يتم التحميل...

الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

ولادة أمير المؤمنين(ع)

إنّ الإمام علي بن أبي طالب أشهر من أن يعرّف، ولقد قام لفيف من السنّة والشيعة بتأليف كتب وموسوعات عن حياته، ومناقبه، وفضائله، وجهاده، وعلومه، وخطبه، وقصار كلماته، وسياسته، وحروبه مع الناكثين والقاسطين والمارقين،

عدد الزوار: 173

إنّ الإمام علي بن أبي طالب أشهر من أن يعرّف، ولقد قام لفيف من السنّة والشيعة بتأليف كتب وموسوعات عن حياته، ومناقبه، وفضائله، وجهاده، وعلومه، وخطبه، وقصار كلماته، وسياسته، وحروبه مع الناكثين والقاسطين والمارقين، فالأولى لنا الاكتفاء بالميسور في هذا المجال، واحالة القارئ الى تلك الموسوعات، بيد أنّا نكتفي هنا بذكر اوصافه الواردة في السنّة فنقول: هو أمير المؤمنين، وسيّد المسلمين، وقائد الغرّ المحجّلين، وخاتم الوصيّين، وأوّل القوم ايماناً، وأوفاهم بعهد الله، وأعظمهم مزيّة، وأقومهم بأمر الله، وأعلمهم بالقضية، وراية الهدى، ومنار الإيمان، وباب الحكمة، والممسوس في ذات الله، خليفة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، الهاشمي، وليد الكعبة المشرّفة، ومُطهِّرها من كل صنم ووثن، الشهيد في البيت الإلهي (جامع الكوفة) في محرابه حال الصلاة سنة 40 هجري.

وكل جملة من هذه الجمل، وعبارة من هذه العبارات، كلمة قدسيّة نبويّة أخرجها الحفّاظ من اهل السنّة.

الإمام علي ومكوّنات الشخصية

تعود شخصية كل انسان حسب ما يرى علماء النفس إلى ثلاثة عوامل هامّة لكل منها نصيب وافر في تكوين الشخصية وأثر عميق في بناء كيانها.

وكأنّ الشخصية الإنسانية لدى كل انسان أشبه بمثلث يتألّف من اتّصال هذه الأضلاع الثلاثة بعضها ببعض، وهذه العوامل الثلاثة هي:
1- الوراثة.
2- التعليم والثقافة.
3- البيئة والمحيط.


إنّ كلّ ما يتّصف به المرء من صفات حسنة او قبيحة، عالية أو وضيعة تنتقل إلى الإنسان عبر هذه القنوات الثلاث، وتنمو فيه من خلال هذه الطرق.

وانّ الأبناء لا يرثون منّا المال والثروة والأوصاف الظاهرية فقط كملامح الوجه ولون العيون وكيفيات الجسم، بل يرثون كل ما يتمتّع به الآباء من خصائص روحية وصفات أخلاقية عن طريق الوراثة كذلك.

فالأبوان بانفصال جزئي "الحويمن" و"البويضة" المكوّنين للطفل منهما إنّما ينقلان في الحقيقة صفاتهما ملخّصة الى الخلية الاُولى المكوّنة من ذينك الجزأين، تلك الخلية الجنينية التي تنمو مع ما تحمل من الصفات والخصوصيات الموروثة.

ويشكّل تأثير الثقافة والمحيط، الضلعين الآخرين في مثلث الشخصية الإنسانية، فإنّ لهذين الأمرين أثراً مهمّاً وعميقاً في تنمية السجايا الرفيعة المودعة في باطن كل إنسان بصورة فطرية جبلية او المتواجدة في كيانه بسبب الوراثة من الأبوين.

فإنّ في مقدور كل معلّم ان يرسم مصير الطفل ومستقبله من خلال ما يلقي اليه من تعليمات وتوصيات وما يعطيه من سيرة وسلوك ومن آراء وأفكار، فكم من بيئة حوّلت أفراداً صالحين الى فاسدين، أو فاسدين الى صالحين.

وإنّ تأثير هذين العاملين المهمّين من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى المزيد من البيان والتوضيح. على أننّا يجب أن لا ننسى دور ارادة الإنسان نفسه وراء هذه العوامل الثلاثة.

الإمام علي عليه السلام والجانب الموروث في شخصيته

لم يكن الإمام علي عليه السلام كبشر بمستثنى من هذه القاعدة. فقد ورث الإمام أمير المؤمنين عليه السلام جانباً كبيراً من شخصيته النفسية والروحية والأخلاقية من هذه العوامل والطرق الثلاثة، وإليك تفصيل ذلك:

الإمام علي عليه السلام والوراثة من الأبوين:

لقد انحدر الإمام علي من صلب والد عظيم الشأن، رفيع الشخصية هو أبو طالب، ولقد كان أبو طالب زعيم مكّة، وسيّد البطحاء، ورئيس بني هاشم، وهو إلى جانب ذلك، كان معروفاً بالسماحة والبذل والجود والعطاء والعطف والمحبّة والفداء والتضحية في سبيل الهدف المقدّس، والعقيدة التوحيديّة المباركة.

فهو الذي تكفّل رسول الله مند توفّي عنه جدّه وكفيله الأوّل عبد المطلب وهو آنذاك في الثامنة من عمره، وتولّى العناية به والقيام بشؤونه، وحفظه وحراسته في السفر والحضر، بإخلاص كبير واندفاع وحرص لا نظير لهما، بل وبقي يدافع عن رسالة التوحيد، والدين الحق الذي جاء به النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ويقوم في سبيل ارساء قواعده ونشر تعاليمه بكل تضحية وفداء، ويتحمّل لتحقيق هذه الأهذاف العليا كل تعب ونصب وعناء.

وقد انعكست هذه الحقيقة وتجلّى موقفه هذا في كثير من أشعاره وأبياته المجموعة في ديوانه بصورة كاملة مثل قوله:
ليعلم خيار الناس أنّ محمداً *** نبيّ كموسى والمسيح ابن مريم
ألم تعلموا أنّا وجدنا محمداً *** رسولاً كموسى خط في أوّل الكتب


إنّ من المستحيل أن تصدر امثال هذه التضحيات التي كان أبرزها محاصرة بني هاشم جميعاً في الشعب ومقاطعتهم القاسية من دافع غير الايمان العميق بالهدف والشغف الكبير بالمعنوية، الذي كان يتّصف به أبو طالب، إذ لا تستطيع مجرّد الوشائج العشائرية، وروابط القربى، أن توجد في الإنسان مثل هذه الروح التضحوية.

إنّ الدلائل على ايمان أبي طالب بدين ابن اخيه تبلغ من الوفرة والكثرة بحيث استقطبت اهتمام كل المحقّقين المنصفين والمحايدين، ولكن بعض المتعصّبين توقّف في إيمان تلك الشخصية المتفانية العظيمة، بالدعوة المحمدية، بينما تجاوز فريق هذا الحد الى ما هو أبعد من ذلك، حيث قالوا بأنّه مات غير مؤمن.

ولو صحّت عُشر هذه الدلائل الدالة على ايمان أبي طالب الثابتة في كتب التاريخ والحديث، في حقّ رجل آخر لما شكّ أحد في ايمانه فضلاً عن إسلامه، ولكن لا يعلم الإنسان لماذا لا تستطيع كل هذه الأدّلة إقناع هذه الزمرة، وإنارة الحقيقة لهم! هذا عن والد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.

وأمّا اُمّه فهي فاطمة بنت أسد بن هاشم وهي من السابقات إلى الإسلام والإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد كانت قبل ذلك تتّبع ملّة إبراهيم.

إنّها المرأة الطاهرة التي لجأت عند المخاض إلى المسجد الحرام، وألصقت نفسها بجدار الكعبة وأخذت تقول: "يا ربّ إنّي مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإنّي مصدّقة بكلام جدّي ابراهيم وانّه بنى البيت العتيق، فبحقّ الذي بنى هذا البيت و(بحق) المولود الذي في بطني إلاّ ما يسّرت عليّ ولادتي". فدخلت فاطمة بنت اسد في الكعبة ووضعت عليّاً هناك. وتلك فضيلة نقلها قاطبة المؤرخين والمحدّثين الشيعة، وكذا علماء الأنساب في مصنّفاتهم، كما نقلها ثلّة كبيرة من علماء السنّة وصرّحوا بها في كتبهم واعتبروها حادثة فريدة، وواقعة عظيمة لم يسبق لها مثيل.

وقال الحاكم النيسابوري: وقد تواترت الأخبار انّ فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه في جوف الكعبة. وقال شهاب الدين أبو الثناء السيد محمود الآلوسي: "وكون الامير كرم الله وجهه، ولد في البيت، أمر مشهور في الدنيا ولم يشتهر وضع غيره كرّم الله وجهه، كما اشتهر وضعه".

الإمام علي والتربية في حجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

وأمّا التربية الروحية والفكرية والأخلاقية فقد تلقّاها علي عليه السلام في حجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي الضلع الثاني من أضلاع شخصيته الثلاثة.

ولو أنّنا قسّمنا مجموعة سنوات عمر الإمام عليه السلام إلى خمسة أقسام لوجدنا القسم الأوّل من هذه الأقسام الخمسة من حياته الشريفة، يشكلّ السنوات التي قضاها عليه السلام قبل بعثة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

وانّ هذا القسم من حياته الشريفة لا يتجاوز عشر سنوات، لأنّ اللّحظة التي ولد فيها علي عليه السلام لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد تجاوز الثلاثين من عمره المبارك، هذا مع العلم بأنّه صلى الله عليه وآله وسلم قد بعث بالرسالة في سنّ الأربعين.

وعلى هذا الأساس لم يكن الإمام علي عليه السلام قد تجاوز السنة العاشرة من عمره يوم بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة، وتوّج بالنبوّة.

إنّ أبرز الحوادث في حياة الإمام علي عليه السلام هو تكوين الشخصية العلوية، وتحقّق الضلع الثاني من المثلّث الذي أسلفناه بواسطة النبيّ الأكرم وفي ظلّ ما أعطاه صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام من أخلاق وأفكار، لأنّ هذا القسم في حياة كل انسان وهذه الفترة من عمره هي من اللحظات الخطيرة، والقيمّة جدّاً، فشخصية الطفل في هذه الفترة تشبه صفحة بيضاء نقيّة تقبل كل لون وهي مستعدّة لان ينطبع عليها كل صورة مهما كانت، وهذه الفترة من العمر تعتبر بالتالي خير فرصة لأن ينمّي المربّون والمعلّمون فيها كلّما أودعت يد الخالق في كيان الطفل من سجايا طيّبة وصفات كريمة، وفضائل أخلاقية نبيلة، ويوقفوا الطفل عن طريق التربية على القيم الأخلاقية والقواعد الإنسانية وطريقة الحياة السعيدة، وتحقيقاً لهذا الهدف السامي تولّى النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه تربية علي عليه السلام بعد ولادته، وذلك عندما أتت فاطمة بنت أسد بوليدها علي عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلقيت من رسول الله حبّاً شديداً لعلي حتى أنّه قال لها: اجعلي مهده بقرب فراشي وكان صلى الله عليه وآله وسلم يطهّر علياً في وقت غسله، ويوجر اللبن عند شربه، ويحرّك مهده عند نومه، ويناغيه في يقظته، ويلاحظه ويقول: هذا أخي، ووليّي وناصري وصفيّي وذخري وكهفي، وصهري، ووصيّي، وزوج كريمتي، وأميني على وصيّتي وخليفتي.

ولقد كانت الغاية من هذه العناية هي ان يتم توفير الضلع الثاني في مثلّث الشخصية (وهو التربية) بواسطته صلى الله عليه وآله وسلم وان لا يكون لاحد غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل في تكوين الشخصية العلوية الكريمة.

وقد ذكر الامام علي عليه السلام ما أسداه الرسول الكريم اليه وما قام به تجاهه في تلكم الفترة اذ قال: (وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا وليد يضمّني الى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسني جسده، ويشمّني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثمّ يلقمنيه".

النبي يأخذ عليّاً إلى بيته

وإذا كان الله تعالى يريد لولي دينه أن ينشأ نشأة صالحة وأن يأخذ النبي عليّاً الى بيته وأن يقع منذ نعومة أظفاره تحت تربية النبي الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ألفت نظر نبيّه الى ذلك.

فقد ذكر المؤرخّون أنّه أصابت مكّة ذات سنة أزمة مهلكة وسنة مجدبة منهكة، وكان أبو طالب رضي الله عنه ذا مال يسير وعيال كثير فأصابه ما أصاب قريشاً من العدم والضائقة والجهد والفاقة: فعند ذلك دعا رسول الله عمّه العباس الى أن يتكفّل كل واحد منهما واحداً من أبناء أبي طالب وكان العباس ذا مال وثروة وجدة فوافقه العباس على ذلك: فأخذ النبي عليّاً، واخذ العباس جعفراً وتكفّل أمره، وتولّى شؤونه.

وهكذا وللمرّة الأُخرى أصبح علي عليه السلام في حوزة رسول الله صلى الله عليه وآله بصورة كاملة، واستطاع بهذه المرافقة الكاملة ان يقتطف من ثمار أخلاقه العالية وسجاياه النبيلة، الشيء الكثير، وأن يصل تحت رعاية النبي وعنايته وبتوجيهه وقيادته، الى أعلى ذروة من ذرى الكمال الروحي.

وهذا هو الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يشير إلى تلك الأيام القيّمة وإلى تلك الرعاية النبويّة المباركة المستمرّة إذ يقول: "ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل اثر اُمّه، يرفع لي كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به ".

علي في غار حراء

كان النبي حتى قبل أن يبعث بالرسالة والنبوّة يعتكف ويتعبّد في غار حراء شهراً من كل سنة، فإذا انقضى الشهر وقضى جواره من حراء انحدر من الجبل، وتوجّه إلى المسجد الحرام رأساً وطاف بالبيت سبعاً، ثمّ عاد إلى منزله. وهنا يطرح سؤال: وماذا كان شأن علي عليه السلام في تلك الأيام التي كان يتعبّد ويعتكف فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك المكان مع ما عرفنا من حبّ الرسول الأكرم له؟ هل كان يأخذ صلى الله عليه وآله وسلم علياً معه إلى ذلك المكان العجيب أم كان يتركه ويفارقه؟

إنّ القرائن الكثيرة تدل على أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم منذ أن أخذ علياً لم يفارقه يوماً أبداً فهاهم المؤرّخون يقولون: كان علي يرافق النبي دائماً ولا يفارقه أبداً حتى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا خرج إلى الصحراء أو الجبل أخذ علياً معه.

يقول ابن أبي الحديد: وقد ذكر علي عليه السلام هذا الأمر في الخطبة القاصعة اذ قال: "ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري.

إنّ هذه العبارة وإن كانت محتملة في مرافقته للنبي في حراء بعد البعثة الشريفة إلاّ انّ القرائن السابقة وكون مجاورة النبي بحراء كانت في الأغلب قبل البعثة، تؤيّد أنّ هذه الجملة، يمكن أن تكون اشارة الى صحبة علي للنبي في حراء قبل البعثة.
إنّ طهارة النفسيّة العلوية، ونقاوة الروح التي كان علي عليه السلام يتحلىّ بها، والتربية المستمرّة التي كان يحظى بها في حجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كل ذلك كان سبباً في أن يتّصف علي عليه السلام ومنذ نعومة أظفاره ببصيرة نفّاذة وقلب مستنير، واُذن سميعة واعية تمكّنه من أن يرى أشياءً ويسمع امواجاً تخفى على الناس العاديين ويتعذّر عليهم سماعها ورؤيتها، كما يصرّخ نفسه بذلك اذ يقول: "أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوّة".

ويقول الإمام الصادق (عليه السلام): "كان علي عليه السلام يرى مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل الرسالة، الضوء ويسمع الصوت".

وقد قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لولا أنّي خاتم الأنبياء لكنت شريكاً في النبوّة فإن لا تكن نبيّاً فإنّك وصيّ نبيّ ووارثه، بل أنت سيّد الاوصياء وإمام الأتقياء.

ويقول الإمام علي عليه السلام: لقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان ايس من عبادته، ثمّ قال له: "إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلاّ أنّك لست بنبي ولكنّك وزير".

هذا هو الرافد الثاني الذي كان يرفد الشخصية العلوية بالأخلاق والسجايا الرفيعة.

البيئة الرسالية وشخصية الإمام

ولو أضفنا ذينك الأمرين (أي ما اكتسبه من والديه الطاهرين بالوراثة، وما تلقّاه في حجر النبي) الى ما أخذه من بيئة الرسالة والإسلام من أفكار وآراء رفيعة، وتأثر عنها أدركنا عظمة الشخصية العلوية من هذا الجانب.

ومن هنا يحظى الإمام علي عليه السلام بمكانة مرموقة لدى الجميع: مسلمين وغير مسلمين، لما كان يتمتع به من شخصية سامقة، وخصوصيات خاصة يتميّز بها.

وهذا هو ما دفع بالبعيد والقريب الى ان يصف عليّاً بما لم يوصف به احد من البشر، ويخصّه بنعوت، حرم منها غيره، فهذا الدكتور شبلي شميل المتوفّى 1335 وهو من كبار الماديين في القرن الحاضر يقول: "الإمام علي بن ابي طالب عظيم العظماء نسخة مفردة لم ير لها الشرق ولا الغرب صورة طبق الأصل لا قديماً ولا حديثاً"

وقال عمر بن الخطاب: "عقمت النساء أن يلدن مثل علي بن أبي طالب".

ويقول جورج جرداق الكاتب المسيحي اللبناني المعروف: "وماذا عليك يا دنيا لو حشدت قواك فأعطيت في كل زمن عليّاً بعقله وقلبه ولسانه وذي فقاره".

هذه الأبعاد التي ألمحنا اليها هي الأبعاد الطبيعية للشخصية العلوية.

البعد الرابع لشخصية الإمام عليه السلام:

غير أنّ أبعاد شخصية الإمام علي عليه السلام لا تنحصر في هذه الأبعاد الثلاثة، فإنّ لأولياء الله سبحانه بعداً رابعاً، داخلاً في هوية ذاتهم، وحقيْة شخصيتهم وهذا البعد هو الذي ميّزهم عن سائر الشخصيات وأضفى عليهم بريقاً خاصّاً ولمعاناً عظيماً.

وهذا البعد هو البعد المعنوي الذي ميّز هذه الصفوة عن الناس، وجعلهم نخبة ممتازة وثلّة مختارة من بين الناس وهو كونهم رسل الله وأنبياءه، أو خلفاءه وأوصياء أنبيائه.

نرى أنّه سبحانه يأمر رسوله أن يصف نفسه بقوله: ﴿قُل سُبحان رَبِّي هَل كُنتُ إلاّ بَشَراً رَسُول.

فقوله: ﴿ بَشَر إشارة الى الأبعاد البشرية الموجودة في كل انسان طبيعي، وإن كانوا يختلفون فيها في ما بينهم كمالاً ولمعاناً.

وقوله: ﴿ رَسُول إشارة إلى ذلك البعد المعنوي الذي ميّزه صلى الله عليه وآله وسلم عن الناس وجعله معلّماً وقدوة للبشر.

فلأجل ذلك يقف المرء في تحديد الشخصيات الإلهية على شخصية مركّبة من بعدين: طبيعي وإلهي ولا يقدر على توصيفها إلاّ بنفس ما وصفهم الله به سبحانه مثل قوله في شأن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿ الِّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الاُمِيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكتُوباً عِندَهُم فيِ التَّوراةِ وَالإنجِيلِ يَأمُرُهُم بِالمعرُوفِ وَيَنهاهُم عَنِ المُنكَرِ وَيُحلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحرّمُ عَلَيِهمُ الخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنهُم إصرَهُم وَالأغلالَ الَّتِي كانَت عَلَيهِم وقد نزلت في حق الإمام أمير المؤمنين عليه السلام آيات ووردت روايات.

كيف وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "عنوان صحيفة المؤمن حبّ علي بن ابي طالب عليه السلام ".

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "من سرّه أن يحيا حياتي ويموت مماتي، ويسكن جنّة عدن غرسها ربّي فليوال عليّاً بعدي، وليوال وليّه، وليقتد بالأئمة من بعدي فإنّهم عترتي خلقوا من طينتي، رزقوا فهماً وعلماً، وويل للمكذّبين بفضلهم من اُمتّي، القاطعين فيهم صلتي، لا أنالهم الله شفاعتي".

وقال الإمام أحمد بن حنبل: ما لأحد من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الصحاح مثل ما لعلي رضي الله عنه وقال الإمام الفخر الرازي: من اتّخذ عليّاً إماماً لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه. وقال أيضاً: من اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب فقد اهتدى لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اللّهم أدر الحقّ مع علي حيث دار.


* سيرة أمير المؤمنين / العلامة جعفر السبحاني.

2012-06-01