حب الكمال المطلق من (الأربعون حديثاً)
العلاقة مع الله
عن الإمام علي عليه السلام:الحر حر وإن مسّه الضر، والعبد عبد وإن ساعده القدر.الإنسان بفطرته يحب الكمال التام المطلق: إن الله سبحانه وتعالى فطر الإنسان على عشق الكمال التام المطلق وجبل الذات الإنسانية على ذلك، وهذا ما يحس به كل إنسان بوجدانه
عدد الزوار: 101
عن الإمام علي عليه السلام: "الحر حر وإن مسّه الضر، والعبد عبد وإن ساعده القدر".
الإنسان بفطرته يحب الكمال التام المطلق
إن الله سبحانه وتعالى فطر الإنسان على عشق الكمال التام المطلق وجبل الذات الإنسانية على ذلك، وهذا ما يحس به كل إنسان بوجدانه، فيجد قلبه يتوجه شطر الجميل على الإطلاق، والكامل من جميع الوجوه.
غير أن كل امرئ يرى الكمال في شيء ما حسب حاله ومقامه، فيتوجه قلبه إليه: فأهل الآخرة يرون الكمال في مقامات الآخرة ودرجاتها، فقلوبهم متوجهة إليها.وأهل الله يرون الكمال في جمال الحق، والجمال في كماله سبحانه يقولون: ﴿...وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ...﴾(الأنعام:79).
ويقولون: "لي مع الله حال"1.
فهم محبون للإرتباط به تعالى، عاشقون لصفاته الجميلة.
وأهل الدنيا عندما توهموا أن الكمال في لذائذ الدنيا، وتبين لأعينهم جمالها، اتجهوا فطرياً نحوها. فسعي أهل الدنيا وراءها هو تطبيق خاطئ لفطرتهم، هذه الفطرة وذاك العشق الذي يربطهم بالكمال المطلق، والذي يعتبر كل ما عداه مجرد أمر ثانوي فتعلق القلب بهذه الأمور الثانوية العرضية هو خطأ في فهم الكمال ومعرفته ليس إلاّ.
أسر الشهوة أساس البلاء ومانع الكمال
إن الإنسان مادام يرزح في قيود النفس والشهوات، ومادامت سلاسل الغضب والشهوة الطويلة على رقبته، لا يستطيع أن يبلغ المقامات المعنوية والروحانية، ولا تظهر فيه السلطة الباطنية للنفس، وإرادتها الثابتة، ولا يحصل له مقام استقلال النفس وعزتها الذي هو أرقى مقام لكمال الروح، بل إن هذا الأسر والرق يقيده ولا يسمح له بالتمرد على النفس في جميع الأحوال.
وإذا قويت هيمنة النفس الأمارة والشيطان في الباطن، وانقادت جميع القوى لهما في العبودية والطاعة وأبدت لهما الخضوع والتسليم التامين، لما اقتصرتا على المعاصي بل دفعتا الإنسان من المعاصي الصغيرة رويداً رويداً إلى المعاصي الكبيرة، ومنها إلى ضعف في العقائد، ثم إلى الأفكار المظلمة، ثم إلى متاهات الجحود، ثم إلى بغض وعداوة الأنبياء والأولياء، وستكون النفس عاجزة أمام كل ذلك بسبب حالة الرق التي تعيشها وعدم قدرتها على مخالفة رغباتها. وستكون عاقبة الأمر وخيمة جداً. وستدفع الإنسان إلى أماكن خطيرة ومخيفة.
أسر الشهوة مصدر كل أسر
إن الإنسان إذا أصبح مقهوراً لهيمنة الشهوة والميول النفسية، كان رقه وعبوديته وذله بقدر مقهوريته لتلك السلطات الحاكمة عليه.
ومعنى العبودية لشخص هو الخضوع التام له وإطاعته، فكلما توحي هذه السلطات بشيء للإنسان أطاعها بمنتهى الخضوع، ويبلغ الأمر إلى مستوى يفضّل طاعها عن طاعة خالق السماوات والأرض، وعبوديتها على عبودية مالك الملوك الحقيقي. فتزول عن نفسه العزة والكرامة والحرية، ويحلّ محلها الذل والهوان والعبودية. فيخضع لأهل الدنيا وينحني أمام ذوي الجاه، ويستسيغ الهوان لأجل الترفيه عن البطن والفرج، كل ذلك يحدث منه ما دام أسيراً لهوى النفس والشهوة.
هذا على مستوى المفاسد الدنيوية، وأما في دار الحق فكيف ستتجلى صورة هذا الأسر وكيف ستظهر أغلال الشهوات؟ لعل هذه السلسلة التي طولها سبعون ذراعاً والتي أخبر عنها الله تعالى والتي تكون أصفاداً وأغلالاً لنا في يوم الآخرة هي الصورة التي سيظهر بها هذا الاسر والرق في ظل أوامر القوة الشهوية والغضبية.
يقول الله تعالى:﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا﴾(الكهف:49).
وفي آية أخرى:﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾(البقرة:286).
فما يصل إلينا في ذلك العالم هو صورة أعمالنا.
فعليك أن تمزق سلاسل الشهوة والأهواء المتعرجة بعضها على بعض، وتحطم أصفاد القلوب وتخرج من قيود الأسر ولتكن حراً في هذا العالم لتكون حراً في ذلك العالم.
كيف نتحرر من أسر الشهوة
إن الإنسان العاقل لا بد له من السعي واللجوء إلى كل سبيل لإنقاذ نفسه من الأسر، والنهوض أمام النفس الامارة والشيطان الباطني، ما دامت الفرصة سانحة وقواه الجسدية سليمة، ومادام على قيد الحياة، وقواه لم تتسخر كلياً، فليتأمل في أحوال نفسه وأحوال الماضين ويتمعن في سوء العاقبة، ويُفهم نفسه أن هذه الأيام القليلة تبلى، ويوقظ قلبه ويفهمهالحقيقة التالية المنقولة عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله حيث خاطبنا قائلاً: "الدنيا مزرعة الآخرة"2، فإذا غشينا الموت وحلّ العالم الآخر انقطعت أعمالنا وذهبت آمالنا نهائياً.
إن معالجة النفس لا تكون إلا بواسطة أمرين:
العمل: فعليه أن يبادر إلى ترويض نفسه والسيطرة عليها من خلال الإلتزام بالشرع المقدس، ومن خلال مخالفة النفس فترة من الزمن، يتم خلالها ردع النفس وترويضها تجاه الحب المفرط للدنيا والشهوات والأهواء، حتى تتعود على الخيرات والكمالات.
العلم: يجب تلقين النفس وإبلاغ القلب أن جميع الناس محتاجون فقراء ضعاف عاجزون، وهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، فكيف يملكون لغيرهم؟! إنهم أتفه من أن تنعطف النفس إليهم ويخشع القلب أمامهم. هم جميعاً متشابهون في الحاجة إلى الغني المطلق القادر على جميع الأمور.
إن القادر الذي منحهم العزة والشرف والمال والوجاهة قادر على منح أي شخص أراد.
أثر التحرر من أسر الشهوة
من العار حقيقة على الإنسان أن يتذلل وينحط في سبيل بطنه وشهوته، ويتحمل الامتنان من مخلوق فقير ذليل لا حول له ولا علم ولا وعي.
إذا أردت أيها الإنسان أن تقبل المنة فلتكن من الغني المطلق وخالق السماوات والأرض، فإنك إذا وجهت وجهك إلى الذات المقدسة، وخشع في محضره قلبك، فسيكون لذلك العديد من الآثار العظمية التي نذكر منها:
أ- ستخلع من رقبتك طوق العبودية لغير الله سبحانه وتعالى، وستتحرر من العالمين.
ب- نتيجة لعبودية الحق والإنتباه إلى نقطة واحدة مركزية، وإفناء كل القوى والسلطات النفس وأهوائها في السلطة الإلهية المطلقة، تنجم حالة في القلب تقهر العوالم الأخرى وتستولي عليها، وتظهر للروح حالة من الشموخ والعظمة تأبى الطاعة إلا أمام الرب سبحانه وأمام من تكون طاعتهم طاعة ذات ا لحق المقدس. ولو فرض أنه - وجراء ظروف طارئة - محكوماً لأحد، لما تزلزل قلبه منه ولحافظ على حرية نفسه واستقلالها، كما كان الشأن في النبي يوسف ولقمان حيث لم تنعكس سلباً عبوديتهما الظاهرية على حرية وانطلاقة نفسيهما.
كم من أصحاب القدرة والسلطة الظاهرية لم يستنشقوا نسمة حرية النفسوقيمتها، فتراهم أذلاء وعبيداً للنفس وأهوائها، يتزلفون نحو المخلوق التافه؟!.
في رواية عن الإمام علي بن الحسين عليه السلام: "إني لآنف أن أطلب الدنيا من خالقها فكيف من مخلوق مثلي"3.
ج- من ثماره أيضاً الغنى غنى النفس: إن عدم الحاجة هو من حالات الروح، وهو غير مرتبط بأمورٍ مادية خارج الإنسان. نحن نرى أناساً من أهل الثراء والمال والجاه يتفوهون بكلمات يندى لها الجبين ولا يقولها المستجدي المتهتك، إنه مسكين ضربت على روحه الذلة والمسكنة.
إن شعب اليهود بالنسبة لعددهم يعتبرون من أغنى شعوب الأرض، ولكنهم يعيشون طيلة حياتهم في الشقاء والتعاسة والشدة والهوان، وتبدو على ملامحهم الحاجة والفقر والذل والمسكنة، وهذا كله سببه الفقر النفسي والذل الروحي.
فيما نرى في أصحاب الزهد وذوي الحياة البسيطة أشخاصاً قلوبهم مفعمة بالغنى والكفاف، ويلقون نظرة اللامبالاة على الدنيا وكل ما فيها ولا يجدون أحداً أهل للاستنجاد به إلا الحق المقدس المتعالي.
أيها العزيز على الرغم من أن هذا العالم ليس بدار الجزاء والمكافأة وإنما هو سجن المؤمن، فلو تحررت من أسر النفس وأصبحت عبداً للحق المتعالي وجعلت القلب موحداً، وأجليت مرآة روحك من غبار النفاق، وأرسلت قلبك إلى النقطة المركزية للكمال المطلق لشاهدت بعينك آثار ذلك في هذا العالم، ولتوسع قلبك حتى يصبح محلاً لظهور السلطة الإلهية التامة وهو ما لا تسعه جميع العوالم "لا يسعني أرضي ولا سمائي ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن"4. ولشعرت غنى واضحاً في النفس، حيث لم تعبأ بكل العوالم الغيبية والمادية، ولأصبحت إرادتك قوية،وكان يقال في بعض الأشعار الفارسية ما معناه: هل رأيت تحليق الطير؟، إنسلخ من أغلال الشهوة حتى ترى تحليق الإنسان.
1- إشارة إلى الحديث المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل.
2- إحياء العلوم للغزالي، المجلد الرابع، ص14.
3- علل الشرائع، المجلد الأول، باب 165، العلة التي من أجلها سمي علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام.
4- غوالي اللئالي، المجلد الرابع، ص7.