يتم التحميل...

النصيحة وضرورة استماعها

العلاقة مع المجتمع

بَادَرْتُ بِوَصِيَّتِي إِلَيْكَ، وَأَوْرَدْتُ خِصَالاً مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يَعْجَلَ بِي أَجَلِي دُونَ أَنْ أُفْضِيَ إِلَيْكَ بِمَا فِي نَفْسِي، أَوْ أَنْ أَنْقُصَ فِي رَأْيِي كَمَا نُقِصْتُ فِي جسْمِي، أَوْ يَسْبِقَنِي إِلَيْكَ بَعْضُ غَلَبَاتِ الْهَوَى وَفِتَنِ الدُّنْيَا، فَتَكُونَ كَالصَّعْبِ النَّفُورِ...

عدد الزوار: 98

"بَادَرْتُ بِوَصِيَّتِي إِلَيْكَ، وَأَوْرَدْتُ خِصَالاً مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يَعْجَلَ بِي أَجَلِي دُونَ أَنْ أُفْضِيَ إِلَيْكَ بِمَا فِي نَفْسِي، أَوْ أَنْ أَنْقُصَ فِي رَأْيِي كَمَا نُقِصْتُ فِي جسْمِي، أَوْ يَسْبِقَنِي إِلَيْكَ بَعْضُ غَلَبَاتِ الْهَوَى وَفِتَنِ الدُّنْيَا، فَتَكُونَ كَالصَّعْبِ النَّفُورِ. وَإنَّمَا قَلْبُ الْحَدَثِ كَالَْأَرْضِ الْخَالِيَةِ مَا ألْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيءٍ قَبِلَتْهُ. فَبَادَرْتُكَ بِالْأَدَبِ قَبْلَ أَنْ يَقْسُو قَلْبُكَ، وَيَشْتَغِلَ لُبُّكَ، لِتَسْتَقْبِلَ بِجِدِّ رَأْيِكَ مِنَ الْأَمْرِ مَا قَدْ كَفَاكَ أَهْلُ التَّجَارِبِ بُغْيَتَهُ وَتَجْرِبَتَهُ، فَتَكُونَ قَدْ كُفِيتَ مَؤُونَةَ الطَّلَبِ، وَعُوفِيتَ مِنْ عِلاَجِ التَّجْرِبَةِ، فَأَتَاكَ مِنْ ذلِكَ مَا قَدْ كُنَّا نَأْتِيهِ، وَاسْتَبَانَ لَكَ مَا رُبَّمَا أَظْلَمَ عَلَيْنَا مِنْهُ."

تمهيد
النصيحة هي من أهم ما يمكن أن يهديه الإنسان لأخيه المؤمن، فهي تصدر عنه من خالص المحبة ولذا ورد في الحديث: "ناصحك مشفق عليك، محسن إليك، ناظر في عواقبك، مستدرك فوارطك، ففي طاعته رشادك، وفي مخالفته فسادك"1، والنصيحة إن جاءت من الأب لولده كانت أزيد شفقة ومحبة من النصيحة التي تأتي من غيره، والإمام عليه السلام في الوقت الذي يوجه النصيحة لولده الإمام الحسن عليه السلام، يمهّد لذلك بذكر الأسباب التي دعته إلى اختيار ذلك الوقت لأجل توجيه النصيحة لولده، مبيّناً أنه لو تأخر في أداء تلك النصيحة عن ذلك الوقت، فإن ذلك سوف يؤدي إلى ضياع النصيحة، لأنها سوف تتأخر عن وقتها الذي كان ينبغي أن تؤدى فيه، ولذا يشير الإمام إلى موانع الاستماع إلى النصيحة.

والنصيحة والأدب هما من التربية الواجبة على الأهل، ومن حق الطفل على أبيه أن يحسن أدبه وتربيته. وهذا ما ورد في كتاب الله عز وجل حيث قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ(التحريم:6).

فقد ورد في الرواية أنه عليه السلام: لما نزلت الآية، قال الناس: كيف نقي أنفسنا وأهلنا؟ قال: اعملوا الخير وذكّروا به أهليكم وأدبوهم على طاعة الله 2.

موانع الاستماع إلى النصيحة
أ- "يسبقني إليك بعض غلبات الهوى وفتن الدنيا".
إنها مسابقة بين الدعوة إلى الحق والدعوة إلى الباطل, فالشاب في مقتبل العمر إذا لم تؤد له النصيحة في وقتها وسبقت دعوة الباطل دعوة الحق لتطرق مسامع أذنه، وتتحدث مع شغاف قلبه، فإنه سوف يبتعد عن الاستماع إلى النصيحة، وسوف يكون التقصير من الأهل الذين لم يبادروا إلى ذلك.

وقد بيّن الإمام سبب ذلك، وهو أن الشاب في أوائل شبابه يشعر بفراغ يحتاج إلى أن يملأه ويبادر إلى ملئه بما يجده في متناوله، ولذا قال عليه السلام: "إنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما القي فيها من شيئ قبلته".


ب- "فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك".
الخطوة التي تلي النصيحة هي الأدب، والأدب مرحلة أشد من النصيحة، لأنه يتضمن بعض الأساليب التي تحمل نوعاً من الفرض والعقوبة مع فرض التخلف عن ذلك والمعصية، وهذه المرحلة لها أيضاً وقتها الذي ينبغي أن يبادر الأهل إلى أدائها في ذلك الوقت وعدم تأخيرها بنحو لا يعود من الأدب نفع ولا فائدة.


والمانع من تأثير النصيحة كما يذكر الإمام عليه السلام ذلك في هذه الرواية هو قسوة القلب.

ولقسوة القلب أسباب عديدة ومن هذه الأسباب أن يعيش الإنسان طول الأمل، والشاب في مقتبل العمر مُعرّض لأن يرى من نفسه القوة والقدرة على كل شيء، وأن ينظر إلى الناس من حوله فلا يرى لهم من حق عليه سوى أنه أقدر منهم وأقوى على نيل ما يريد وهذا الأمر يورث قسوة القلب، ففي الرواية، فيما ناجى الله عز وجل به موسى عليه السلام: "يا موسى، لا تطول في الدنيا أملك فيقسو قلبك"3.


ج- ويشتغل لبك
المانع الثالث من الاستماع إلى النصيحة هو أن يكون الشاب في حداثة سنه ومقتبل عمره حاملا لهمّ ما، كما لو كان يطلب الوصول إلى غاية من الغايات ويسعى للوصول إليها مهما كلفه ذلك، فإن ذلك سوف يكون مانعاً من الاستماع إلى النصيحة، فهو ونتيجة حرصه على الوصول إلى غايته سوف يطلب أسرع الطرق والتي قد لا تكون مضمونة، ولو وجهت إليه النصائح المتتالية بأن هذا الطريق يضر به ولا يفيده فإنه لن يبادر إلى الاستماع إلى النصيحة.

ثمرة النصيحة
1- "لتستقبل بجد رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب بغيته وتجربته".
إن من أهم فوائد النصيحة هي أن يتحرز الإنسان عن الوقوع في الخطأ، فإذا وقف الإنسان أمام خيارات متعددة وبدل أن يخوض غمار التجارب والتي قد تكون فاشلة وفيها الخسارة، يعتبر بمن سبقه من الناس إلى تجربة تلك الطرق، وبهذا يأمن الوقوع في الضرر، وهذه هي فائدة النصيحة.

وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "التجارب علم مستفاد"4.


إذا الثمرة الأولى هي الإحاطة بالأمر واختيار الأفضل.


2- "فتكون قد كفيت مؤونة الطلب".


وهنا يشير الإمام عليه السلام إلى الثمرة الثانية للاستفادة من نصيحة الآخرين، وهو أن أصحاب التجربة إذا أشاروا إليك في أمر من الأمور، فعملت بنصيحتهم في فعل أو في ترك، جعلوك في راحة من أن تسعى لترى ذلك بنفسك، فخففوا عنك أعباء قد تضطر إلى تحملها لو أردت تجربة ذلك بنفسك، وحفظوا لك وقتك وطاقاتك لتستنفذها في مكانها المثمر ثماراً جديدة.


3- "عوفيت من علاج التجربة".
الوقاية خير من العلاج كما يقال، وهذه هي الثمرة الثالثة من الأخذ بالنصيحة، إنها الوقاية من الوقوع في الداء الذي يحتاج إلى علاج. والتجربة إذا خاضها الإنسان بنفسه قد توقعه في أمر لا بد له فيه من العلاج، ولكنه لو اعتمد على تجارب الآخرين أمن من الضرر. وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "ثمرة التجربة حسن الاختيار"5.


4- "فأتاك من ذلك ما قد كنا نأتيه".

الثمرة الرابعة من الرجوع إلى النصيحة أن يصل الإنسان إلى ما يريده بيسر وسهولة، فمن سبقنا إلى الأمر قد تجشم العناء في الوصول إليه، والسعي لنيله، وأما نحن فيصلنا صافياً وفي معافاة من أمرنا.


5- "واستبان لك ما ربما أظلم علينا منه".
الثمرة الخامسة هي في أن الصورة لدينا تكون أوضح وأجلى، فإننا متى شاهدنا التجارب التي خاضها الآخرون، ولاحظنا حجم المعاناة التي عانوا منها فأخذنا بالتجارب المتعددة، والصور المختلفة التي يحكيها أصحاب التجارب، ونصائحهم التي ينظر فيها كل واحد منهم إلى جهة من الجهات، اجتمعت لدينا جهات متعددة من النظر والرأي، وهذا يؤدي إلى تكوين صورة أفضل وأجمع وأشمل.

*وصايا الأمير، إعداد ونشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ط1، تشرين الثاني 2008م ، ص47-55.


1- الريشهري محمد ميزان الحكمة دار الحديث، الطبعة الأولى ج 4 ص 3279.
2- المحقق النوري مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل مؤسسة أهل البيت لإحياء التراث الطبعة الأولى: 12 / 201 / 13881 و ح 13882.
3- الكليني، الكليني الكافي دار الكتب الإسلامية، آخوندي الطبعة الثالثة ابن بابويه علي فقه الرضا مؤسسة أهل البيت: 2 / 329.
4- غرر الحكم: 1036.
5- غرر الحكم: 4617.
2010-05-14