبّابتيه في أذنيه وتنحنح، ثمّ أذّن: (الله أكبر، الله أكبر) وكان عليه السلام إذا أذّن لم يبق في بلدة الكوفة بيت إلّا اخترقه صوته..

فلمّا أذّن عليه السلام ونزل من المئذنة جعل يسبّح الله ويقدّسه ويكبّره ويكثر من الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. قال الراوي: وكان من كرم أخلاقه عليه السلام أنّه يتفقّد النائمين في المسجد، ويقول للنائم: الصلاة يرحمك الله الصلاة، قم إلى الصلاة المكتوبة عليك، ثمّ يتلو عليه السلام: "إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر"، ففعل ذلك كما كان يفعله على مجاري عادته مع النائمين في المسجد، حتّى إذا بلغ إلى الملعون ابن ملجم فرآه نائماً على وجهه، قال له: يا هذ، قم من نومك هذا فإنّها نومة يمقتها الله، وهي نومة الشيطان ونومة أهل النّار، بل نم على يمينك فإنّها نومة العلماء، أو على يسارك فإنّها نومة الحكماء، ولا تنم على ظهرك فإنّها نومة الأنبياء.

فتحرّك الملعون كأنّه يريد أن يقوم وهو من مكانه لا يبرح، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: لقد هممت بشيء تكاد السماوات يتفطّرن منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّا، ولو شئت لأنبأتك بما تحت ثيابك، ثمّ تركه وعدل عنه إلى محرابه، وقام قائماً يصلّي، وكان عليه السلام يطيل الركوع والسجود في الصلاة كعادته في الفرائض والنوافل حاضراً قلبه، فلمّا أحسّ به نهض الملعون مسرعاً وأقبل يمشي حتّى وقف بإزاء الأسطوانة التي كان الإمام عليه السلام يصلّي عليها..

كبّر الإمام تكبيرة الإحرام: الله أكبر..

قرأ الحمد والسورة، ركع: سبحان ربّي العظيم وبحمده..سمع الله لمن حَمِدَهْ..

سجد السجدة الأولى: سبحان ربّي الأعلى وبحمده..

فعند ذلك أخذ اللعين السيف وهزّه، ثمّ ضربه على رأسه الشريف..

وأخذت إلى مفرق رأسه إلى موضع السجود، فلمّا أحسّ الامام بالضرب لم يتأوّه وصبر واحتسب، ووقع على وجهه قائلاً: بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله،فزت وربّ الكعبة..

قتلني ابن ملجم، قتلني اللعين ابن اليهوديّة وربِّ الكعبة، أيّها الناس لا يفوتنّكم ابن ملجم..


وثار إليه كلّ من كان في المسجد، وصاروا يدورون ولا يدرون أين يذهبون من شدّة الصدمة والدهشة، ثمّ أحاطوا بأمير المؤمنين عليه السلام وهو يشدّ رأسه بمئزره، والدم يجري على وجهه ولحيته، وقد خُضِّبَتْ بدمائه وهو يقول: هذا ما وعد الله ورسوله، وصدق الله ورسوله.

قال الراوي: فاصطفقت أبواب الجامع، وضجّت الملائكة في السماء بالدعاء، وهبّت ريح عاصف سوداء مظلمة، ونادى جبرئيل عليه السلام بين السماء والأرض بصوت يسمعه كلّ مستيقظ: "تهدّمت والله أركان الهدى، وانطمست والله نجوم السماء وأعلام التقى، وانفصمت والله العروة الوثقى، قُتل ابن عمّ محمّد المصطفى، قُتل الوصيّ المجتبى، قُتل عليّ المرتضى، قُتل والله سيّد الأوصياء، قتله أشقى الأشقياء".

جبريل نادى بالسما ركن الهدى طاح
                         انقتل ابن عم النبي وثاني الأشباح
انضرب راسه وسال بالمحراب دمه
                       والسيف مسموم سرى في الجسد سمّه
يا حيف ما خلوه لصيامه يتمّه
                       اتكوّر بمحرابه وفزت يا هالخلق صاح

ولمّا سمعت أمّ كلثوم نعي جبرئيل.. صاحت: وا أبتاه وا عليّاه وا محمّداه وا سيّداه، ثمّ أقبلت إلى أخويها الحسن والحسين وقالت لهما: لقد قتل أبوكما..

تگللهم يخوتي راح ابوكم
               عگب عينه يخوتي اشلون بيكم
عزكم راح يا ويلي عليكم
               كهف هاي الأرامل والمساكين

فخرج الحسنان إلى المسجد وهما يناديان: وا أبتاه واعليّاه ليت الموت أعدمنا الحياة، فحُمِلَ الإمام وجاؤوا به إلى منزله..ساعد الله قلب زينب وأمّ كلثوم وباقي العلويّات اللواتي كنّ واقفات على باب الدار ينتظرنه، فلمّا رأينه بتلك الحالة بكين وقلن: وا أبتاه، وا مصيبتاه..

ونّت او نادت يالمقبلين
                     هالشايلينه اوياكم امنين
اسمع ندب واصياح صوبين
                    خوفي انگتل عودي يطيبين
لمن سمعها الحسن وحسين
                   صاحوا يزينب زيدي الونين
ابوك انطبر والراس نصين
                 صاحت او هلّت دمعة العين
يا عيد الأقبل عالمسلمين
               عگبك يبويه او جوهنه وين

وأحضروا له الطبيب، ولمّا كشف عن جرحه استعبر وبكى وقال: إعهد عهدك يا أمير المؤمنين، فإنّ الضربة وصلت إلى الدماغ..

وفي ليلة وفاته اجتمع أهله وعياله فنظر إليهم فرآهم تكاد أنفسهم تزهق من النوح والبكاء، فجرت دموعه، وقال للحسن والحسين عليهما السلام: أتبكيانِ عليَّ؟..أمّا أنت يا أبا محمّد فستُقتل مظلوماً مسموماً مضطهد، وأمّا أنت يا أبا عبد الله فشهيد هذه الأمّة وسوف تذبح ذبح الشاة..

وأقبلت إليه أم ّ كلثوم وزينب عليهما السلام وهما تندبانه وتقولان:
من للصغير حتّى يكبر؟ ومن للكبير بين الملأ؟ يا أبتاه، حزننا عليك طويل، وعبرتنا لا تبرح ولا ترقأ. فضجّ من كان حاضراً بالبكاء وفاضت دموع أمير المؤمنين عليه السلام على خدّيه، وهو يقلّب طرفه وينظر إلى أهل بيته..

هالليله ابونه امسى ابشده
                  او جرحه الذي ابراسه مضهده
والسم لعد جسمه تعده
                وابروحه اشوفه ايلوج وحده

وبعد أن تزايد ولوج الدم في جسده الشريف، واحمرّت قدماه، وكانت شفتاه تختلجان بذكر الله تعالى، وعرض عليه الأكل والشرب فأبى، وجعل جبينه يرشح عرقاً وهو يمسحه، فقال له ولده محمّد ابن الحنفيّة: أراك تمسح جبينك؟! فقال: يا بنيّ، إنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إنّ المؤمن إذا نزل به الموت عرق جبينه وسكن أنينُه..ثمّ نادى أولاده كلّهم بأسمائهم، صغيراً وكبيراً واحداً بعد واحد، وجعل يودّعهم ويقول: الله خليفتي عليكم، أستودعكم الله. وهم يبكون..

أحسن الله لكم العزاء، ألا وإنّي منصرف عنكم في ليلتي هذه، ولاحق بحبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما وعدني، ثمّ غُشي عليه، ولمّا أفاق قال: هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعمّي حمزة، وأخي جعفر، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، كلّهم يقولون: عجّل قدومك علين، فإنّا إليك مشتاقون.

ثمّ أدار عينيه في أهل بيته كلّهم، وقال: أستودعكم الله جميع، سدّدكم الله جميع، حفظكم الله جميع، الله خليفتي عليكم، وكفى بالله خليفة، ثمّ قال: وعليكم السلام يا رُسُلَ ربّي، لمثل هذا فليعمل العاملون،﴿إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ، وعرق جبينه، وما زال يذكر الله كثير، آجركم الله، ثمّ غمّض عينيه ومدّ يديه ورجليه، وقال: أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله..ثمّ قضى نحبه..

رحم الله من نادى: وا إماماه..وا عليّاه..وا شهيداه..وا مظلوماه..

لَا كَانَ يَوْمُكَ يَا عَلِيُّ فَإِنَّهُ                 يَوْمٌ بِهِ الْدِيْنُ الْحَنِيْفُ مُضَعْضَعُ
أَصْمَىْ مُصَابُكَ قَلْبَ كُلِّ مُوَحِّد           وَأَصَمَّ نَعْيُكَ كُلَّ أُذْنٍ تَسْمَعُ


1- القصيدة للسيّد حيدر الحلّي رحمه الله.

2013-04-01