يتم التحميل...

القناعة في الرزق

العلاقة مع النفس

وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ، أَنَّ الرِّزْقَ رِزْقَانِ: رِزْقٌ تَطْلُبُهُ، وَرِزْقٌ يَطْلُبُكَ، فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَأْتِهِ أَتَاكَ، مَا أَقْبَحَ الْخُضُوعَ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَالْجَفَاءَ عِنْدَ الْغِنَى! إِنَّمَا لَكَ مِنْ دُنْيَاكَ، مَا أَصْلَحْتَ بِهِ مَثْوَاكَ، وَإِنْ كُنْتَ جَازِعاً عَلَى مَا تَفَلَّتَ مِنْ يَدَيْكَ، فَاجْزَعْ عَلَى كُلِّ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْكَ.

عدد الزوار: 312

"وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ، أَنَّ الرِّزْقَ رِزْقَانِ: رِزْقٌ تَطْلُبُهُ، وَرِزْقٌ يَطْلُبُكَ، فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَأْتِهِ أَتَاكَ، مَا أَقْبَحَ الْخُضُوعَ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَالْجَفَاءَ عِنْدَ الْغِنَى! إِنَّمَا لَكَ مِنْ دُنْيَاكَ، مَا أَصْلَحْتَ بِهِ مَثْوَاكَ، وَإِنْ كُنْتَ جَازِعاً عَلَى مَا تَفَلَّتَ مِنْ يَدَيْكَ، فَاجْزَعْ عَلَى كُلِّ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْكَ".


تقسيم الرزق

"الرزق رزقان: رزق تطلبه، ورزق يطلبك فإن أنت لم تأته أتاك".

كلنا عاش هذه التجربة، فقد تتوقع أن يأتيك رزق من مكان ما فتسعى إليه وتبذل جهدك في الوصول إليه، ولكنك لا تصل إليه، ولكن رزقا لا تحسب له حسابا ولا تتوقعه يبحث عنك ليصل هو بنفسه إليك.

وانقسام الرزق إلى هذين القسمين، هو باب من أبواب معرفة الله عز وجل حيث يصل الإنسان إلى حالة اليقين بأن الرزق بيد الله فقط.

وقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "ما أقبح بالرجل يأتي عليه سبعون سنة أو ثمانون سنة يعيش في ملك الله ويأكل من نعمه ثم لا يعرف الله حق معرفته"1.

وتتحدث الآية الكريمة عن الحكمة في قبض الرزق عن بعض الناس: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ(الشورى:27).

كما تكون الحكمة من تقدير الأرزاق وتوزيعها هو امتحان الناس بها وابتلاؤهم لمعرفة درجة إيمانهم وذلك من ناحية صبرهم على الفقر، وابتلاء لهم واختبارا لكيفية تصرفهم في الرزق فهل ينفقونه في الطاعات او في المعاصي، فقد ورد عن الإمام علي عليه السلام: "وقدر الأرزاق فكثرها وقللها، وقسمها على الضيق والسعة، فعدل فيها ليبتلي من أراد، بميسورها ومعسورها، وليختبر بذلك الشكر والصبر من غنيها وفقيرها "2.


قوة الدين

"ما أقبح الخضوع عند الحاجة والجفاء عند الغنى".

مضمون هذا الوصية هو ما وردت به الآية الكريمة وهي قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمْ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ(يونس:22-23).

إنها الصورة التي يلجأ فيها الإنسان إلى ربه عند الحاجة وينساه عند الغنى.

هذه الصورة هي التي يتعجب الإمام من درجة قبحها، إن ما ورد في الآيات أعلاه غير مختص بعبدة الأوثان، بل هو قانون كلي ينطبق على كل الأفراد الملوثين من عبيد الدنيا المشغوفين بها، فعندما تحيط بهم أمواج البلايا والمحن وتقصر أياديهم عن كل شئ، ولا يرون لهم ناصرا ولا معينا، فإنهم سيمدون أيديهم بالدعاء بين يدي الله سبحانه ويعاهدونه بألف عهد وميثاق، وينذرون ويقطعون العهود بأنهم إن تخلصوا من هذه البلايا والأخطار سيفعلون كذا وكذا. إلا أن هذه اليقظة والوعي التي هي انعكاس لروح التوحيد الفطري، لا تستمر طويلا عند أمثال هؤلاء، فبمجرد أن يهدأ الطوفان وتنقشع سحب البلاء، فإن حجب الغفلة ستغشي قلوبهم، تلك الحجب الكثيفة التي لا تنقشع عن تلك القلوب إلا بالطوفان. ورغم أن هذه اليقظة مؤقتة، وليس لها أثر تربوي في الأفراد الملوثين جدا،إلا أنها تقيم الحجة عليهم، وستكون دليلا على محكوميتهم.

وهكذا الحال في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ(فصلت:51).

النأي الابتعاد، والمراد بالجانب الجهة والمكان فقوله: ﴿وَنَأى بِجَانِبِهِ كناية عن الابتعاد بنفسه وهو كناية عن التكبر والخيلاء، والمراد بالعريض الوسيع، والدعاء العريض كالدعاء الطويل كناية عما استمر وأصر عليه الداعي، والآية في مقام ذم الانسان وتوبيخه أنه إذا أنعم الله عليه أعرض عنه وتكبر وإذا سلب النعمة ذكر الله وأقبل عليه بالدعاء مستمرا مصرا.


الدنيا فرصة للآخرة

"إن لك من دنياك ما أصلحت به مثواك".

إذا كان الهدف من العمل في هذه الدنيا، هو الوصول إلى هذه الدنيا ونيل بعض ما فيها، فإن في ذلك الخسران، لأنه من البذل في سبيل ما يُعلم أن مصيره إلى الفناء لا إلى البقاء، فقد ورد في الرواية عن الإمام علي عليه السلام: "متاع الدنيا حطام، وتراثها كباب، بلغتها أفضل من أثرتها، وقلعتها أركن من طمأنينتها، حكم بالفاقة على مكثرها، واعين بالراحة من رغب عنها" 3.

وفي رواية أخرى وردت بالحث على العمل في الدنيا لأجل الآخرة ، عن الإمام علي عليه السلام: "إن الله سبحانه قد جعل الدنيا لما بعدها، وابتلى فيها أهلها، ليعلم أيهم أحسن عملا، ولسنا للدنيا خلقنا، ولا بالسعي فيها أمرنا"4.

ولذا ورد في الروايات أيضا بيان حقيقة أن الدنيا تبلغ الغاية من الهوان عند الله عز وجل فهي ليست ذات قيمة عند الله، ففي رواية عن الإمام علي عليه السلام: "مالها عند الله عز وجل قدر ولا وزن، ولا خلق فيما بلغنا خلقا أبغض إليه منها، ولا نظر إليها مذ خلقها. ولقد عرضت على نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بمفاتيحها وخزائنها لا ينقصه ذلك من حظه من الآخرة، فأبى أن يقبلها لعلمه أن الله عز وجل أبغض شيئا فأبغضه، وصغر شيئا فصغره".


لا تجزع من فوت الدنيا

"وإن جزعت على ما تفلت من يديك، فاجزع على كل ما لم يصل إليك".

لا ينبغي أن تجزع على ما ذهب من مالك، كما لا ينبغي أن تجزع على ما فاتك من المنافع والمكاسب، فإنه لا فرق بينهما، إلا أن هذا حصل، ذاك لم يحصل بعد، وهذا فرق غير مؤثر، لان الذي تظن أنه حاصل لك غير حاصل في الحقيقة، وإنما الحاصل على الحقيقة ما أكلته ولبسته، وأما المقتنيات والمدخرات فلعلها ليست لك.

إن ما يكون موجبا لقوة القلب على تحمل ما فات من المال وعدم الجزع عليه هو أحد أمرين:

الأول: غنى القلب.

والمراد من غنى القلب أن لا يكون الإنسان متعلقا بما فاته من مال، فهو زاهد فيه، ولذا تجد من يضيع من أمامه حظ من هذه الدنيا هو متعلق بها في حسرة مشتت البال شارد الذهن وذلك خلافا لمن أراد الآخرة وقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "من أصبح وأمسى والدنيا أكبر همه جعل الله تعالى الفقر بين عينيه وشتت أمره ولم ينل من الدنيا إلا ما قسم له، ومن أصبح وأمسى والآخرة أكبر همه جعل الله تعالى الغنى في قلبه وجمع له أمره"5.

الأمر الثاني: حسن الثقة بالله عز وجل.

إن ما يهوِّن على الإنسان الأمر فيما يضيع من ماله، هو حسن الثقة بالله عز وجل. فقد ورد عن الإمام علي عليه السلام: "أصل الرضا حسن الثقة بالله"6.

وورد في رواية أخرى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "والذي لا إله إلا هو، لا يحسن ظن عبد مؤمن بالله إلا كان الله عند ظن عبده المؤمن، لأن الله كريم بيده الخيرات، يستحيي أن يكون عبده المؤمن قد أحسن به الظن ثم يخلف ظنه ورجاءه، فأحسنوا بالله الظن وارغبوا إليه"7.


*وصايا الأمير، إعداد ونشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ط1، تشرين الثاني 2008م ، ص119-126.


1-

 

المجلسي محمد باقر بحار الأنوار مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة: 4/54.
2- نهج البلاغة: الخطبة 91.
3- المجلسي محمد باقر بحار الأنوار مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة: 78/277.
4- نهج البلاغة: الكتاب 55.
5- الكافي دار الكتب الإسلامية، آخوندي الطبعة الثالثة ابن بابويه علي فقه الرضا مؤسسة أهل البيت: 2/319.
6- غرر الحكم: 3085.
7- المجلسي محمد باقر بحار الأنوار مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة: 70/366.
2013-04-01