يتم التحميل...

الرياء (2)

قيد الدراسة2

في الحديث القدسي: "يا ابن آدم خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي". الرياء في الصفات الحميدة والأخلاق الحسنة: الرياء في هذا الأمر وإن لم يكن بخطورة الرياء في أصول العقائد، إلا أنه قد يفضي إلى الكفر أيضاً ويوصل إليه، وبالتالي ستكون نتيجته بخطورة نتيجة الرياء في أصول الاعتقاد.

عدد الزوار: 137
في الحديث القدسي: "يا ابن آدم خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي".

ثانياً - الرياء في الصفات الحميدة والأخلاق الحسنة

الرياء في هذا الأمر وإن لم يكن بخطورة الرياء في أصول العقائد، إلا أنه قد يفضي إلى الكفر أيضاً ويوصل إليه، وبالتالي ستكون نتيجته بخطورة نتيجة الرياء في أصول الاعتقاد.

لقد أوضحنا فيما سبق أن الناس وإن كانوا جميعاً لهم صورة إنسانية ظاهرية في هذه الدنيا إلا أنهم في عالم الملكوت ستظهر صورهم الحقيقية وقد تكون غير إنسانية، وهذه الصور تابعة لقلوبهم وصفاتهم التي يتصفون بها، فالملكات الفاضلة ستشكل للإنسان صورته الإنسانية عندما يحشر معها، ما لم تتصرف النفس الأمارة بالسوء فيها. فمرحلة القلب والصفات والملكات القلبية مهمة جداً.

وما يهمنا أن نركزّ عليه الآن هو أن الإنسان قادر على ترويض نفسه وإلباس قلبه أي ثوب أراد سواء كان ثوب الصفات الفاضلة أو ثوب الصفات الرذيلة، ويمكن أن يروض نفسه برياضة شرعية صحيحة أو رياضة باطلة زائفة.

ونسأل هنا هذا السؤال:

ما هو المعيار الذي نميّز من خلاله الرياضة الصحيحة الشرعية عن الرياضة الباطلة الزائفة؟

والجواب: عن هذا السؤال سهل وبسيط، يتلخص بكلمة "خطى النفس وخطى الحق" فالإنسان الذي يتحرك بخطى النفس وكانت رياضته من أجل الحصول على قوى النفس وقدرتها وتسلطها، فرياضته هذه باطلة وسلوكه سيوصله إلى سوء العاقبة، ومن أمثال هؤلاء تظهر الدعاوى الباطلة عادة.

أما إذا كان تحرك السالك بخطى الحق وكان باحثاً عن الله تعالى، فإن رياضته هذه حقّة وشرعية وسيأخذ الله تعالى بيده ويهديه كما تنص على ذلك الآية الشريفة ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا...(العنكبوت:69) وستكون نتيجة عمله السعادة فتسقط عنه الأنا ويزول عنه الغرور والعجب.

ومن المعلوم أن خطوات الشخص الذي يعرض أخلاقه الحسنة وملكاته الفاضلة على الناس ليلفت أنظارهم إليه هي خطوات النفس، وهو بالتالي أناني معجب بنفسه وعابد لها. فإذا فتحت العيون البرزخية لترون أنفسكم سترون صورة غير إنسانية وإنما هي صورة أحد الشياطين مثلاً.

وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: "لا تسعني أرضي ولا سمائي، بل يسعني قلب عبدي المؤمن".

فليس هناك موجود يكون آية جمال المحبوب سوى قلب المؤمن، فالمتصرف في قلب المؤمن هو الله تعالى لا النفس، والمؤثر في وجوده هو المحبوب، فلا يكون قلب المؤمن متمرداً ولا تائهاً "قلب المؤمن بين إصبعي الرحمن يقلبه كيف يشاء".

خلق الله الإنسان لنفسه سبحانه

في الحديث القدسي: "يا ابن آدم خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي".

فالله تعالى اتخذ من قلبك منزلاً له، فأنت وقلبك من النواميس والحرمات الإلهية، والله تعالى غيور، فلا تهتك حرمته وناموسه إلى هذا الحد، ولا تدع الأيادي تمتد إلى حرمه وناموسه. احذر غيرة الله وإلا فضحك في هذا العالم بصورة لا تستطيع إصلاحها مهما حاولت.

أتهتك في قلبك وفي محضر الملائكة والأنبياء العظام ستر الناموس الإلهي وتقدم الأخلاق الفاضلة التي تخلّق بها الأولياء إلى الحق إلى غير الحق؟ وتمنح قلبك لخصم الحق؟

كن حذراً من الحق تعالى فإنه لن يكتفي بهتكك في الآخرة وفضحك أمام الأنبياء العظام والملائكة المقربين بل سيفضحك في هذا العالم أيضاً ويبتليك بفضيحة لا يمكن تلافيها!

إن الحق تعالى ستار ولكنه غيور أيضاً، إنه أرحم الراحمين ولكنه أشد المعاقبين أيضاً، يستر ما لم تتجاوز الحد، فقد يؤدي عملك إلى تغليب الغيرة على الستر.

فعد إلى الله فإنه رحيم وهو يبحث عن ذريعة لإفاضة الرحمة عليك، وإذا توجهت إليه فإنه يستر بغفرانه معاصيك وعيوبك الماضية ويجعلك صاحب فضيلة ويظهر فيك الأخلاق الكريمة ويجعلك مرآة لصفاته تعالى.

فيا أيها العزيز، أنت أعرف بنفسك فاختر إما هذا وإما ذاك، فالله غني عنا وعن كل المخلوقات إنه غني عن إخلاصنا وإخلاص كل الموجودات.

ثالثاً - الرياء في المناسك والعبادات

إن هذا النوع من الرياء هو الأكثر وجوداً والأوسع شيوعاً بين عامة الناس، لأن الناس ليسوا من أهل النوعين الأولين عموماً حتى يدخل الشيطان من تلك الأبواب، ولكن بما أن معظم الناس متعبدين وهم من أهل العبادات والمناسك الظاهرية، فيحاول أن يتلاعب الشيطان بهم من خلال هذا الأمر. كما أن مكائد النفس في هذه المرحلة أكثر.

فعلى الذين يملكون هذا الجانب فقط، ولا زاد لهم سوى زاد الأعمال، عليهم أن يكونوا حذرين كل الحذر لئلا يفقدوا لا سمح الله زادهم ويضيعوا طريقهم ويصبحوا من أهل جهنم.

الرياء أمر دقيق وخفي

كثيراً ما يكون الشخص المرائي غافلاً عن كون الرياء قد تسرب إلى أعماله واستولى عليها، والسبب في ذلك يعود إلى أمرين:

الأول: إن مكائد الشيطان والنفس الأمارة من الدقة والخفاء، وصراط الإنسانية من الرهافة والظلمة إلى درجة لا يتنبه الإنسان إلى ما هو فيه إن لم يكن حذراً جداً.

الثاني: لما كان الإنسان مجبولاً على حب النفس فإن حجاب حب النفس يستر عنه معايب نفسه.

ولنذكر مثالاً على ذلك:

إن طلب العلم ودراسة العلوم الدينية هي من الطاعات والعبادات المهمة، ولكن يمكن أن يتسلل الشيطان من خلال ذلك، فتجد الإنسان يرغب أن يتفرد في استيعاب معضلة علمية وحلها لدى محضر العلماء والرؤساء والفضلاء ويبتهج أكثر كلما كان توضيحه للمسألة العلمية أحسن، ولفت انتباه الحاضرين أكثر، وتراه يحب أن ينتصر على من يناظره. إنه يشعر بنوع من التفوق العلمي، وإذا اقترن ذلك بتأييد شخصية علمية لكان نور على نور!

إن هذا المسكين غافل عن أنه أحرز هنا موقعاً لدى الفضلاء والعلماء ولكنه سقط من عين ربهم وملكهم، وأن مصير عمله أصبح بأمر الحق المتعالي في سجين.

هذا الرياء الذي قد يمتزج بمعاصي أخرى أيضاً كفضح المؤمن وإيذاءه وإذلاله، وأحياناً التجرؤ على المؤمن وهتكه، وكل واحدة من هذه الأمور كافية لإدخال مرتكبها إلى جهنم.

فإذا اكتشفت أنك وقعت في الرياء تأتي النفس الأمارة لتلقي شباك كيدها فتقول: إن هدفي هو إعلان الحكم الشرعي وإظهار كلمة الحق وهو من أفضل الطاعات، وليس المقصود إظهار العلم وحب الظهور.

ولتبطل كيد نفسك اسألها

لو كان زميلي المساوي لي في الدرجة العلمية هو الذي قال ذلك الحكم الشرعي وهو الذي حل تلك المعضلة العلمية وكنتِ أنتِ المغلوبة هنا، أكان على حد سواء عندكِ؟ إذن فاعلموا أنكم مراؤون وأن عملكم في سجين بحسب الرواية.

وهكذا سائر أعمالنا، فهي تحت تصرف الشيطان الملعون الذي ينزل في كل قلب كدر ملوث، ويحرق الأعمال الظاهرة والباطنة ويجعلنا من أهل النار عن طريق الأعمال الحسنة.

من علامات الرياء:

في جملة وصايا النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام: "ثلاث علامات للمرائي: ينشط إذا رأى الناس، ويكسل إذا كان وحده، ويحب أن يحمد في جميع أموره".

إن الرياء هو سيئة خفية تغيب حتى عن الإنسان نفسه، فيكون باطنه من أهل الرياء وهو يتوهم عمله خالصاً، ولهذا ذكروا للرياء علامات، وبواسطة العلامة يعرف الإنسان سريرته فيبادر لعلاجها.

والعلامة التي ذكرتها الرواية أن الإنسان يشاهد في نفسه عزوفاً عن العبادات عندما يكون لوحده، وإذا اشتغل بالعبادات في تلك الحالة يحس بالكلفة أو تكون مجرد عادة من دون توجه وإقبال، ولكن عندما يحضر في المساجد والمجامع وفي الأماكن العامة يؤدي تلك العبادة وظاهره ملي‏ء بالنشاط والسرور وحضور القلب ويميل إلى إطالة الركوع والسجود ويؤدي المستحبات أيضاً بشكل حسن...

على الإنسان أن يسأل نفسه عن سبب هذا التفاوت بين الحالتين؟ ربما تأتي النفس الأمارة لتزين له وتموّه عليه قائلة: يشتد النشاط في المسجد وفي الجماعة لأنها أكثر استحباباً وأعظم ثواباً فبسبب شدة الاستحباب وعظم الثواب يزداد اهتمامك بها. وعندما ترى أنك حتى خارج المسجد وفي صلاة الفرادى تفعل ذلك أمام الناس تأتي لتقول لك: يستحب أداء العمل أمام الناس بصورة حسنة لكي يقتدي به الآخرون ويرغبون بالدين! وهكذا تخدع النفس هذا الإنسان المسكين لتبعده عن المبادرة إلى العلاج. إن النفس تظهر المعصية بصورة العبادة والتكبر والغرور على أنه ترويج للدين!

فيمكن للإنسان أن يسأل نفسه: إن الإتيان بالمستحبات في الخلوات مستحب فلماذا ترغب النفس بأدائها في العلن؟ لماذا تراه في ليالي القدر بين جموع الناس يبكي ويخشع ويصلي مائة ركعة ويقرأ دعاء الجوشن وأجزاء من القرآن المجيد دون أن يتلكأ أو يحس بالتعب؟ ولماذا يرغب بمدح الناس على كل عمل يعمله؟ فتجد أذنه متوجهة إلى ألسن الناس وقلبه عندهم، علّه يسمع كلمة: ما أشد تدين والتزام هذا الإنسان! إذا كان الله تعالى هو الهدف فما هذا الميل المفرط نحو الناس؟ انتبه فإن هذا الميل ليس بعيداً عن الرياء الخبيث، فاسعَ ما استطعت إلى إصلاح نفسك من أمثال تلك الميول ما دام الإصلاح ممكناً.

اختلاف مراتب الناس:

إن لكل واحدة من الصفات التي يتصف بها الإنسان سواء كانت حسنة أو سيئة درجات ومراتب وكذلك الرياء فله درجاته ومراتبه، ويختلف قبحها من شخص لآخر، فلرب مرتبة تعتبر نقصاً عند أولياء الله تعالى والعرفاء بالله لا تعتبر نقصاً عند غيرهم بل قد تكون بمعنى من المعاني كمالاً بالنسبة إليهم وهكذا تكون حسنات فئة سيئات لفئة أخرى.

فالإخلاص في جميع مراتب الرياء هو من مختصات أولياء الله، والآخرون لا يشاركوهم في هذه المرتبة، واتصاف الناس بدرجة من الإخلاص ليس نقصاً لهم بحسب المقام الذي هم فيه، ولا يضر بإيمانهم وإخلاصهم، فمثلاً تميل نفوس عامة الناس بحسب الغريزة والفطرة إلى أن تظهر خيراتها أمام الناس وإن لم يقصدوا أن يظهروها، ولكن نفوسهم مفطورة على هذا الميل.

وهذا ليس موجباً لبطلان العمل أو الشرك أو النفاق أو الكفر، وإن كانت هذه الحالة نفسها نقص عن الولي وشرك ونفاق بالنسبة للعارف بالله. ومرتبة الإخلاص في جميع المراتب والتنزه عن جميع أنواع الشرك هو أول مرتبة ومقام من مقامات الأولياء.
2009-08-19