الأدلة على عصمة الأنبياء
العصمة العامة
الإعتقاد بعصمة الأنبياء من الذنوب والمعاصي العمدية والسهوية من المعتقدات القطعية والمعروفة عند الشيعة. ويمكن تقسيم الأدلة التي ذكرت لعصمة الأنبياء عليهم السلام إلى مجموعتين: إحداهما: الأدلة العقلية، والثانية: الأدلة النقلية، وإن كان الإعتماد على الأدلة النقلية أكثر ...
عدد الزوار: 477
المقدمة
الإعتقاد بعصمة الأنبياء من الذنوب والمعاصي العمدية والسهوية من المعتقدات القطعية والمعروفة عند الشيعة.
ويمكن تقسيم الأدلة التي ذكرت لعصمة الأنبياء عليهم السلام إلى مجموعتين: إحداهما: الأدلة العقلية، والثانية: الأدلة النقلية، وإن كان الإعتماد على الأدلة النقلية أكثر ونحن هنا نستعرض دليلين عقليين، ثم نذكر بعض الأدلة القرآنية.
الأدلة العقلية على عصمة الأنبياء
الدليل العقلي الأول على لزوم عصمة الأنبياء عليهم السلام من إرتكاب المعاصي: إن الهدف الأصلي من بعثتهم هو هداية البشر للحقايق الوظائف التي عينها الله للبشر، وفي الواقع أنهم سفراء من الله للبشر، يلزم عليهم هداية الآخرين للطريق المستقيم، فإذا كان هؤلاء السفراء أنفسهم غير ملتزمين بالتعاليم الإلهية، بل يعملون بما يخالف محتويات رسالتهم، وهم انفسهم يخالفون أقوالهم وتعاليمهم فإن الناس سيرون في عملهم هذا بيانا مخالفا لأقوالهم، وبذلك سوف لا يثقون بأقوالهم ايضا، ونتيجة لذلك سوف لا يتحقق الهدف من بعثتهم بصورة كاملة. إذن فالحكمة واللطف الإلهيان يقتضيان أن يكون الأنبياء معصومين ومنزهين عن المعاصي، بل لا يصدر منهم العمل غير الصالح حتى سهوا ونسيانا، لئلا يحتمل الناس أنهم إتخذوا إدعاء السهو والنسيان مسوغا لإرتكابهم الذنب والمعصية.
الدليل العقلي الثاني على عصمة الأنبياء: إن الأنبياء كما أنهم مكلفون بابلاغ محتوى الوحي والرسالة للناس، وهدايتهم للطريق المستقيم، كذلك هم مكلفون بالقيام بتزكية الناس وتربيتهم وإصلاحهم، وإيصال الأفراد المؤهلين وذوي الإستعداد إلى آخر مرحلة من مراحل الكمال الإنساني، وبتعبير آخر: إن على عاتقهم إضافة إلى تكفلهم مهمة التعليم والهداية مهمة التربية والقيادة والتوجيه، تلك التربية الشاملة التي تشمل حتى أكثر الناس إستعداداً وأسماهم درجة، ولا يستحق مثل هذا المقام الإصلاحى الرفيع إلا أولئك الذين بلغوا أسمى درجات الكمال الإنساني، ويمتلكون أكثر الملكات النفسية كمالا، وهي ملكة العصمة.
أضف إلى ذلك أن دور سلوك المربي وأفعاله ربما كان أكثر تأثيرا من أقواله في تربية الآخرين وإصلاحهم، ومن وجدت نقائص وعثرات في أفعاله، فإن قوله سوف لا يملك التأثير المنشود، إذن فإنما يتحقق الهدف الإلهي من بعثة الأنبياء بصورة كاملة بما هم مربو المجتمع ومصلحوه، فيما لو كانوا معصومين ومنزهين عن كل إنحراف في أقوالهم وأفعالهم.
الأدلة النقلية على عصمة الأنبياء
1- عّبر القرآن الكريم عن بعض الأفراد بـ(المخلَص)1، حيث لا يطمع في إغوائهم حتى الشيطان، ومن هنا أقسم الشيطان على إغواء بني آدم جميعهم وأستثنى المخلصين كما جاء في الآيتين 82 و 83 من سورة ص: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِين﴾.
ولا شك في أن السبب في يأس الشيطان من إغوائهم إنما هو، ما يملكونه من تنزيه وصيانة من الضلال والآثام، وإلا فإن عداءه شامل حتى لهؤلاء، ولو كان يمكنه إغواؤهم لما تخلى عن إغوائهم وأعرض عنهم. إذن فعنوان (المخلص) مساو لـ(المعصوم)، وأنه وإن لم يوجد دليل على اختصاص هذه الصفة بالأنبياء إلا أنه لا يمكن الشك في شمولها لهم.
وقد اعتبر القرآن الكريم بعض الأنبياء من المخلصين كما جاء الآيتين 45 و 46 من سورة ص: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّار﴾.
وفي الآية (51) من سورة مريم: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّاً﴾.
وكذلك اعتبر السبب في تنزه يوسف عليه السلام عن الإنحراف في أشد الظروف هو أنه كان مخلصا كما في الآية (24) من سورة يوسف: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾.
2- لقد فرض القرآن الكريم على البشر إطاعة الأنبياء بصورة مطلقة كما جاء في الآية (64) من سورة النساء: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ﴾.
وإنما تصح إطاعتهم المطلقة فيما لو كانت في مسار إطاعة الله وعلى إمتدادها، بحيث لا تكون إطاعتهم منافية لإطاعة الله، وإلا فإن الأمر بالإطاعة المطلقة للّه تعالى، والأمر بالطاعة المطلقة لمن هم معرضون للخطأ والإنحراف سيكونان على طرفي نقيض.
3- لقد خصص القرآن الكريم المناصب الإلهية لأولئك الذين لم يتلوثوا بـ(الظلم).
يقول تعالى في جوابه لإبراهيم عليه السلام الذي طلب منصب الإمامة لأبنائه: ﴿... لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾(البقرة:124).
ونحن نعلم أن كل معصية هي ظلم للنفس على الأقل، وكل عاص ومذنب ظالم في عرف القرآن الكريم، إذن فالأنبياء أصحاب المنصب الإلهي (النبوة والرسالة) لا بد وأن يكونوا منزهين عن كل ظلم ومعصية. ويمكن إستفادة عصمة الأنبياء عليه السلام من آيات أخرى، وروايات كثيرة نعرض عن ذكرها.
السر في عصمة الأنبياء
السر في عصمة الأنبياء وفي صيانتهم في مجال تلقي الوحي هو: أن إدراك الوحي من قبيل المدركات التى لا تحتمل الخطأ، والشخص المؤهل لتلقيه، يتوفر على حقيقة علمية يدركها حضوريا، ويشاهد إرتباطها بالموحي سواء كانت هناك واسطة (ملك) أم لم تكن "يقول القرآن الكريم في ذلك: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾(النجم:11)" ولا يمكن لمتلقي الوحي أن يشك بأنه هل تلقى الوحي أم لا؟ أو من الذي أوحى إليه؟ أو ما هو محتواه ومفاده؟
وإذا ما وردت بعض القصص والحكايات الموضوعة والمكذوبة التي تدعي أن نبيا شك في نبوته! أو لم يدرك محتوى وحيه! أو لم يعرف الموحي اليه! فهذه أخبار كاذبة، وهذه الأباطيل تشبه أن يقال: أنه شك في وجوده، أو في مدركاته الحضورية والوجدانية!!.
أما السر في عصمة الأنبياء في مجال القيام بالوظائف الإلهية، ومنها إبلاغ رسالة الله للناس، فيحتاج لمقدمة هي:
إن الأفعال البشرية إنما تتم بأن يحصل في أعماق الإنسان ميل لأمر ينشده ويرغب فيه يثار هذا الميل نتيجة لعوامل ومثيرات مختلفة، ويحدد الإنسان طريق الوصول لهدفه المنشود بمعونة العلوم والمدركات المختلفة، ثم يقدم على العمل المتناسب معه، وإذا وجدت الميول والرغبات المتعارضة والمتزاحمة، فأنه يسعى قدر جهده لتحديد أفضلها وأكثرها قيمة وأهمية، ويختاره عمليا. ولكنه أحياناً ونتيجة لنقص في علمه وقصور في معرفته يكون مخطئا في تقويم الأفضل وتحديده، أو أنه لغفلته عن الأصلح، أو نتيجة لتعوده على الأمر الأسوأ يسيء الإختيار، ولا يبقى لديه مجال للتفكير الصحيح وإختيار الأصلح. إذن فكلما كان الإنسان أكثر معرفة بالحقايق، وكان بالنسبة اليها أكثر وعيا وتوجها، وثباتا وحيوية، وأقوى إرادة على ضبط الميول والإنفعالات الداخلية فإنه سيكون أفضل في حسن اختياره، وسيكون أكثر مناعة من الإنحرافات والعثرات.
ومن هنا فان بعض الأفراد المؤهلين ومن ذوي الإستعدادات العالية الذين توفروا على الثقافة اللازمة والوعي الضروري ونعموا بالتربية الصحيحة، سوف يتوصلون إلى مراحل مختلفة من الكمال والفضيلة، وربما يقتربون من حدود العصمة بل ولا يخطر في أذهانهم مجرد التفكير باقتراف الذنب والعمل السيئ، كما لا يفكر أي عاقل بشرب السم والجرع والعقاقير المميتة أو تناول الأشياء القذرة والعفنة.
إذن، فإذا افترضنا أن فردا بلغ الغاية في إستعداده لإدراك الحقائق، وارتفع صفاء روحه وقلبه إلى أسمى المستويات والدرجات وكما يعبر القرآن ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾(النور:35)، وبسبب هذا الاستعداد القوي والصفاء الذاتي، تتولاه التربية الإلهية، ويؤيد بروح القدس فإن هذا الفرد سوف يطوي مدارج الكمال بسرعة لا توصف، وربما اجتاز في ليلة واحدة طريقا لا يجتاز إلا بمئة سنة، وربما تفوق على الآخرين حتى في مرحلة طفولته، بل حتى وهو جنين، وتظهر لمثل هذا الفرد قبح المعاصي والذنوب، تماما كظهور ضرر السم ووضوحه وقبح الاشياء العفنة والقذرة للآخرين. وكما أن إجتناب الأفراد العاديين أمثال هذه الأفعال القاتلة أو القذرة ليس جبريا فإن إجتناب المعصوم عن المعاصي لا ينافي إختياره أبدا.
*دروس في العقيدة الاسلامية ،إعداد ونشر جمعية المعارف الاسلامية الثقافية.ط1،ص112-117.
1- لا بد من أن نعلم بأن (المخلص) بفتح اللام غير (المخلص) بكسرها، فالأول يدل على أن الله جعل الشخص خالصا، ومعنى الثاني أن الشخص يمارس أعماله بإخلاص ونية مخلصة.