العبادة
دروس من نهج البلاغة
عندما نريد أن نتكلم عن العبادة فلن نجد بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله الذي كان يعبد اللَّه عزَّ وجلّ عبادة لم يعبدها أحد قبله ولا بعده غير علي عليه السلام لنستلهم من كلامه دروس العبادة وحقيقتها.
عدد الزوار: 293
مقدمة
عندما نريد أن نتكلم عن العبادة فلن نجد بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله الذي كان يعبد اللَّه عزَّ وجلّ عبادة لم يعبدها أحد قبله ولا بعده غير علي عليه السلام لنستلهم من كلامه دروس العبادة وحقيقتها وهو الذي يروى أنه كان يسجد ويطيل سجوده ويغمى عليه حال سجوده حتى يظن أنه قد مات، وهو الذي كان إذا وقف بين يدي اللَّه يغيب عن نفسه، حتى يتم إخراج السهم من بدنه دون أن يشعر في حال العبادة. وهو الذي لم تكن العبادة عنده مجرد أوقات محدودة للذكر والورد والصلاة والدعاء، بل كانت خضوعاً للَّه عزَّ وجلّ وخشوعاً وطاعة بالمال والنفس والكلمة والحكم والجهاد والمعاملة، فكانت العبادة حياته وكل حركاته وسكناته.
هذا ما نجده في سيرة أمير المؤمنين علي عليه السلام وفي كلامه، فلنلقي الضوء على هذا المفهوم من كلامه عليه السلام في نهج البلاغة.
العبادة سنة تكوينية عامة
يبين الإمام عليه السلام في ما روي عنه أن العبادة في بعض مراتبها ليست أمراً دينياً فرضه اللَّه والدين بشكل عام أو الإسلام بشكل خاص، وإنما حالة تكوينية تعيشها كل المخلوقات ومنها الإنسان ولا يخلو منها أحد.
فالإنسان أولاً هو خاضع لنظام الخلق شاء أم أبى ولا يستطيع أن يتجاوز هذا النظام وهذه السنة الإلهية الكونية المسيطرة على الوجود بجميع نواحيه، وعلى جميع الموجودات من الملائكة والبشر والحيوانات والنبات والجماد، ولا فرق في ذلك بين البشر وغيرهم والمؤمن باللَّه وغيره.
لذلك وبهذا المعنى الذي هو أحد معاني العبادة لا يستطيع الإنسان أن يخرج نفسه من حد العبادة لواضع هذا النظام في سلوك الأسباب الموضوعة في هذا الكون للوصول إلى الغايات، وإلا فإنه لن يصل إليها، لذلك يجد نفسه مضطراً بل مجبراً على السير في طريقها. من هنا فإن الإنسان عندما يريد أن يصعد إلى مكانٍ عالٍ أو ينزل إلى مكانٍ دانٍ فإنه سيستخدم الوسيلة التي توصله إلى غايته في كل الطريقين، كذلك إذا أراد أن يحصل على الحرارة أو البرودة، فإنه سيجد أسباباً خاصة توصل إلى أحدهما غير الأسباب التي توصل إلى الآخر، ولا بد أن يسلك لكل غاية سبيلها ويؤمن لها أسبابها.
يقول أمير المؤمنين علي عليه السلام:"فإنما أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب لا رب غيره، يملك منا ما لا نملك من أنفسنا"1.
إذن نحن مخلوقون لهذا الخالق وعليه نحن مملوكون لهذا الرب ولذلك فنحن عبيد له، فهو يملك منا ومن أنفسنا ما لا نملكه من هذه الأنفس من وجودها وموتها وحياتها وكثير من الشؤون التي تعطينا الحياة واستمراريتها في عالم المادة والشهادة أو في عالم الغيب والملكوت. ما لا يعد ولا يحصى بل لا يستطيع تصوره أحد.
وعنه عليه السلام:"الحمد للَّه المعروف من غير رؤية، والخالق من غير منصبة2، خلق الخلائق بقدرته، واستعبد الأرباب بعزته3... 4.
إن ذكر الخالقية قبل ذكر الاستعباد في كلامه عليه السلام كأنه للتعليل، حيث أن الخالق هو المالك لهذا العبد والذي بيده وجوده وعدمه، فهو الذي أحدثه وخلقه من العدم وأعطاه الوجود لذلك سيكون هو المستعبد له مهما علت مكانته وقدرته وسلطته فكل من ادعى ربوبية في عالم الخلق هو مستعبد للَّه عزَّ وجلّ لأنه كما مر لا يملك من الأسباب إلا ما ملكه الرب العظيم رب الأرباب العزيز.
العبودية سنة اجتماعية
ثم إن هذه العبودية بمرتبتها الثانية التي هي سنة جارية لن يخرج منها الإنسان مهما جهد، فإنه وإن ترك عبادة اللَّه عزَّ وجلّ والخضوع له، لكنه فضلاً عن كونه لن يستطيع أن يخرج من تحت سلطة الأسباب التكوينية، فإنه كذلك لن يستطيع أن يخرج من عبادة غير اللَّه من البشر، فإن معنى العبادة الذي سيأتي الكلام عنه يصدق على كل إنسان حتى من لا يعبد اللَّه، فإنه يكون عبداً للدنيا، أو للأمير والسلطان، أو لشهوات نفسه.
فالإنسان إذن عبد وإنما هو يتقلب بين معبودين وأرباب مختلفين ويتخير بينهم، وبتعبير آخر هو مضطر في موضوع العبادة وهو قانون لا يشذ فيه أحد من البشر، لأن الإنسان في حياته يختار طريقه وقانونا يعيش على أساسها تحكم شؤونه وحركاته ومواقفه تجاه جميع ما يواجهه في حياته. ويخضع لهذا القانون ويطبق طريقته ويعمل على أساسه لذلك كل من كان واضعاً لهذا القانون فإنه سيكون رباً له يطيعه ويلتزم بما يحكم.
عن أمير المؤمنين عليه السلام:"ألستم في مساكن من كان قبلكم أطول أعماراً وأبقى آثاراً، وأبعد آمالاً، وأعدَّ عديداً، وأكثف جنوداً، تعبدوا للدنيا أيَّ تعبُّد، وأثروها أي إيثار، ثم ظعنوا5 عنها بغير زادٍ مبلِّغ6 ولا ظهر قاطع7"8.
هؤلاء كما نرى في ما روي عن الإمام عليه السلام قد تعبُّدوا للدنيا بدل أن يتعبدوا للَّه عزَّ وجلّ، فاختاروا الدنيا وآثروها ولكن لم يخرجوا عن سنة العبادة ونظامها، وإن تركوا عبادة اللَّه فبقوا عبيداً لرب آخر ومعبود آخر إلا أنه لا يبقى ولا يدوم ولن يأخذوا منه زاداً يكفيهم لكي يبلغوا آخر سفرهم ويوصلهم إلى مقصدهم، ولم يكن هذا المعبود أو هذه العبادة بالمركب القوي الذي يستطيع أن يقطع بهم طريق الآخرة فهو مركب ينتهي به الأمر عند بداية سفر الآخرة، فهو مركب غير قاطع.
إذن الإنسان يتقلب بين عبادة للَّه وعبادة لغيره وعليه هو أن يختار المعبود الذي إذا عبده كانت عبادته زاداً مبلغاً وظهراً قاطعاً.
عبادة الله تعالى هي الفوز
الجن والإنس والملائكة والأنبياء وغيرهم عبدوا اللَّه واستعبدهم سبحانه وتعالى وهم عبدوه وتركوا عبادة غيره ففازوا، ولم يخلُ منهم زمن ولا دهر ولا مكان ولا مقام في عالم الغيب والشهادة.
عنه عليه السلام: "من ملائكة أسكنتهم سماواتك... وإنهم على مكانهم منك ومنزلتهم عندك واستجماع أهوائهم فيك وكثرة طاعتهم لك، وقلة غفلتهم عن أمرك... لو عاينوا كنه ما خفي عليهم منك لحقّروا أعمالهم، ولزروا على أنفسهم، ولعرفوا أنهم لم يعبدوك حق عبادتك..."9.
وعنه عليه السلام:"ألا ترون أن اللَّه سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم صلوات اللَّه عليه، إلى الآخرين من هذا العالم... ولكن اللَّه يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبدهم بأنواع المجاهد.."10.
وعنه عليه السلام:"وما برح للَّه وعزت آلاؤه في البرهة بعد البرهة، وفي أزمان الفترات عباد ناجاهم في فكرهم..."11.
وعنه عليه السلام يتكلم عن النبي صلى الله عليه وآله: "أمره بتقوى اللَّه في سرائر أمره وخفيات عمله... فقد أدى الأمانة، وأخلص العبادة..."12.
العبادة هي سر ارسال الأنبياء صلوات اللَّه عليهم
الحكمة من إرسال الأنبياء صلوات اللَّه عليهم هي دلالة الناس وإرشادهم وهدايتهم إلى عبادة اللَّه عزَّ وجلّ، ولولا ذلك لما توصل أحد إلى هذه العبادة ولما عرف أحد كيف يعبد اللَّه عزَّ وجلّ ومن أي طريق، ولضلوا ولاختلفوا واقتتلوا أشد مما اقتتلوا فمع إرسال عدد كبير من الأنبياء صلى الله عليه وآله نجد أن التاريخ قد فاض بالدماء بحوراً بسبب الاختلاف والضلالة في السبل وعدم معرفة سبيل العبادة الأصلح للبشرية.
عنه عليه السلام: "فبعث اللَّه محمداً صلى الله عليه وآله بالحق ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته، ومن طاعة الشيطان إلى طاعته، بقرآن قد بينه وأحكمه..."13.
نلاحظ كلامه عليه السلام "من عبادة الأوثان إلى عبادته"، فالإنسان دائماً يسعى لأن يكون عبداً لما يراه يحقق له أهدافه ويجعله أمامه يخضع له ويعبده ويجعله ربه ومدبر أموره، فلو لم يرسل اللَّه عزَّ وجلّ الأنبياء لخضع الإنسان حتى للحجارة كما فعل عبدة الأوثان والحجر هو أدنى مخلوق في سلسلة مراتب المخلوقات ومع ذلك عبده الإنسان عندما لم يجد من ينير له طريقه. فلو كان الإنسان يستطيع أن يستدل على طريق العبادة وسبيلها دون الأنبياء ولما كان هناك حكمة من إرسالهم.
فيمكن أن يستفاد من كلام الإمام عليه السلام أمران:
الأول: أن معرفة اللَّه وإن كانت ممكنة من خلال العقل، إلا أن معرفة سبل عبادته ومنهاج طاعته غير ممكنة، إلا من خلال الأنبياء وهذا دليل على ضرورة النبوة.
الثاني: أن العباد بما أنهم لن يستطيعوا أن يخرجوا من تحت نظام العبادة وشموليته، فلا بد أن يفتشوا ويتعرفوا على العبادة الصحيحة، وبما أنه لا طريق إلى معرفتها إلا من خلال الأنبياء عليهم السلام، إذن لا بد من الالتزام بطاعتهم وبأمرهم، وهذا دليل على ضرورة الالتزام بولاية وطاعة أولياء اللَّه عزَّ وجلّ.
للمطالعة
العبادة
قال العلامة المجلسي رحمه اللَّه: "عن حبّة العرني، قال: بينا أنا ونوف نائمين في رحبة القصر إذ نحن بأمير المؤمنين عليه السلام في بقيّة من الليل واضعاً يده على الحائط شبيه الواله، وهو يقول: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾(البقرة:164).
قال: ثم جعل يقرأ هذه الآيات... فقال لي: أراقد أنت يا حبّة، أم رامق؟
قال: قلت: بل رامق، هذا أنت تعمل هذا العمل فكيف نحن؟ فأرخى عينيه فبكى، ثم قال لي:
يا حبّة، إن للَّه موقفاً، ولنا بين يديه موقفاً لا يخفى عليه شيء من أعمالنا.
يا حبّة، إن اللَّه أقرب إليّ وإليك من حبل الوريد.
يا حبّة، إنه لن يحجبني ولا إياك عن اللَّه شيء.
قال: ثم قال: أراقد أنت، يا نوف؟
قال: قال: لا، يا أمير المؤمنين ما أنا براقد، ولقد أطلت بكائي هذه الليلة، فقال:
يا نوف، إن طال بكاؤك في هذا الليل مخافة من اللَّه تعالى قرّت عيناك غداً بين يدي اللَّه عزَّ وجلّ.
يا نوف، إنه ليس من قطرة قطرت من عين رجل من خشية اللَّه إلا أطفأت بحاراً من النيران.
يا نوف، إنه ليس من رجل أعظم منزلة عند اللَّه من رجل بكى من خشية اللَّه، وأحبّ في اللَّه، وأبغض في اللَّه.
يا نوف، إنه من أحبّ في اللَّه لم يستأثر على محبّته، ومن أبغض في اللَّه لم ينل مبغضيه خيراً، عند ذلك استكملتم حقايق الإيمان.
ثم وعظهما وذكّرهما، وقال في أواخره: "فكونوا من اللَّه على حذر، فقد أنذرتكما".
ثم جعل يمر وهو يقول: "ليت شعري في غفلاتي أمعرض أنت عني، أم ناظر إلي، وليت شعري في طول منامي وقلّة شكري في نعمك عليّ ما حالي؟".
قال: فواللَّه، ما زال في هذا الحال حتى طلع الفجر 14.
*قبسات من نهج البلاغة، إعداد ونشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ط1، كانون الاول 2004م، ص29-37.
2- المنصبة: التعب.
3- العزة: الأرض العزاز الأرض الصلبة التي لا تخترق.
4- عبده، محمد، شرح نهج البلاغة، خطبة 183.
5- ظعنوا: رحلوا عنها.
6- زاد كافٍ يبلغ بهم مقصدهم.
7- ظهر قاطع: أي مركب يقطع بهم الطريق ويوصلهم.
8- عبده، محمد، شرح نهج البلاغة، خطبة 111.
9- ن.م، خطبة 9.
10- م.س، خطبة 192.
11- ن.م، خطبة 222.
12- ن.م، كتاب 26.
13- ن.م، خطبة 147.
14- المجلسي، بحار الأنوار، ج41، ص22. 2009-08-18