علي الأكبر عليه السلام و السبق للجهاد
ولادة علي الأكبر(ع)
لقد أدى الأنصار أدوارهم على أحسن ما يرام، فمضوا إلى حيث نعم الله ورضوان ربهم وجنان وعدهم إياها، إنه لا يخلف الميعاد. ولم يدع علي واحداً يسبقه، بعد اذ انفرد الإمام وأهل بيته، فكانوا البقية الباقية من الشجرة المحمدية، والوحيدون على وجه الأرض،
عدد الزوار: 486المبادرة الفورية
لقد أدى الأنصار أدوارهم على أحسن ما يرام، فمضوا إلى حيث نعم الله ورضوان ربهم وجنان وعدهم إياها، إنه لا يخلف الميعاد. ولم يدع علي واحداً يسبقه، بعد اذ انفرد الإمام وأهل بيته، فكانوا البقية الباقية من الشجرة المحمدية، والوحيدون على وجه الأرض، من آل الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم فطفق بعضهم يودع بعضاً. ومال أحدهم على الآخر يعانقه بحرارة وشوق.. وصف المؤرخون ذلك المشهد الرهيب واتفقوا على هذا المعنى:
لما قتل أصحاب الحسين عليه السلام ولم يبق معه إلا أهل بيته خاصة، وهم ولد علي بن أبي طالب عليه السلام وولد جعفر وولد عقيل، اجتمعوا يودع بعضهم بعضاً، وعزموا على الحرب، فتقدم علي بن الحسين عليه السلام، وكان من أصبح الناس وجهاً وأحسنهم خَلقاً وخُلقاً. أما وداع علي لأهله من النساء كأمه واخواته وعماتهِ لاسيما عمته الحوراء زينب عليها السلام، فقد حفل بالآلام والأشجان.. فقد آن فراق ذكرى المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم هكذا شعرن وأحست كل منهن.
ظهر علي بأنه شديد الحرص على السبق للساحة وعلى أن يكون أول ضحية وقرباناً لله سبحانه وتعالى.. وهذه الظاهرة تحتاج إلى وقفة... فلاشك أن المسؤوليات الجسام لا تناط إلا بأهلها، وخليق بهم تحمل عبئها وما يترتب عليها من مضاعفات، لأنهم سدنة الرسالة، وحراس المبادئ ذات الأصالة.. فهم لا يختارون التأخير عن دورهم، الأمر الذي يفسر حالات التنافس بين الهاشميين والأنصار، وعمليات الرهان على الأسبقية، كما أشرنا حيث حسم الإمام ذلك الموقف لرغبة الأنصار المجاهدين على رضى منه.. أما وأن علياً يسبق اخوته من الهاشميين. فذلك ما يفسره نفس المعنى، فنظراً لكونه نجل الإمام القائد المنحدر من صلبه الشامخ، فهو يشعر بخصوصيته، لا لكي يسلم وينعم، بل لكي يبادر ويعمل ويضحي فيكون المثل الأعلى...
وليس هذا من باب المفاضلة والمكابرة، بقدر ما هو من باب الإيثار، فخليق به أن يتقدم على الجميع مؤثراً سلامتهم وعدم نظرهِ لجراحهم أو مواقع مصارعهم.. ولما كانت القضية قضية الإسلام الحسينية، فلا يحسن به أن ينتظر إلى آخر شوط وآخر دور، فهو نجل القائد، ومن باب أولى أن يكون هو المتقدم..
وهكذا يتجلّى علو التربية ورفعة التوجيه وسمو الآداب وجلال التهذيب المتوفر في شخص علي الأكبر... فما كانت تربية أهل البيت تنص على معنى يخالفه عملهم، ليس فيهم قوال غير فعال... وانما جبلوا على ممارسة تطبيقات مقررات الرسالة والدين الحنيف وحتى الآداب والمثل البسيطة والمفاهيم الخلقية العملية..
الإستئذان للنزال
اتجه نحو أبيه الإمام، فاتخذ له موقفاً أمامه، وظل صامتاً مطرقاً برأسه، نظر إليه والده الحسين فأدرك ما يريد، فكل ما ظهر عليه من لامة حربه ومدرعته واسراجه لفرسه يدل على عزمه للمضي على ما مضى عليه من سبقوه، يدل على لهفته لمباشرة الجهاد المسلح..
وراح الحسين ينظر إليه بنظرات ملؤها الرفق والحنان والإشفاق، أخذ يطيل النظر إليه، فاتخذت عواطف الأبوة الطاهرة مستقرها بين جوانح الأب العظيم.. دار التفاهم على صعيد الصمت.. وتمّ تبادل البيان من خلال مؤشرات موقف الأشجان.. ولم يكن الفراق عجيباً ولا غريباً، إذا خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة. لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه فيوفينا أجور الصابرين كما في خطابه التاريخي بمكة.. ترى هل عز على الحسين فراق حبيبه وريحانته وذكرى رسول الله؟ هل يا ترى يمنعه عن التسرع أو يؤجل دوره إلى حين؟.. نعم عزّ عليه ولكنه لا يمنعه أو يؤجل جهاده.. عزّ عليه عزاّ لا حد له، بيد أن الحسين يسيطر عليه أمر أكبر وأخطر، ذلك هو عز القضية التي من أجلها نهض بنهضته وصدع بمبدأ الجهاد.. فبعز رسالته هان عليه عزّ الأحبة وآلام الوحدة والغربة.. فالموقف شجي ومحرج لكنه في غاية التحرج في قضية الدين بحيث هونت عليه فقد الحياة وحراجة تقديم البنين..
وأخذت الآهات مأخذها في داخل صدره، وراح ينظر إليه.. إلى أشبه من وطئ الحصى بجدهِ النبي المصطفى.. وأغرورقت عيناه بالدموع.. وطفق إليه ليضمه ليحتضنه ويلثمه.. ووقف الشباب الهاشمي أمام المشهد الحزين، وقد دام العناق طويلاً.. فماذا تتصور عن عناق صدق الأشواق.. عناق لحظات الفراق.. أجل أنها آخر فرصة لتبادل القبلات المنغصة..
وفهم علي الأكبر، وأدرك من تلك الاجراءات الأبوية أنه لا مانع من خوض غمار الحرب الرسالية فوراً، فمال إلى جواده الذي أعده وأسرجه فامتطى صهوته واتجه نحو تأكيد الحقائق، وراحت عيون الهاشميين ترمقه بحب عظيم واشفاق كبير فكيف بأبيه الحسين الذي أخذت عيناه ترافقه، واستمر يلاحقه بنظراته وتابعه بقلبه البصير الذي يخفق على النهاية والمصير، لهذا الفتى المحمدي، لقد وجدناه يحول طرفه ليرمق السماء وليناجي ربه، رافعاً شيبته الشريفة وقد أرخى عينيه لتسيل الدموع كل مسيل: "اللهم أشهد على هؤلاء القوم، فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولك محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكنا إذا اشتقنا إلى وجه رسولك نظرنا إلى وجهه. اللهم فامنعهم بركات الأرض وفرقهم تفريقاً، ومزقهم تمزيقاً واجعلهم طرائق قدداً، ولا ترضي الولاة عنهم أبداً، فانهم دعونا لينصرونا ثمّ عدوا علينا يقاتلوننا".
في تلك الأثناء كان علي سلام الله عليه، يبتعد رويداً رويداً متجهاً نحو الحشود البشرية المتراكمة كالغنم النائمة وقد وبخ الإمام، قائد الأعداء، عمر بن سعد بن أبي وقاص، وتوعده مؤكداً له استحالة حصوله على نيل مصالحه من قتال عترة الرسول وإبادتهم وقطع رحمهم، فصاح به: ما لَك! قطع الله رحمك ولا بارك الله لك في أمرك، وسلط الله عليك من يذبحك بعدي على فراشك، كما قطعت رحمي، ولم تحفظ قرابتي من محمد رسول الله.
ثمّ حول طرفه إلى ولده الذي دنا من الجيش الهجين وأخذ ينظر إليه، وقد رفع الإمام صوته وهو يتسلى بتلاوة قول الله تبارك وتعالى. ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾. سمع الجميع تلاوة الإمام الحسين سلام الله عليه، سمعوا حقيقة كون علي الأكبر ممن اصطفاه الله سبحانه، وارتضاه، وأنه ماضِ إلى حيث أداء حق الاصطفاء وحق المسؤوليات في ظل العز والإباء.