يتم التحميل...

امكان ازالة الغضب و طرق علاجه

مواعظ حسنة

قد اختلف علماء الاخلاق في امكان ازالة الغضب بالكلية و عدمه، فقيل: قمع اصل الغضب من القلب غير ممكن، لانه مقتضى الطبع، انما الممكن كسر سورته و تضعيفه، حتى لا يشتد هيجانه، و انت ‏خبير بان الغضب الذي يلزم ازالته هو الغضب المذموم،

عدد الزوار: 117

قد اختلف علماء الاخلاق في امكان ازالة الغضب بالكلية و عدمه، فقيل: قمع اصل الغضب من القلب غير ممكن، لانه مقتضى الطبع، انما الممكن كسر سورته و تضعيفه، حتى لا يشتد هيجانه، و انت ‏خبير بان الغضب الذي يلزم ازالته هو الغضب المذموم، اذ غيره مما يكون باشارة العقل و الشرع ليس غضبا فيه كلامنا، بل هو من آثار الشجاعة، و الاتصاف به من اللوازم، و ان اطلق عليه اسم الغضب احيانا حقيقة او مجازا، كما روي عن امير المؤمنين عليه السلام انه قال: "كان النبي-صلى الله عليه و آله و سلم-لا يغضب للدنيا، و اذا اغضبه الحق لم يصرفه احد، و لم يقم لغضبه شي‏ء حتى ينتصر له". و لا ريب ان الغضب الذي يحصل لرسول الله-صلى الله عليه و آله و سلم-لم يكن غضبا مذموما، بل كان غضبا ممدوحا يقتضيه منصب النبوة، و توجيه الشجاعة النبوية. ثم الغضب المذموم ممكن الزوال، و لولا امكانه لزوم وجوده للانبياء و الاوصياء، و لا ريب في بطلانه.

ثم علاجه يتوقف على امور، و ربما حصل ببعضها:

(الاول) ازالة اسبابه المهيجة له،
اذ علاج كل علة بحسم مادتها، و هي: العجب، و الفخر، و الكبر، و الغدر، و اللجاج، و المراء، و المزاح، و الاستهزاء، و التعيير، و المخاصمة، و شدة الحرص على فضول الجاه و الاموال الفانية، و هي باجمعها اخلاق ردية مهلكة، و لا خلاص من الغضب مع بقائها، فلا بد من ازالتها حتى تسهل ازالته.

(الثاني) ان يتذكر قبح الغضب و سوء عاقبته، و ما ورد في الشريعة من الذم عليه، كما تقدم.

(الثالث) ان يتذكر ما ورد من المدح و الثواب على دفع الغضب في موارده، و يتامل فيما ورد من فوائد عدم الغضب، كقول النبي-صلى الله عليه و آله و سلم-: "من كف غضبه عن الناس كف الله تبارك و تعالى عنه عذاب يوم القيامة". و قول الباقر عليه السلام: "مكتوب في التوراة: فيما ناجى الله به موسى: امسك غضبك عمن ملكتك عليه اكف عنك غضبي". و قول الصادق عليه السلام: "اوحى الله تعالى الى بعض انبيائه: يابن آدم! اذكرني في غضبك اذكرك في غضبي، و لا امحقك فيمن امحق، و اذا ظلمت‏ بم ظلمة فارض بانتصاري لك، فان انتصاري لك خير من انتصارك لنفسك". و قوله عليه السلام: "سمعت ابي يقول: اتى رسول الله-صلى الله عليه و آله و سلم-رجل بدوي: فقال: اني اسكن البادية، فعلمني جوامع الكلم. فقال: آمرك الا تغضب. فاعاد الاعرابي عليه المسالة ثلاث مرات، حتى رجع الرجل الى نفسه، فقال: لا اسالك عن شي‏ء بعد هذا، ما امرني رسول الله-صلى الله عليه و آله-الا بالخير". و قوله عليه السلام: "ان رسول الله-صلى الله عليه و آله- اتاه رجل، فقال: يا رسول الله! علمني عظة اتعظ بها، فقال له: انطلق و لا تغضب، ثم عاد عليه، فقال له: انطلق و لا تغضب... ثلاث مرات" و قوله عليه السلام: "من كف غضبه ستر الله عورته"... الى غير ذلك من الاخبار.

(الرابع) ان يتذكر فوائد ضد الغصب، اعني الحلم و كظم الغيظ، و ما ورد من المدح عليهما في الاخبار و يواظب على مباشرته و لو بالتكلف، فيتحلم و ان كان في الباطن غضبانا، و اذا فعل ذلك مدة صار عادة مالوفة هنيئة على النفس، فتنقطع عنها اصول الغضب.

(الخامس) ان يقدم الفكر و الرواية على كل فعل او قول يصدر عنه، و يحافظ نفسه من صدور غضب عنه.

(السادس) ان يحترز عن مصاحبة ارباب الغضب، و الذين يتبجحون بتشفي الغيظ و طاعة الغضب، و يسمون ذلك شجاعة و رجولية، فيقولون: نحن لا نصبر على كذا و كذا، و لا نحتمل من احد امرا. و يختار مجالسة اهل الحلم، و الكاظمين الغيظ، و العافين عن الناس.

(السابع) ان يعلم ان ما يقع انما هو بقضاء الله و قدره، و ان الاشياء كلها مسخرة في قبضة قدرته، و ان كل ما في الوجود من الله، و ان الامر كله لله، و ان الله لا يقدر له ما فيه الخيرة، و ربما كان صلاحه في جوعه، او مرضه، او فقره، او جرحه او قتله، او غير ذلك. فاذا علم بذلك غلب عليه التوحيد، و لا يغضب على احد، و لا يغتاظ عما يرد عليه، اذ يرى-حينئذ- ان كل شي‏ء في قبضة قدرته اسير، كالقلم في يد الكاتب. فكما ان من وقع عليه ملك بضرب عنقه لا يغضب على القلم، فكذلك من عرف الله و علم ان هذا النظام الجملى صادر منه على وفق الحكمة و المصلحة، و لو تغيرت ذرة منه عما هي عليه خرجت عن الاصلحية، لا يغضب على احد، الا ان غلبة التوحيد على هذا الوجه كالكبريت الاحمر و توفيق الوصول اليه من الله الاكبر. و لو حصل لبعض المتجردين عن جلباب البدن يكون كالبرق الخاطف، و يرجع القلب الى الالتفات الى الوسائط رجوعا طبيعيا، و لو تصور دوام ذلك لاحد لتصور لفرق الانبياء، مع ان التفاتهم في الجملة الى الوسائط مما لا يمكن انكاره.

(الثامن) ان يتذكر ان الغضب مرض قلب و نقصان عقل، صادر عن ضعف النفس و نقصانها، لا عن شجاعتها و قوتها، و لذا يكون المجنون اسرع غضبا من العاقل، و المريض اسرع غضبا من الصحيح. و الشيخ الهرم اسرع غضبا من الشاب، و المراة اسرع غضبا من الرجل، و صاحب الاخلاق السيئة و الرذائل القبيحة اسرع غضبا من صاحب الفضائل. فالرذل يغضب لشهوته اذا فاتته اللقمة، و البخيل يغاظ لبخله اذا فقد الحبة، حتى يغضب لقد ادنى شى‏ء على اعزة اهله و ولده. و النفس القوية المتصفة بالفضيلة اجل شانا من ان تتغير و تضطرب لمثل هذه الامور، بل هي كالطود الشاهق و لا تحركه العواصف، و لذا قال سيد الرسل-صلى الله عليه و آله و سلم-: "ليس الشديد بالصرعة، انما الشديد الذى يملك نفسه عند الغضب". و ان شككت في ذلك فافتح عينيك و انظر الى طبقات الناس الموجودين، ثم ارجع الى كتب السير و التواريخ، و استمع الى حكايات الماضين، حتى تعلم: ان الحلم و العفو و كظم الغيظ شيمة الانبياء و الحكماء و اكابر الملوك و العقلاء، و الغضب خصلة الجهلة و الاغبياء.

(التاسع) ان يتذكر ان قدرة الله عليه اقوى و اشد من قدرته على هذا الضعيف الذي يغضب عليه، و هو اضعف في جنب قوته القاهرة بمراتب غير متناهية من هذا الضعيف في جنب قوته، فليحذر، و لم يامن اذا امضى غضبه عليه ان يمضى الله عليه غضبه في الدنيا و الآخرة، و قد روي: "انه ما كان في بنى اسرائيل ملك الا و معه حكيم، اذا غضب اعطاه صحيفة فيها: (ارحم المساكين، و اخش الموت، و اذكر الاخرة) ، فكان يقراها حتى يسكن غضبه" و في بعض الكتب الالهية: "يا ابن آدم! اذكرنى حين تغضب اذكرك حين اغضب، فلا امحقك فيمن امحق".

(العاشر) ان يتذكر ان من يمضي عليه غضبه ربما قوى و تشمر لمقابلته و جرد عليه لسانه باظهار معائبه و الشماتة بمصائبه، و يؤذيه في نفسه و اهله و ماله و عرضه.

(الحادي عشر) ان يتفكر في السبب الذي يدعوه الى الغيظ و الغضب
فان كان خوف الذلة و المهانة و الاتصاف بالعجز و صغر النفس عند الناس، فليتنبه ان الحلم و كظم الغيظ و دفع الغضب عن النفس ليست ذلة و مهانة، و لم يصدر من ضعف النفس و صغرها، بل هو من آثار قوة النفس و شجاعتها و اضدادها تصدر من نقصان النفس و خورها. فدفع الغضب عن نفسه لا يخرجه من كبر النفس في الواقع، و لو فرض خروجه به منه في اعين جهلة الناس فلا يبالى بذلك، و يتذكر ان الاتصاف بالذلة و الصغر عند بعض اراذل البشر اولى من خزي يوم المحشر و الافتضاح عند الله الملك الاكبر، و ان كان السبب خوف ان يفوت منه شي‏ء مما يحبه، فليعلم ان ما يحبه و يغضب لفقده اما ضروري لكل احد، كالقوت و المسكن و اللباس و صحة البدن، و هو الذى اشار اليه سيد الرسل-صلى الله عليه و آله و سلم-بقوله: "من اصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه، و له قوت يومه، فكانما خيرت له الدنيا بحذافيره". او غير ضرورى لاحد، كالجاه و المنصب و فضول الاموال.
او ضرورى لبعض الناس دون بعض، كالكتاب للعالم، و ادوات الصناعات لاربابها. و لا ريب ان كل ما ليس من هذه الاقسام ضروريا فلا يليق ان يكون محبوبا عند اهل البصيرة و ذوى المروات، اذ ما لا يحتاج اليه الانسان في العاجل لا بد له من تركه في الآجل، فما بال العاقل ان يحبه و يغضب لفقده و اذا علم ذلك لم يغضب على فقد هذا القسم البتة. و اما ما هو ضرورى للكل او البعض، و ان كان الغضب و الحزن من فقده مقتضى الطبع لشدة الاحتياج اليه، الا ان العاقل اذا تامل يجد ان ما فقد عنه من الاشياء الضرورية ان امكن رده و الوصول اليه يمكن ذلك بدون الغيظ و الغضب ايضا، و ان لم يمكن لم يمكن معهما ايضا. و على اى حال بعد التامل يعلم ان الغضب لا ثمرة له سوى تالم العاجل و عقوبة الآجل، و حينئذ لا يغضب، و ان غضب يدفعه عن نفسه بسهولة.

(الثاني عشر) ان يعلم ان الله يحب منه الا يغضب، و الحبيب يختار البتة ما يحب محبوبه، فان كان محبا لله فليطفى‏ء شدة حبه له غضبه.

(الثالث عشر) ان يتفكر في قبح صورته و حركاته عند غضبه، بان يتذكر صورة غيره و حركاته عند الغضب.


* جامع السعادات / العارف النراقي – فصل الغضب

2011-12-22