علم الكلام والإمام الصادق عليه السلام
ولادة الإمام الصادق(ع)
نعني من علم الكلام العلم الذي يبحث عن الوجود والوحدانيّة والصفات وما يلزم هذه المباحث من نبوّة وإِمامة ومعاد، وبالأدلّة العقليّة المبتنية على اُسس منطقيّة صحيحة، ولا نعني به علم الجدل الذي تاه فيه كثير من الناس لاعتمادهم فيه على خواطر توحيها اليهم نفوس ساقها الى الكلام حبّ الغلبة في المجادلة، دون أن يستندوا الى ركن وثيق أو يأخذوا هذا العلم من معدنه الصحيح.
عدد الزوار: 344
نعني من علم الكلام العلم الذي يبحث عن الوجود والوحدانيّة والصفات وما يلزم هذه المباحث من نبوّة وإِمامة ومعاد، وبالأدلّة العقليّة المبتنية على اُسس منطقيّة صحيحة، ولا نعني به علم الجدل الذي تاه فيه كثير من الناس لاعتمادهم فيه على خواطر توحيها اليهم نفوس ساقها الى الكلام حبّ الغلبة في المجادلة، دون أن يستندوا الى ركن وثيق أو يأخذوا هذا العلم من معدنه الصحيح.
وإِن جاء ذمّ على ألسنة الأحاديث للمتكلّمين فنعني بهم الذين تعلّموا الجدل للظهور والغلبة ولم يستقوا الماء من منبعه، ولم يعبأوا بما يجرّهم اليه الكلام من لوازم فاسدة، وأمّا الذين انتهلوه من مورده الروي وبنوه على اُسس صحيحة ودعائم وجدانيّة فإنهم ألسنة الحقّ وهداته ودعاة الايمان وأدلاؤه.
وإِن أوّل من برهن على الوجود ولوازم الوجود بالأدلّة العقليّة والآثار المحسوسة أمير المؤمنين عليه السّلام حتّى كاد أن يشكّ في تلك الخطب بعض مَن يجهل أو يتجاهل مقام أبي الحسن من العلم الربّاني بدعوى أن العلم على تلك الاُصول لم يكن معهوداً في ذلك الزمن، وليت شعري إِن لم يعترف هذا الجاهل بأن علم أبي الحسن إِلهامي يستقيه من المنبع الفيّاض فإنه لا يجهل ما قاله النبي صلّى اللّه عليه وآله فيه: أنا مدينة العلم وعليّ بابها.1
ونسج على منوال أبي الحسن بنوه في هذا العلم فإنهم مازالوا يفيضون على الناس من علمهم الزاخر عن الوجود ولوازمه، وكيف يعبد الناس ربّاً لا يعرفونه ويطيعون نبيّاً يجهلونه ويتّبعون إِماماً لا يفقهون مقامه، فالمعرفة قبل كلّ علم وأفضل من كلّ علم، يقول الصادق عليه السّلام: أفضل العبادة العلم باللّه.2
وليس للسمع في تلك القواعد والاُصول مدخل، لأن التقليد في العقليّات لا يصحّ عند أرباب العقول.
بلى قد يجيء النقل دليل ولكنه من الارشاد الى حكم العقل، أو الاشارة الى الفطرة كما في قوله تعالى:﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾(إبراهيم:10).
وأمثاله من القرآن المجيد، فإن هذه الآية الكريمة لم تحمّلك على القول بالوجود حتماً، بل لفتتك اليه من جهة الأثر ومشاهدته.
فاذا جاء عن الرسول وعترته أدلّة على هذه الاُصول فما كلامهم في هذا إِلا إِرشاد الى حكم العقل، فإنهم ما زالوا يدلّون على العقل ويهدون الى دلالته، وهذا الصادق نفسه يقول: العقل دليل المؤمن، ويقول: دعامة الانسان العقل، ويقول: لا يفلح من لا يعقل3، ولو قرأت ما أملاه الكاظم عليه السّلام على هشام بن الحكم في شأن العقل والعقلاء لعرفت كيف عرفوا حقيقة العقل، ودلّوا عليه وحثّوا على الاستضاءة بنوره.
ولقد جاء في كلامهم الشيء الكثير من الاستدلال على هذه الاُصول، وهذا نهج البلاغة قد جمع من البراهين ما أبهر العقول وحيّر الألباب، كما جمعت كتب الحديث والكلام كثيراً من تلك الحجج، ومن تلك الكتب احتجاج الطبرسي، واُصول الكافي، وتوحيد الصدوق، ونحن الآن نوافيك بشيء ممّا جاء عن الصادق عليه السّلام في بعض هذه الاُصول.
فإن للصادق عليه السّلام فصولاً جمّة في التدليل على وجوده ووحدانيّته تعالى، منها توحيد المفضّل، وهو الدروس التي ألقاها على المفضّل بن عمر الجعفي الكوفي أحد أصحابه الذين جمعوا بين العلم والعمل، ورسالته المسمّاة بالاهليلجة4، المرويّة عن المفضّل أيضاً، غير أن التوحيد أخذه منه شفاهاً، والرسالة رواها مكاتبة.ومما ورد عنه عليه السلام: انه سمع المفضّل ابن أبي العوجاء والى جانبه رجل من أصحابه في مسجد النبي صلّى اللّه عليه وآله وهما يتناجيان في ذكر النبي صلّى اللّه عليه وآله ويستغربان من حِكمته وحظوته، ثمّ انتقلا الى ذكر الأصل فأنكر وجوده ابن أبي العوجاء وزعم أن الاشياء ابتدأت بإهمال، فأزعج ذلك المفضّل فلم يملك نفسه غضباً وغيظاً، ثمّ أنحى عليه يسبّه، وبعد مناظرة جرت بينهما قام المفضّل ودخل على الصادق عليه السّلام، والحزن لائح على شمائله، يفكر فيما ابتلى به الاسلام وأهله من كفر هذه العصابة وتعطيلها، فسأله الصادق عليه السّلام عن شأنه حين رأى الانكسار بادياً على وجهه، فأخبره بما سمعه من الدهريّين، وبما ردّ عليهما به، فقال الصادق عليه السّلام: لألقينّ اليك من حِكمة الباري جلّ وعلا في خلق العالم والسباع والبهائم والطير والهوام وكلّ ذي روح من الأنعام، والنبات والشجرة المثمرة وغير ذات الثمر والحبوب والبقول المأكول وغير المأكول ما يعتبر به المعتبرون، ويسكن إِلى معرفته المؤمنون ويتحيّر فيه الملحدون. وهذا ما ذكره له فعلا فمن أحي فليراجع كتاب توحيد المفضّل ففعلا سيرى ان الإمام الصادق أبدع في علم الكلام والتوحيد بما يزيل الشك عن كل مرتاب بل الإمام من الذين أسسوا قواعد علم التوحيد.5
1- بحار الانوار /المجلسي ج50 ص64.
2- بحار الانوار /المجلسي ج70 ص45.
3- بحار الانوار /المجلسي ج70 ص85.
4- سميت بالاهليلجة لأن الصادق عليه السّلام كان مناظراً لطبيب هندي كان بيده اهليلجة والاهليلجة هي: نوع من العقاقير للعلاج.
5- كتاب الامام الصادق /محمد حسين المظفر ج2ص ص278_280.