العبادة من (الأربعون حديثاً)
العلاقة مع الله
عن الإمام الصادق عليه السلام: في التوراة مكتوب: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي املأ قلبك غنى، ولا أكلك إلى طلبك، وعليّ أن أسد فاقتك وأملأ قلبك خوفاً مني. وإن لا تفرّغ لعبادتي أملأ قلبك شغلاً بالدنيا ثم لا أسد فاقتك و أكِلُك إلى طلبك" وفي الحديث القدسي:إن أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري.
عدد الزوار: 92
عن الإمام الصادق عليه السلام: "في التوراة مكتوب: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي املأ قلبك غنى، ولا أكلك إلى طلبك، وعليّ أن أسد فاقتك وأملأ قلبك خوفاً مني. وإن لا تفرّغ لعبادتي أملأ قلبك شغلاً بالدنيا ثم لا أسد فاقتك و أكِلُك إلى طلبك"1.
وفي الحديث القدسي: "إن أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري"2.
أسرار العبادة وتجسم الأعمال
إن فهم القلب لأهمية العبادات لا يتيسر إلا عند استيعاب أسرارها وحقائقها، ومن الواضح أنه غير ميسر بالنسبة لنا، ولكن لنذكر منها بالمقدار الذي يتناسب مع فهمنا:
إن لكل من الأعمال الحسنة والأفعال العبادية صورة ملكوتية باطنية، وأثر في قلب العابد، والصورة الباطنية هي التي تعمّر عالم البرزخ والجنة الجسمانية، فأرض الجنة خالية من كل شيء كما ورد في الحديث، والأذكار والأعمال هي مواد إنشاء وبناء لها. وهناك الكثير من الآيات القرآنية تدل على تجسم الأعمال، كقوله تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾(الزلزلة:7-8). وقوله تعالى:﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا﴾(الكهف:49).
والأخبار الدالة على تجسم الأعمال وتلبسها بصور غيبية، متعددة، نذكر منها:
عن الإمام الصادق عليه السلام: "من صلى المفروضات في أول وقتها وأقام حدودها، رفعها الملك إلى السماء بيضاء نقية تقول: حفظك الله كما حفظتني استودَعَني ملك كريم. ومن صلاها بعد وقتها من غير علة ولم يقم حدودها، رفعها الملك سوداء مظلمة وهي تهتف به ضيعتني ضيعك الله كما ضيعتني ولا رعاك الله كما لم ترعني"3.
بل إن الأخبار تدل على أن ذلك العالم كله حياة وعلم: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾(العنكبوت:64).
وفي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "إذا بعث الله المؤمن من قبره خرج معه مثال يقدم أمامه، كلما يرى المؤمن هولاً من أهوال يوم القيامة قال له المثال: لا تفزع ولا تحزن وأبشر بالسرور والكرامة من الله عز وجل، حتى يقف بين يدي الله عز وجل فيحاسبه حساباً يسسيراً ويأمر به إلى الجنة والمثال أمامه، فيقول له المؤمن: يرحمك الله نِعم الخارج، خرجت معي من قبري وما زلت تبشرني بالسرور والكرامة من الله حتى رأيت ذلك، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا السرور الذي كنت أدخلته على أخيك المؤمن في الدنيا، خلقني الله عز وجل منه لأبشرك"4.
فلكل عمل مقبول لدى ساحة قدس الحق المتعالي صورة بهية حسنة تتناسب معه من الحور أو القصور أو الجنان العالية أو الأنهار الجارية.
وقد ورد في بعض الروايات تجسد الاعتقادات أيضاً.
العبادة وحضور القلب
إن حضور القلب من الأمور المهمة في باب العبادات، فهو روح العبادة، والعبادة من دون حضور القلب غير مجدية، ولا تقع مقبولة في ساحة الحق المتعالي كما ورد في الروايات الشريفة، عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام : "إنما لك من صلاتك ما أقبلت عليه منها، فإن أوهمها كلها أو غفل عن آدابها لُفت فضُرِب بها وجه صاحبها"5.
وفي رواية عن الثمالي قال: "رأيت علي بن الحسين عليهما السلام يصلي، فسقط رداؤه عن منكبه فلم يسوّه حتى فرغ من صلاته، قال: فسألته عن ذلك، فقال: ويحك أتدري بين يدي من كنت؟ إن العبد لا تقبل منه صلاة إلا ما أقبل عليه منها، فقلت: جعلت فداك هلكنا، قال: كلا، إن الله متمم ذلك للمؤمنين بالنوافل"6.
وما يبعث على حضور القلب أمران
الأول - إفهام القلب أهمية العبادة
فإن الإنسان إذا اقتنع أن العبادة أكثر أهمية من الأمور الأخرى، بل لا مجال للمقارنة بين العبادة والأمور الأخرى لالتفت إليها أكثر وخصص لها وقتاً وحافظ على أوقاتها. فالذي لا يعرف أهمية الصلاة ويراها أمراً زائداً، سيؤجل صلاته إلى آخر الوقت، ويأتي بها بكل فتور ونقص، وسيكون دائماً أن هناك أموراً أهم من الصلاة ستأخذ وقتهوما شرحناه في تجسد الأعمال يبين أهمية العبادة إجمالاً.
الثاني - تفريغ الوقت والقلب للعبادة
- تفريغ الوقت: لا بد للإنسان المتعبد أن يوظف وقتاً للعبادة، وأن يحافظ على أوقات الصلاة التي هي أهم العبادات، وأن يؤديها في وقت الفضيلة، ولا يشغل نفسه في تلك الأوقات بعمل آخر، فكما يخصص وقتاً لكسب المال والجاه والعلم، فكذلك عليه أن يخصص وقتاً للعبادة.
ولو أحس بالثقل من أداء الصلاة، ورأى أنها أمر زائد، فمن الطبيعي أنه سيؤخر صلاته إلى آخر الوقت، ويأتي بها بكل فتور ونقص. إن هناك أموراً أخرى أهم منها في نظره، والصلاة تتزاحم مع هذه الأمور الهامة، فيفضلها ويقدمها على الصلاة. فهو في الحقيقة مستخف بالصلاة متهاون بها، وقد ورد في الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام: "لا تتهاون بصلاتك فإن النبي صلى الله عليه وآله قال عند موته: ليس مني من استخف بصلاته، ليس مني من شرب مسكراً، لا يرد علي الحوض لا والله"7.
وفي رواية أخرى عن الإمام الكاظم عليه السلام: "لما حضرت أبي الوفاة قال لي: يا بني لا ينال شفاعتنا من استخف بالصلاة"8.
الله وحده يعلمحجم المصيبة العظمى الناشئة عن الانقطاع عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، والخروج من ظل رعايته، والله يعلم مستوى الخذلان عندما يمنى الإنسان بالحرمان من شفاعة رسول الله وأهل بيته العظام! لا تظن أن أحداً يرى رحمة الحق سبحانه ووجه الجنة، من دون شفاعة رسول الله صلى الله عليه وآله ورعايته!.
- تفريغ القلب: والأهم من تفريغ الوقت، تفريغ القلب، فعلى الإنسان لدى اشتغاله بالعبادة أن يجرد نفسه من هموم الدنيا ومشاغلها، ويبعد قلبه عن الأوهام المتشتتة والأمور المختلفة، ويفرغ فؤاده نهائياً، ويخلّصه بشكل كامل للتوجه للعبادة و المناجاة مع الحق المتعالي.
شقاؤنا أننا نترك كل أفكارنا وأوهامنا المختلفة إلى وقت العبادة، فإذا كبرنا تكبيرة الإحرام فكأننا فتحنا دفتر حساباتنا الدنيوية ومشاغلنا اليومية لنصرف قلوبنا إلى كل تلك الأمور غافلين عن العبادة، ولا نلتفت إلا وقد انتهينا من الصلاة!
فلنجعل على الأقل مناجاتنا مع الحق سبحانه بمثابة التحدث مع إنسان بسيط من هؤلاء الناس، فكيف أنك إذا تكلمت مع صديق، أو حتى مع شخص غريب، توجهت إليه بكل وجودك وانصرف قلبك عن غيره أثناء التكلم معه، فلماذا إذا تكلمت وناجيت ولي النعم ورب العالمين، غفلت عنه إلى غيره، هل أن العباد يقدرون أكثر من الذات المقدس الحق؟ أم أن التكلم مع العباد أهم من المناجاة مع قاضي الحاجات؟
اشتهر عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أن سهماً أصاب قدمه المبارك، فلم يستطع أن يتحمل ألم انتزاعه من رجله، فقام وصلى وفي أثناء اشتغاله بالصلاة، انتزع السهم ولم ينتبه أصلاً!
إن عدم إدراك الألم حين التوجه إلى شيء ليس من الأمور الغريبة، فإن له أمثلة كثيرة في الأمور العادية من حياة الناس. إن الإنسان عند هيجان الغضب أو المحبة يغفل عن كل شيء.
يجب على الإنسان أن يلجم خياله ويسيطر عليه بشكل تدريجي، فيراقب نفسه، ويمنع خياله من الإفلات، وبعد فترة سيدجن الخيال ويهدأ وتزول عنه حالة التشتت.
عن الإمام الصادق عليه السلام: "لأُحب للرجل المؤمن منكم إذا قام في صلاة فريضة أن يُقبِل بقلبه إلى الله ولا يشغل قلبه بأمر الدنيا، فليس من عبد يقبل بقلبه في صلاته إلى الله تعالى إلا أقبل الله إليه بوجهه وأقبل بقلوب المؤمنين إليه بالمحبة بعد حب الله إياه"9.
مراتب حضور القلب
يقول أهل المعرفة: العبادات بأسرها، ثناء للمعبود، ولكن كل منها ثناء للحق سبحانه بواسطة نعت من النعوت واسم من الأسماء، إلا الصلاة فإنها ثناء للحق سبحانه مع جميع الأسماء والصفات.
وقد ذكرنا فيما سبق أن ثناء المعبود والخضوع للكامل والجميل والمنعم والعظيم المطلق، من الفطرة التي جبل عليها جميع الناس، وباعتبار أن الثناء متوقف على معرفة الذات والصفات للمنعم من جهة، ومن جهة أخرى فإن كيفية ارتباط عالم الغيب بعالم الشهادة، وعالم الشهادة بعالم الغيب غير متيسر لأي شخص إلا عن طريق الوحي والإلهام الإلهي، صارت العبادات بشكل عام توقيفية، وبيد الحق تعالى، ولا يحق لأحد أن يشرع من عنده، ويبتدع عبادة على مزاجه، ولا يمكن قياس التواضع والخضوع المعهود أمام السلاطين والزعماء بما ينبغي أمام عظمة ساحة قدس رب العالمين.
بعد أن عرفنا هذا، يمكننا أن نفهم مراتب حضور القلب، حيث أنه ينقسم بصورة عامة إلى قسمين مهمين:
الأول - حضور القلب في العبادة
إن حضور القلب في العبادة له مراتب، عمدتها وأساسها مرتبتان اثنتان
إحداهما: حضور القلب في العبادة إجمالاً: فالإنسان لدى إنجازه لعبادة مهما كانت هذه العبادة، كالوضوء أو الصلاة أو الصيام أو الحج... يعرف إجمالاً انه يثني على المعبود، رغم عدم معرفته بتفاصيل هذا الثناء، أو أي اسم من أسماء الحق يدعو. كما لو أن شخصاً ينظم قصيدة في مدح أحد ثم يعطيها لطفل ليلقيها أمام الممدوح، فعندما يقرأ الطفل هذه القصيدة، يعلم إجمالاً أنه يثني على الممدوح رغم جهله لكيفية ثنائه عليه ولمعاني الكلمات التي يتلوها.
ثانيهما: حضور القلب في العبادة بصورة تفصيلية: إن المرتبة الكاملة من هذا الحضور القلبي غير متيسرة إلا للخلّص من أولياء الله وأهل معرفته. ولكن بعض مراتبها الدانية متيسرة الحصول للآخرين.
- فالمرتبة الأولى منها هي الالتفات إلى معاني الألفاظ في مثل الصلاة والدعاء.
- المرتبة الثانية أن يعرف حسب الإمكان أسرار العبادة، ويعلم كيفية ثناء المعبود في كل من الأوضاع والأحوال.
إن أهل المعرفة قد بينوا شيئاً قليلاً من أسرار الصلاة والعبادات الأخرى، واستفادوا حسب الإمكان من أخبار المعصومين عليهم السلام.
الثاني - حضور القلب في المعبود
وهذا له مراتبه الخاصة أيضاً، وعمدتها والأساس فيها ثلاثة مراتب
المرتبة الأولى: حضور القلب في تجليات الأفعال: وله مراحله الأربعة: العلم، الإيمان، الشهود، والفناء.
- حضور القلب في تجليات الأفعال العلمية: هو أن يدرك الإنسان بعقله من خلال البرهان أن كل الوجود بما فيه من عالم الغيب والشهادة هو فيض من كرم الله سبحانه وتعالى، وإن الجميع حاضرون عنده بلا تفاوت وكلهم مظهر مشيئته.
ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام: "خلق الله المشية بنفسها ثم خلق الأشياء بالمشية"10.
فإذا فهم العابد ذلك، فهم أنه وعبادته وعلمه وإرادته وقلبه وحركاته وظاهره وباطنه حاضرون في ساحة قدسه.
- حضور القلب في تجليات الأفعال الإيمانية: إذا انتقل دليل العقل لينتقش في القلب واعتقد به عبر الترويض العلمي والعملي، فصارت مسألة يقينية إيمانية في قلبه.
- حضور القلب في تجليات الأفعال الشهودية: إذا حصل كمال الإيمان، وبعد المجاهدة والترويض والتقوى الكاملة للقلب، تشمله الهداية الإلهية، ويصل إلى مرتبة الشهود والمعاينة، فيرى الحقائق ماثلة أمامه.
- حضور القلب في تجليات الأفعال الفنائية: إذا تكاملت مرحلة الشهود والعيان حتى يصبح القلب كلياً مرآة تتجلى فيها الحقائق ليحصل له بعد ذلك الفناء، فناء في تجليات الأفعال.
المرتبة الثانية: حضور القلب في تجليات الاسماء: إذا كان الإنسان مؤهلاً فإنه لن يبقى متوقفاً في مرحلة تجليات الأفعال، وإنما سينتقل إلى مرحلة يكون فيها مورداً لتجليات أسماء الله وصفاته، فيطوي تلك المراحل الأربعة أيضاً في هذه المرحلة (العلم، الإيمان، الشهود، والفناء). ولعله الكلمة القائلة: "إن أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري" إشارة إلى هؤلاء الأولياء.
المرتبة الثالثة: حضور القلب في تجليات الذات:إذا استطاع الإنسان أن يعبر المرتبة الثانية، فسيصير محلاً للتجليات الذاتية ويطوي المراحل الأربعة. قال بعض: إن الآية الكريمة ﴿وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾(النساء:100)، تشير إلى هذه الطائفة من أولياء الله والسالكين إليه وأجرهم لا يكون إلا على الذات المقدس تبارك وتعالى.
وقد يقدر أن ينهض الإنسان من هذه المرحلة ليقوم بهداية الناس: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنذِرْ﴾(المدثر:1-2).
فإن كان هذا الشخص وصل إلى مرحلة الإحاطة بجميع الشؤون - وهي مرحلة معرفة الاسم الأعظم - تم الكشف الكلي واختتمت النبوة بوجوده المقدس كما اختتمت بالنبي المعظم صلوات الله وسلامه عليه وآله.
فلو فرضنا أن شخصاً من أولياء الله تبعاً لذات النبي صلى الله عليه وآله وهداية الله سبحانه وتعالى، استطاع أن يصل إلى نفس المقام، فلن يفتح هذا باب النبوة من جديد لأنه لا يجوز التكرار في التشريع، فدائرة النبوة انتهت في وجوده المقدس صلى الله عليه وآله.
إن هذا الموضوع لا حظ لنا فيه إلا الألفاظ، والمهم لأمثالنا المحرومين من مقامات الأولياء أن لا نجحد هذه المقامات بل نسلم بها، فإن في التسليم لأمر الأولياء فوائد كثيرة، وفي الإنكار والعياذ بالله مفاسد. اللهم إني مسلم لأمرهم صلوات الله عليهم أجمعين .
التفرغ في العبادة يوجب الغنى في القلب
إن الغنى هو من الصفات الكمالية للباطن والنفس والذات، لذلك يعتبر الغنى من الصفات الذاتية للحق تعالى.
إن الثروة والأموال لا توجب غنى في النفس، بل نستطيع أن نقول إن من لا يملك غنى في النفس يكون حرصه تجاه المال والثراءأكثر، وحاجته أشد.
ولمّا لم يكن أحد غنياً حقيقياً أمام ساحة الحق جل جلاله الغني بالذات، وكانت الموجودات كلها بجميع مراتبها ودرجاتها، فقيرة ومحتاجة، لهذا كلما كان تعلق القلب إلى غير الحق، وتوجه الباطن نحو تعمير الملك والدنيا أشد، كان الفقر والحاجة أكثر، على جميع المستويات:
أما الحاجة القلبية والفقر الروحي، فواضح جداً، لأن نفس التعلق بتلك الأمور والتوجه إليها هو فقر.
وأما الحاجة الخارجية التي تؤكد بدورها الفقر القلبي، فهي أيضاً اكثر، لأن أحداً لا يستطيع النهوض بأعماله بنفسه، فيحتاج في ذلك إلى غيره. والأثرياء وإن ظهروا بمظهر الغنى، ولكن بالتمعن يتبين أن حاجتهم تتضاعف على قدر تزايد ثرواتهم. فالأثرياء فقراء في مظهر الأغنياء، ومحتاجون في زي من لا يحتاج.
وسينتج عن ذلك كله غبار الذل والمسكنة وظلام الهوان والحاجة، وفي الحديث " ان لا تفرغ لعبادتي أملأُ قلبك شغلاً بالدنيا ثم لا أسد فاقتك وأكلك إلى طلبك".
وعكس ذلك من وضع تحت قدميه التعلق بالدنيا، فإنه سيحوّل وجه قلبه إلى الغني المطلق، ويؤمن أن كل تلك الموجودات لها فقر ذاتي وحاجة أبدية، لا تملك لنفسها شيئاً. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾(فاطر:15).
وهكذا سيزداد غنى كلما استغنى عن العالمين أكثر، حتى يبلغ مستوى استغنائه درجة لا يرى لملك سليمان قيمة، ولا يأبه بخزائن الأرض عندما توضع بين يديه مفاتيحها.
يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام لابن عباس: "وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها".
ويقول الإمام علي بن الحسين عليه السلام: "أستنكف أن أطلب الدنيا من خالقها فكيف بطلبها من مخلوق مثلي".
عندما يعطي الإنسان قلبه إلى صاحبه الحقيقي ويعرض عن غيره ولا يسلم هذا القلب للغاصبين، سيتجلى فيه صاحبه الغني المطلق، ليدفع هذا القلب نحو الغنى المطلق، فيغرق القلب في بحر العزة والغنى. "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين"11.
وسيوصد باب الفقر لدى العبد نهائياً ليستغني عن العالمين، كما في الحديث القدسي: "وإنه ليتقرب إلي بالنافلة حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها"12.
وسيكون نتيجة ذلك أيضاً إرتفاع الخوف من جميع الكائنات، ليحلّ الخوف من الحق المتعالي محله.
1- أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب العبادة، حديث 1.
2- أخبار العلوم، المجلد الرابع، ص256.
3- وسائل الشيعة، المجلد الثالث، الباب الثالث من أبواب المواقيت، حديث 17.
4- أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب إدخال السرور على المؤمنين، الحديث 8.
5- فروع الكافي، المجلد الثالث، ص363.
6- وسائل الشيعة، المجلد الرابع، الباب الثالث من أبواب أفعال الصلاة، الحديث 6.
7- فروع الكافي، المجلد الثالث، ص269.
8- فروع الكافي، ص270.وسائل الشيعة، المجلد الرابع، الباب الثاني من أبواب أفعال الصلاة، حديث 6
9- وسائل الشيعة، المجلد الرابع، الباب الثاني من أبواب أفعال الصلاة، حديث 6.
10- أصول الكافي، المجلد الأول، كتاب التوحيد، باب الإرادة من صفات الفعل، حديث 4.
11- الخطبة 224 من نهج البلاغة.
12- أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب من أذى المسلمين، حديث 8.