يتم التحميل...

خوف سوء الخاتمة و اسبابه

مواعظ حسنة

قد اشير الى ان اعظم المخاوف خوف سوء الخاتمة، و له اسباب مختلفة ترجع الى ثلاثة: (الاول) و هو الاعظم، و هو ان يغلب على القلب عند سكرات الموت و ظهور اهواله، اما الجحود او الشك، فتقبض الروح في تلك الحالة، و تصير عقدة الجحود او الشك حجابا بينه و بين الله تعالى،

عدد الزوار: 109

قد اشير الى ان اعظم المخاوف خوف سوء الخاتمة، و له اسباب مختلفة ترجع الى ثلاثة:

(الاول) و هو الاعظم، و هو ان يغلب على القلب عند سكرات الموت و ظهور اهواله، اما الجحود او الشك، فتقبض الروح في تلك الحالة، و تصير عقدة الجحود او الشك حجابا بينه و بين الله تعالى، و ذلك يقتضى البعد الدائم، و الحرمان اللازم، و خسران الابد، و العذاب المخلد. ثم هذا الجحود او الشك اما يتعلق ببعض العقائد الاصولية، كالتوحيد و علمه تعالى او غير ذلك من صفاته الكمالية، او بضروريات امر الآخرة و النبوة. و كل واحد من ذلك كاف في الهلاك و زهوق النفس على الزندقة. او يتعلق بجميعها اما اصالة او سراية، و المراد بالسراية ان الرجل ربما اعتقد في ذات الله و صفاته و افعاله خلاف ما هو الحق و الواقع، اما برايه و معقوله، او بالتقليد، فاذا قرب الموت و ظهرت سكراته و اضطرب القلب بما فيه، ربما انكشف بطلان ما اعتقده جهلا، اذ حال الموت حال كشف الغطاء، و يكون ذلك سببا لبطلان بقية اعتقاداته او الشك فيها، و ان كانت صحيحة مطابقة للواقع، اذ لم يكن عنده اولا فرق بين هذا الاعتقاد الفاسد الذي انكشف فساده و بين سائر عقائده الصحيحة، فاذا علم خطاه في البعض لم يبق له اليقين و الاطمئنان في البواقي. كما نقل ان (الفخر الرازي) بكى يوما، فسالوه عن سبب بكائه، قال: "اعتقدت في مسالة منذ سبعين سنة على نحو انكشف اليوم لي بطلانه، فما ادراني ان لا تكون سائر عقائدي كذلك‏".

و بالجملة: ان اتفق زهوق روحه في هذه الخطرة قبل ان ينيب و يعود الى اصل الايمان، فقد ختم له بالسوء و خرجت روحه على الشرك، اعاذنا الله منه، و ثبتنا على الاعتقاد الحق لديه، و هم المقصودون من قوله: ﴿وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ. و من قوله: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا*الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا. و البله: اعنى الذين آمنوا بالله و رسوله و اليوم الآخر ايمانا مجملا راسخا، بمعزل عن هذا الخطر، و لذلك ورد: ان اكثر اهل الجنة البله. و ورد المنع من البحث و النظر و الخوض في الكلام، و الاخذ بظواهر الشرع، مع اعتقاد كونه تعالى منزها عن النقص متصفا بما هو الغاية و النهاية من صفات الكمال و السر في ذلك: ان البله اذا اخذوا بما ورد من الشرع و اعتقدوا به، يثبتون عليه لقصور اذهانهم عن درك الشبهات و عدم اعتيادهم بالتشكيك، فلا يختلج ‏ببالهم شك و شبهة و لو عند الموت. و اما الخائضون في غمرات البحث و النظر، و الآخذون عقائدهم من عقولهم المزجاة، فليس لهم تثبت على عقائدهم، اذ العقول عن درك صفات الله و سائر العقائد الاصولية على ما هي عليه قاصرة، و الادلة التي يستخرجها مضطربة متعارضة. و ابواب الشكوك و الشبهات بالخوض و البحث تصير مفتوحة. فاذهانهم دائما محل تعارض العقائد و الشكوك، فربما ثبتت لهم عقيدة بملاحظة بعض دلائله، فيحصل لهم فيها طمانينة، ثم يعرض لهم شك يرفعها او يضعفها، فهم دائما في غمرات الحيرة و الاضطراب. فاذا كان حالهم هذا فاخذتهم سكرات الموت، فاى استبعاد في ان يختلج لهم حينئذ شك في بعض عقائدهم. و مثله مثل من انكسرت سفينته و هو في ملتطم الامواج يرميه موج الى موج، و الغالب في مثله الهلاك، و ان اتفق نادرا ان يرميه موج الى الساحل.

و قد نقل عن (نصير الدين الحلي) -و هو من اعاظم المتكلمين-انه قال: "اني تفكرت في العلوم العقلية سبعين سنة، و صنفت فيها من الكتب ما لا يحصى، لم يظهر لي منها شي‏ء سوى ان لهذا المصنوع صانعا، و مع ذلك عجائز القوم في ذلك اشد يقينا منى‏". فالصواب تلقى اصل الايمان و العقائد من صاحب الوحى، مع تطهير الباطن عن خبائث الاخلاق، و الاشتغال بالطاعات و صوالح الاعمال، و عدم التعرض لما هو خارج عن طاقتهم من التفكر في حقائق المعارف، الا من ايده الله بالقوة القدسية و القريحة المستقيمة، و اشرق نور الحكمة في قلبه. و شمله خفى الالطاف من ربه، فله الخوض في غمرات العلوم. و اما غيره فينبغي ان ياخذ منه اصول عقائده الواردة من الشرع، و يشتغل بخدمته حتى تشمله بركات انفاسه، فان العاجز عن المجاهدة فى صف القتال ينبغي ان يسقي القوم و يتعهد دوابهم، ليحشر يوم القيامة في زمرتهم و ان كان فاقدا لدرجتهم.

(الثاني) ضعف الايمان في الاصل، و مهما ضعف الايمان ضعف حب الله و قوى حب الدنيا في القلب، و استولى عليه بحيث لا يبقى في القلب موضع لحب الله الا من حيث ‏حديث النفس، فلا يظهر له اثر في مخالفة النفس و الشيطان، فيورث ذلك الانهماك في اتباع الشهوات، حتى يظلم القلب و يسود، و تتراكم ظلمة الذنوب عليه، و لا يزال يطفى‏ء ما فيه من نور الايمان حتى ينطفى‏ء بالكلية، فاذا جاءت سكرة الموت ازداد حب الله ضعفا، و ربما عدم بالمرة، لما يستشعر من فراقه محبوبه الغالب على قلبه و هو الدنيا، فيتالم و يرى ذلك من الله، فيختلج ضميره بانكاره ما قدره الله من الموت، و ربما يحدث في باطنه بغض الله بدل الحب، لما يرى ان موته من الله، كما ان من يحب ولده حبا ضعيفا، اذا اخذ مالا له هو احب اليه منه و اتلفه، و انقلب حبه بغضا. فان اتفق زهوق روحه في تلك اللحظة التي خطر فيها هذه الخطرة فقد ختم له بالسوء. نعوذ بالله من ذلك. و قد ظهر ان السبب المفضي الى ذلك غلبة حب الدنيا مع ضعف الايمان الموجب لضعف حب الله، فمن وجد في قلبه حب الله اغلب من حب الدنيا فهو ابعد من هذا الخطر، و ان احب الدنيا ايضا، و من وجد في قلبه عكس ذلك فهو قريب من هذا الخطر. و السبب في قلة حب الله قلة المعرفة به، اذ لا يحب الله الا من عرفه، و الى هذا القسم من سوء الخاتمة اشير في الكتاب الالهى بقوله: "قل ان كان آباؤكم و ابناؤكم و اخوانكم و ازواجكم و عشيرتكم و اموال اقترفتموها و تجارة تخشون كسادها و مساكن ترضونها احب اليكم من الله و رسوله و جهاد فى سبيله فتربصوا حتى ياتي الله بامره‏". فمن فارقته روحه فى حالة كراهة فعل الله و بغضه له في تفريقه بينه و بين اهله و ماله و سائر محابه، فيكون موته قدوما على ما ابغضه و فراقا لما احبه فيقدم على الله قدوم العبد المبغض الآبق اذا قدم به على مولاه قهرا، و لا يخفى ما يستحق مثله من الخزى و النكال و اما الذى يموت على حب الله و الرضا بفعله كان قدومه قدوم العبد المحسن المشتاق الى مولاه، و لا يخفى ما يلقاه من الفرح و السرور.

(و الثالث) كثرة المعاصي و غلبة الشهوات على قوى الايمان. و بيان ذلك: ان مفارقة المعاصي سببها غلبة الشهوات و رسوخها في القلب بكثرة الالف و العادة، و جميع ما الفه الانسان في عمره يعود ذكره في قلبه عند موته، فان كان اكثر ميله الى الطاعات كان اكثر ما يحضره عند الموت طاعة الله، و ان كان اكثر ميله الى المعاصى غلب ذكرها على قلبه عنده، و ان كان اكثر شغله السخرية و الاستهزاء و المزاح و امثال ذلك كان الغالب عند الموت ذلك، و هكذا الحال فى جميع الاشغال و الاعمال الغالبة في عمره، فانها تغلب على قلبه عند موته، فربما يقبض روحه عند غلبة شهوة من شهوات الدنيا و معصية من المعاصى، فيعتقد بها قلبه، و يصير محجوبا عن الله تعالى. و هو المراد بالختم على السوء. فالذى غلبت عليه المعاصى و الشهوات، و كان قلبه اميل اليها منه الى الطاعة، فهذا الخطر قريب في حقه و لا يميل اليها اصلا، فهو بعيد منها جدا. و من غلبت عليه الطاعات و لم يقارف المعاصي الا نادرا، فلعل الراجح في حقه النجاة منه،. و من لم يغلب شى‏ء من طاعاته و معاصيه على الآخر فامره في هذا الخطر الى الله، و لا يمكن لنا الحكم بشى‏ء من القرب و البعد في حقه، نعوذ بالله من معاصيه ونسأله حسن العاقبة.


* جامع السعادات / العارف النراقي ج1 ص 85_88.

2011-12-22