يتم التحميل...

الآفات الثقافيةللأمربالمعروف والنهي عن المنكر

العلاقة مع المجتمع

نتحدث في هذا المقال عن الآفات الثقافية التي تؤدي إلى التقصير في فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..التأثر بالدعاية والغزو الثقافي:إن مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد تعرض للكثير من التشويه، من خلال أمرين

عدد الزوار: 182

مقدمة
نتحدث في هذا المقال عن الآفات الثقافية التي تؤدي إلى التقصير في فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..
1- التأثر بالدعاية والغزو الثقافي

إن مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد تعرض للكثير من التشويه، من خلال أمرين: الأول هو سوء ممارسة بعض الحكام الذين تسلطوا على مقدرات الحكم في البلاد الإسلامية معطين لحكمهم اللون والصبغة الإسلامية فأسسوا أجهزة تحت مسميات مختلفة لتقوم بممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصورة فيها الكثير من التشويه مما انعكس على هذه الفريضة مفهوماً وأحكاماً، وما زالت حتى اليوم بعض الدول والجماعات المنتمية إلى الإسلام تسي‏ء بممارساتها غير الواعية إلى الإسلام عموماً وإلى هذه الفريضة خصوصاً.
ولذا ترى في العصر الحالي أن مجرد كتابة مقال أو إقامة ندوة أو غير ذلك تحمل اسم الفريضة تعّرض صاحبها لحملات مضادة وهجومات قاسية نتيجة هذا التشويه الحاصل، والأمر الثاني هو حملات الغزو الثقافي المستمرة منذ فترة طويلة والتي تهاجم الدين وكل ما هو ديني على خلفية التاريخ السي‏ء لممارسات بعض رجال الكنيسة في أوروبا في القرون الوسطى.
هذان الأمران تعاضدا ليوجدا صورة قاتمة لفريضة هي من أهم وأقدس الفرائض ولمفهوم هو من أهم المفاهيم، ولدور حيوي لهذا المفهوم، حيث شكل هذان الأمران مادة مهمة لشن حملات الدعاية المعادية للدين الإسلامي ولشرعه الحنيف، ما أدى إلى تأثر كثير من أبناء الأمة بهذه الدعاية فقعدوا عن ممارسة هذه الفريضة.
2- قضية الحرية

واجه المسلمون في أوائل عهد الإسلام وبالتحديد بعد أن آلت الحكومة إلى بني أمية مسألة فكرية تلغي دور الأمة ومسؤوليتها عن عملية الإصلاح والقيام بمقتضياتها. وهذه المسألة هي مسألة الجبر التي روج لها معاوية بن أبي سفيان ليبرر تسلطه على أمة الإسلام وليبرر تصرفاته. يقول القاضي عبد الجبار: "قال معاوية إن كل ما يفعله هو بقضاء اللَّه ورضاه، كي يجعل هذه العقيدة ذريعة لكل ما يفعله ولكي يلقن الناس أنه يفعل الصواب وأن اللَّه جعله إماماً وأوكل إليه الولاية".
وقد تبع معاوية في ذلك من تلاه من خلفاء بني أمية، حيث إن الاعتقاد بالجبر يشكل قيداً يُلغي مسؤولية الناس والحاكم على السواء تجاه الفساد وعن الإصلاح ويقتلع نبتة الحرية من جذورها، وهذه الفكرة تشكل تفريطاً واضحاً بمسألة الحرية والاختيار والمسؤولية.
فالذي يسلّم بقضية الجبر سيكون مسلوب الإرادة ومعفياً من المسؤولية، مع أن الإسلام بنصوصه الشريفة من القرآن إلى السنة إلى السيرة العملية للرسول صلى الله عليه وآله وسلم يفيض بما يؤكد مسؤولية الإنسان بداية عن نفسه ومتعلقاتها: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم إِنّ‏َ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلّ‏ُ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً(الإسراء:36).
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة(التحريم:6).
وذلك لإمتلاك الإنسان مقومات الاختيار: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُوراً(الإنسان:3).
وهذه المسؤولية للإنسان ترتب اتجاهها دوراً ووظيفة هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلا كانت العاقبة والعقوبة على التقصير.
﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ(الروم:41).
فإذن القول بالجبر هو تفريط بالمسؤولية والحرية.
وفي عصرنا الحالي ظهر جانب آخر يتعلق بقضية الحرية وهو الجانب الإفراطي، الذي يعطي للإنسان حرية أن يفعل ما يشاء دون حدود أو مقيدات، بحيث يتم اطلاق العنان للفرد بأن يفعل ويقول ويروج ما يشاء ويدعو الآخرين لمشاركته في ذلك تحت عنوان حرية الرأي وحرية التعبير والحرية الشخصية ولو انتهك المقدسات وأشاع المحرمات وخرب النفوس ما لم يتعد على أبدان الآخرين وممتلكاتهم، بحيث أصبح الفرد هو المحور.
وقد وصل هذا الأمر إلى حد اعتبار من يقوم إزاء هذا العمل بحركة أو كلمة مناهضاً للحرية ومتخلفاً.
فلو رأيت منكراً يُفعل يفترض أن لا تتدخل بإنكار ذلك وإلا اعتبرت منتهكاً لحرية الآخرين، وقد اقتنع بعض المسلمين بذلك إلى حد أن بعضهم إذا رآك تتدخل يقول لك إن للإنسان حرية أن يفعل ما يشاء طالما أنه لا يتعرض لحرية الآخرين...

أولوية اصلاح وبناء الذات
يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلّ‏َ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ(المائدة:105)، لقد التقط كثيرون هذه الآية ليجعلوها يافطة ترفع في وجه الداعين للقيام بأداء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جهة، وليقنعوا القائمين بها بعدم الإكتراث بما يرون من انحرافات لأن مسؤوليتهم هي عن أنفسهم.
والحقيقة هي أننا نوافق على أن مسؤولية الإنسان هي أولاً عن نفسه وهو مكلف أولاً باصلاحها وبنائها والنأي بها عن موارد الفساد. لكن هناك فرقاً واضحاً بين أن يكون بناء واصلاح الذات أولوية، وبين أن تكون حدود مسؤولية الإنسان هي حصراً عن نفسه. فالآية لا تدل على حصر المسؤولية بل قد تدل على الأولوية والأولوية لا تنفي المسؤولية عن غير النفس من الأنفس.
ولو فهمت الآية بهذا الشكل المنحرف لكان من لوازمها نسخ الآيات والأحكام التي يكون موضوعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولما عاد من معنى لهذه الفريضة.
فمعنى الآية أن على المؤمنين ألا يتأثروا بكون كثير من الناس يسيرون في طريق الضلال فيصابوا بالإحباط أو اليأس نظير الحديث المروي عن أمير المؤمنين عليه السلام: "لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله"1.
أو لنفي تحميل المؤمنين تبعات وعواقب عدم تأثر المنحرفين بدعواتهم للهدى والصلاح طالما أنهم أدوا ما عليهم تجاه مجتمعهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا إنها تنفي مسؤولية المؤمنين عن القيام بواجب الأمر والنهي بل هي تؤكد القيام بهما بغض النظر عن النتيجة. وربما يكون معنى الآية أن الإنسان إذا أدى واجبه بدعوة الناس إلى الإيمان وبذل جهده ولم يوفق فإنه لا يتحمل بعد ذلك إلا المسؤولية عن نفسه. وهناك صورة أخرى لأولوية اصلاح النفس تتعلق بجانب حماية النفس من أمراض المجتمع بالابتعاد عن المجتمع وعزل النفس خوفاً من أحد أمرين: الأول الإصابة بعدوى الفساد وارتكاب الذنوب. والثاني الأذية الحاصلة من رؤية ومعاشرة أهل المعاصي.
وهذا تخلٍ واضح عن مسؤولية الإنسان المؤمن عن مجتمعه الذي لا يقل شأناً عن مسؤوليته عن نفسه. فالذين ذهبوا إلى هذا الأمر ظنوا أن هناك تعارضاً بين اصلاح النفس واصلاح الغير ولذا اختاروا اصلاح النفس على اصلاح الغير لكن الحقيقة أنه لا تعارض بينهما بل إن هناك تكاملاً بينهما فبقدر ما يسعى الإنسان لإصلاح الآخرين ويقدم نفسه بشكل عملي كنموذج بقدر ما يصلح نفسه ويوجد لها البيئة الصالحة لبنائها ونموها.
والذين يرون التعارض هم أناس محرومون من الرؤية الإسلامية الصحيحة للإسلام ودوره وللمؤمن ودوره، ليغدو الإسلام ديناً ذا نظرة ورؤية فردية فيما الحقيقة هي خلاف ذلك فإن للإسلام رؤية اجتماعية وإنسانية دون إهمال الجهة الفردية من حيث البناء والإصلاح. فالإسلام يريد بناء الفرد النموذجي والمجتمع النموذجي والإنسانية النموذجية، وكلها أهداف تتكامل وتتلاقى ولا تتعارض وتتضارب.

مفهوم انتظار الفرج
قد نتصور بدواً مسلكان لانتظار الفرج، وهو ظهور الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف لتحقيق حلم الأنبياء والبشرية من إقامة حكومة العدل الإلهي وبسط سلطانها على طول الأرض وعرضها، أحدهما ايجابي وهو يعني أن التمهيد لظهوره المبارك يكون بالعمل والسعي في اعداد النفس واصلاحها واصلاح من يمكن اصلاحهم من الناس، وخوض غمار التغيير، ومواجهة الإنحراف والظالمين، والدفاع عن قضايا الإسلام والمحرومين والمظلومين.

وثانيهما سلبي ملخصه: أن الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف لا يظهر إلا بعد امتلاء الدنيا فساداً، ولذا فالعمل على الإصلاح سيؤدي إلى منع انتشار الفساد والظلم مما يؤدي إلى تأخير الظهور المبارك للإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف.
وقد كان الإمام الخميني قدس سره يشعر بخطورة هذه الأفكار ومخالفتها لضرورة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول: "كان البعض يقولون بأن العالم يجب أن يمتلئ بالمعاصي كي يظهر صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه ونحن يجب أن لا ننهى عن المنكر ولا نأمر بالمعروف أيضاً كي يفعل الناس ما يشاؤون لتزداد المعصية ويقترب الفرج".
"كانت جماعة أخرى تقول يجب توسعة دائرة المعاصي ودعوة الناس لارتكابها كي تمتلئ الدنيا بالظلم والجور فيشرفنا عجل الله تعالى فرجه بظهوره... ولكن هل يمكن بتوهمات كهذه أن نصرف النظر عن أصل ضروري وديني هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
وهل اعتبر أحد من علماء الإسلام وفقهاء الشيعة أن تكليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ساقط في عصر غيبة ولي العصر عجل الله تعالى فرجه، ولو أن لدينا فرضاً رواية حول هذا الأمر هل يمكن الاطمئنان إلى صحتها؟
".
ولذا فقد اعتبر الشهيد مطهري قدس سره هذا اللون السلبي من الانتظار هداماً والآخر بناءاً.
قال قدس سره: "انتظار الفرج على نحوين: الانتظار البناء المحرك والباعث على التدين وتحمل المسؤولية، والانتظار الهدام المانع من الحركة المؤدي إلى الشلل...".

خاتمة
تحصّل مما سبق أن لا تعارض بين بناء النفس والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما أنه لا توجد منافاة بين أولوية إصلاح النفس وتربيتها والقيام بهذه الفريضة بل هناك تكامل.
وأن عملية التمهيد لظهور الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف تمر حتماً بإحياء هذه الفريضة وتحمل المسؤولية عبرها تجاه النفس والمجتمع والإنسانية ولا يتم ذلك بالإنعزال عن المجتمع لغرض بناء النفس، بل على العكس فإن بناء وتربية وإصلاح النفس في داخل المجتمع يكسب النفس مناعة تجاه الفساد ومظاهره، ويكون حافزا على إصلاح نفسه لأنه يجعل الإنسان أمام تحدٍ له علاقة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو تقديم نموذج الإنسان الصالح المؤثر من خلال سلوكه وفعله وليس من خلال قوله فقط.


*حياة المجتمع، إعداد ونشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ط1، نيسان 2006م ، ص69-76.
1- نهج البلاغة، ج‏2، ص‏181. 2009-08-15