الدعوة إلى الأخلاق بصمت!
العلاقة مع النفس
عن الإمام الصادق عليه السلام: "أوصيكم بتقوى اللَّه والعمل بطاعته واجتناب معاصيه، وأداء الأمانة لمن ائتمنكم وحسن الصحابة لمن صحبتموه، وأن تكونوا دعاة لنا صامتيين، فقالوا يا ابن رسول اللَّه وكيف ندعو إليكم ونحن صموت؟..
عدد الزوار: 306
عن الإمام الصادق عليه السلام: "أوصيكم بتقوى اللَّه والعمل بطاعته واجتناب معاصيه، وأداء الأمانة لمن ائتمنكم وحسن الصحابة لمن صحبتموه، وأن تكونوا دعاة لنا صامتيين، فقالوا يا ابن رسول اللَّه وكيف ندعو إليكم ونحن صموت؟ قال: تعملون بما أمرناكم به من العمل بطاعة اللَّه، وتتناهون عن معاصي اللَّه وتعاملون الناس بالصدق والعدل، وتؤدون الأمانة وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ولا يطّلع الناس منكم إلا على خير، فإذا رأوا ما أنتم عليه عملوا أفضل ما عندنا..."1.
أ- مع الوصية
من ضمن الأمور التي تقدمت في هذه الوصية الشريفة الدعوة لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصمت حيث قال عليه السلام: "وأن تكونوا دعاة لنا صامتين".
ثمّ بيّن عليه السلام ما معنى الدعوة بصمت بعدما سأله أصحابه عن ذلك لأن الذي عهدوه إن الدعوة والبيان إنما يكونان باللسان وليس بالكفّ عن الكلام والدعوة لهم عليهم السلام هي الدعوة إلى اللَّه لأن معناها العمل بما أمروا به من طاعته والانتهاء عما نهى عنه من المحرمات والمآثم.
وبالامكان اطلاق اسم الدعوة العملية على ذلك في قبال الدعوة القولية بمعنى أن يكون العمل الصادر من اتباع آل البيت عليهم السلام داعياً قوياً للآخرين للركوب في سفينتهم والتشرف بولايتهم، أما لو كان الإنسان موالياً لهم بلسانه لكن أفعاله بأجمعها أو بعضها لا تنبىء عن صدق الولاء فيأتي بما يكرهونه وما يكرهونه يكرهه اللَّه تعالى فهو ممن يؤذيهم بفعله وإن كان يظهر المودة والانقياد لأمرهم في قوله.
وعن هذا الصنف يحدثنا مولانا الباقر عليه السلام بعدما بيّن من هم أتباع آل البيت عليهم السلام وشيعتهم قائلاً: "يا جابر يكتفي من اتخذ التشيع أن يقول بحبنا أهل البيت، فواللَّه ما شيعتنا إلا من اتقى اللَّه وأطاعه وما كانوا يعرفون إلا بالتواضع والتخشّع وأداء الأمانة وكثرة ذكر اللَّه... وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكف الألسن عن الناس إلا من خير وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء... حسب الرجل أن يقول أحب علياً صلوات اللَّه عليه وأتولاّه فلو قال: إني أحب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم ورسول اللَّه خير من علي ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنته ما نفعه حبه إياه شيئاً فاتقوا اللَّه واعملوا لما عند اللَّه، ليس بين اللَّه وبين أحد قرابة"2.
ب- دعوة الصمت تعبير وتأثير
1- عامل التعبير
إعراب الأفعال خير من إعراب الأقوال وإن للصمت دلالات أبلغ بكثير من دلالات الكلام حينما تعبّر أفعال الإنسان عن المبدأ الذي يحمله والمكارم التي يتحلى بها وتحكي النسبة الصادقة للخط الإلهي وطريق آل البيت عليهم السلام ومن ذلك تحدّد الهوية حينما نقرأ ما أراده الإسلام في تصرفات ذلك الشخص فتتعرف عليه من فعله المقرون مع الصمت الدال على مدى حبّه وصدق انتمائه وولائه إلى مدرسة الأخلاق والتضحية والبذل والعطاء.
وهكذا يكون العمل معبّراً أصدق التعبير وإن لم يحرّك لسانه وداعياً حثيثاً لما يحمله من معتقد واتجاه.
ومسلك تحديد الانتماء والتعبير عنه عبر الأفعال لا الأقوال جاء في أخبار المعصومين عليهم السلام كما ورد التعريف عن الموالين في حديث الصادق عليه السلام: "إنما شيعة جعفر من عفّ بطنه وفرجه واشتد جهاده وعمل لخالقه، ورجا ثوابه، وخاف عقابه، فإذا رأيت أولئك، فأولئك شيعة جعفر"3.
وفي بعض الأحاديث جاء استنكاره عليه السلام حالة كون العمل غير معبّر عن المبدأ.
يحدثنا محمد بن عجلان قائلاً: "كنت مع أبي عبد اللَّه عليه السلام فدخل رجل فسلّم، فسأله كيف من خلّفت من إخوانك؟ فأحسن الثناء وزكّى وأطرى فقال له: كيف عيادة أغنيائهم لفقرائهم؟ قال: قليلة، قال: كيف مواصلة أغنيائهم لفقرائهم في ذات أيديهم؟ فقال: إنك تذكر أخلاقاً ما هي فيمن عندنا قال: فكيف يزعم هؤلاء أنهم لنا شيعة؟!"4.
هذا كلّه في بيان أن العمل خير تعبير وداعٍ صامت.
2- عامل التأثير
أما بيان أهمية دعوة الصمت من خلال كونها أشد تأثيراً وأبلغ في نفس الآخر، فبدل أن ألقي خطبة طويلة في حث الأصدقاء على معاونة المحتاجين وتقديم المساعدة لهم والاهتمام بشؤونهم ورعاية خواطرهم، فليكن ما يراه أصدقائي مني هو القيام بهذا العمل والمبادرة الدائمة لخدمة المحتاجين، فإنهم حينئذٍ سوف يبادرون بأنفسهم للقيام بهذه المهمة الشريفة، حينما تكون الظروف الحياتية بيني وبينهم واحدة وليس هناك تفاوت في الدخل المالي وغير ذلك من الاعتبارات، فكيف إذا كانت قدرتي المالية أقل من قدراتهم فهذا مشجّع ومؤثر هام يدعوهم لفعل ذلك.
لكن حين أتحدث دائماً عن التعاون يكون تعاملي مختلفاً فلا أتعاون مع إخواني، من الطبيعي حينئذٍ أن لا تلقى هذه الدعوة القولية التي يكذّبها الفعل تجاوباً من الآخرين وإلا لو وفّق الإنسان للدعوتين من خلال القول والفعل فهو نور على نور.
وهذا ما قصده الإمام الصادق عليه السلام في الوصية المتقدمة ألا وهو تأثير الدعوة العملية الصامتة وتفاعل الناس وتأثّرهم بها أكثر من تأثرهم بالخطابات والشعارات المجرّدة عن التأييد بالوقائع الخارجية والسلوك الحياتي المعاش.
حيث قال عليه السلام: "ولا يطّلع الناس منكم إلا على خير، فإذا رأوا ما أنتم عليه عملوا أفضل ما عندنا..."5.
أي أن استجابتهم العملية وقيامهم بأفضل ما نحبه ونرغب فيه وانتهاؤهم عما كانوا عليه من قبل إنما هو نتيجة رؤيتهم في الخارج لتجسّد الفضائل في حياتكم وأعمالكم من التعامل مع الناس بصدق وعدل وأمانة وغير ذلك من المكارم. وهذا المنهج هو الذي شدّد أئمتنا عليهم السلام على المحافظة عليه، كما جاء في بعض الوصايا عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام: "عليكم بتقوى اللَّه وصدق الحديث... وافشاء السلام واطعام الطعام صلوا في مساجدهم وعودوا مرضاهم...حبّبونا إلى الناس ولا تبغضونا إليهم"6.
بمعنى أن أعمالكم يمكن أن تكون داعية لبغضنا ونفور الناس منا وعدم الالتحاق بركبنا فعليكم الانتباه لذلك فقد يقع من حيث لا تشعرون وأنتم مكلّفون بأن تدعوهم إلى حبّنا ومودتنا أهل البيت من خلال تعاملكم الأخلاقي معهم وتصرفاتكم اللائقة وسيرتكم الحسنة.
ج- عناصر الدعوة بصمت:
ليس من الصحيح حصر عناصر الدعوة العملية الصامتة بجانب دون آخر، كي يقال إن الإنسان مطالب بأداء الحقوق لكنه غير مطالب بمراعاة الآداب، بل الأمران مطلوبان فالإمام الصادق عليه السلام وإن ذكر في الوصية عناصر بأجمعها واجبة ويترتب على بعضها حقوق للطرف الآخر في التعامل كأداء الأمانة والمعاملة بصدق أي دون غش وتدليس، وأن يكون عادلاً غير متعدي ولا ظالم.
وبعضها الآخر ما هو إلا بيان للحق المولوي الإلهي بالطاعة واجتناب المعصية حيث قال عليه السلام: "تعملون بما أمرناكم به من العمل بطاعة اللَّه، وتتناهون عن معاصي اللَّه"7
لكن قوله عليه السلام في ذيل الوصية: "ولا يطلع الناس منكم إلا على خير"8.
هو إشارة إلى الفعل الجميل الشامل للالتزام بالآداب الإسلامية في مقام الدعوة العملية، كما أن ما ذكر في الوصية ليس على سبيل الحصر بل من باب المثال فالأمر غير مقتصر على أداء الأمانة والمعاملة بصدق وعدل فهناك الكثير من الحقوق والواجبات الأخرى التي لا يسوغ تفويتها والتغافل عنها.
قصة للعبرة
أخلاق ويسر ومرونة
يروى أنّ محمد بن أبي عمير (وهو من خواص أصحاب الأئمة: الإمام موسى بن جعفر، والإمام الرضا، والإمام الجواد عليهم السلام) كان رجلاً بزازاً9، فذهب ماله وافتقر، وكان له على رجل عشرة آلاف درهم، فباع داراً له كان يسكنها بعشرة آلاف درهم، وحمل المال إلى بابه، فخرج إليه محمد بن أبي عمير، فقال: ما هذا؟
فقال: هذا مالك الذي عليَّ.
قال: ورثته؟
قال: لا.
قال: وُهب لك؟
قال: لا.
فقال: هو ثمن ضيعة بعتها؟
فقال: لا.
فقال: ما هو؟
فقال: بعت داري التي أسكنها لأقضي ديني.
فقال محمد بن أبي عمير: حدّثني ذريع المحاربي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: قال: "لا يخرج الرجل من مسقط رأسه بالدين، ارفعها فلا حاجة لي فيها، واللّه إنّي لمحتاج في وقتي هذا إلى درهم واحد، وما يدخل ملكي منها درهم واحد"10.
*من وصايا العترة عليهم السلام ، إعداد ونشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ط1، ربيع اول1424هـ ، ص71-79.
2- صفات الشيعة، ص21، حديث 22.
3- م.ن. ص20، حديث 21.
4- م.ن. ص18، حديث 13.
5- مستدرك الوسائل، ج1، ص116.
6- م.ن. ص32، حديث 39.
7- مستدرك الوسائل، ج1، ص116.
8- م.ن.
9- البزاز: بائع الأقمشة.
10- تهذيب الأحكام، ج6، ص198. 2009-08-14