الحياة السياسيّة للإمام الصادق عليه السلام
ولادة الإمام الصادق(ع)
تتلخّص مسألة الإمامة في مدرسة أهل البيتعليهم السلام بما يلي: الإمام والزعيم السياسيّ في المجتمع الإسلاميّ يجب أن يكون منصوباً بإعلانٍ من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم, ويجب أن يكون قائداً فكريّاً ومفسّراً وعالماً بكلّ دقائق الدّين ورموزه,
عدد الزوار: 163
يمكننا تلخيص المعالم السياسيّة الهامّة والبارزة في حياة الإمام الصادق عليه السلام ضمن عنوانين:
الأوّل: تبيين مسألة الإمامة والدعوة إليها:
تتلخّص مسألة الإمامة في مدرسة أهل البيتعليهم السلام بما يلي: الإمام والزعيم السياسيّ في المجتمع الإسلاميّ يجب أن يكون منصوباً بإعلانٍ من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم, ويجب أن يكون قائداً فكريّاً ومفسّراً وعالماً بكلّ دقائق الدّين ورموزه, ويجب أن يكون معصوماً مبرّءاً من كلّ عيبٍ خلقيّ وأخلاقيّ, ويجب أن يكون من سلالة طاهرة نقيّة إلى غير ذلك.. ففي عرف أتباع أهل البيت عليهم السلام تعني الإمامة إضافةً إلى القيادة السياسيّة, القيادة الفكريّة والأخلاقيّة أيضاً.
فالشيعة تعترف بإمامة الفرد حين يكون متمتّعاً بخصائص هي إضافة إلى قدرته على إدارة الأمور الاجتماعيّة مقدرته على التوجيه والإرشاد والتعليم في الحقل الفكريّ والدينيّ والتزكية الخلقيّة, وإن لم يتوفّر فيه هذه المقدرة فلا يمكن أن يرقى إلى مستوى "الإمامة الحقّة". وليس بكافٍ - في نظرهم- حسن الإدارة السياسيّة والاقتدار العسكريّ والفتوحات وأمثالها من الخصائص التي كانت معياراً كافياً لدى غيرهم. فمفهوم الإمامة لدى أهل البيت عليهم السلام إذاً، يتّجه إلى إعطاء إمامة المجتمع صفة قيادة ذلك المجتمع في مسيرته الجماعيّة والفرديّة. فالإمام رائد مسيرة التعليم والتربية وقائد المسيرة الحياتيّة, ومن هنا كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إماماً أيضاً لأنّه القائد الفكريّ والسياسيّ للمجتمع الذي أقام دعائمه. وبعد النبيّ تحتاج الأمّة إلى إمام يخلفه ويتحمّل عبء مسؤوليّاته بما في ذلك المسؤوليّة السياسيّة, ويعتقد الشيعة أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نصّ على خلافة عليّ بن أبي طالب عليه السلام ثمّ تنتقل الإمامة بعده إلى الأئمّة المعصومين من ولده عليهم السلام.
ومنذ السنوات الأولى التي أعقبت رحيل النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كانت مسألة إمامة أهل البيت عليهم السلام تشكّل طليعة الدعوة في كلّ أعصار الإمامة..
هذه المسألة نشاهدها أيضاً في ثورة الإمام الحسين عليه السلام وفي ثورات أبناء الأئمّة من بعده كزيد بن عليّ رضوان الله عليه.
ودعوة الإمام الصادق عليه السلام لم تخرج عن هذا النطاق أيضاً..
ولإثبات هذه الحقيقة التاريخيّة أمامنا روايات متضافرة تنقل بوضوح وصراحة عن الإمام الصادق عليه السلام ادّعاءه الإمامة. فالإمام حين يعلن دعوته هذه كان يرى نفسه في مرحلة من الجهاد تستدعي أن يرفض بشكل مباشر صريح حكّام زمانه وأن يعلن نفسه بأنّه صاحب الحقّ الواقعيّ وصاحب الولاية والإمامة ومثل هذه التصدّي يعني عادة اجتياز سائر المراحل الجهاديّة السابقة بنجاح, ولا بدّ أن يكون الوعي السياسيّ والاجتماعيّ قد انتشر في قاعدة واسعة, وأنّ الاستعداد محسوس بالقوّة في كلّ مكان, وأنّ الأرضيّة الإيديولوجيّة قد توفّرت في عدد ملحوظٍ من الأفراد, وأن جمعاً غفيراً آمن بضرورة إقامة حكومة الحقّ والعدل, وأن يكون القائد- أخيراً- قد اتّخذ قراره الحاسم بشأن هذه المواجهة الساخنة, وبدون هذه المقدّمات فإنّ إعلان إمامة شخص معيّن وقيادته الحقّة للمجتمع أمر فيه تعجّل ولا جدوى منه.
ومن هنا نجد الإمام عليه السلام حينما يثبت إمامته يذكر إلى جانب اسمه أسماء أئمّة الحقّ من أسلافه في إشارة إلى ارتباط جهاد الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام وتواصله عبر الأزمنة وكون إمامته النتيجة الحتميّة المترتّبة على إمامة أسلافه, مبيّناً جذور هذه الدعوة وعمقها في تاريخ الرسالة الإسلاميّة وارتباطها بصاحب الدعوة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم..
يروي عمرو بن أبي المقدام قال: رأيت أبا عبد الله عليه السلام يوم عرفة بالموقف وهو ينادي بأعلى صوته: "أيّها الناس إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان الإمام, ثمّ كان عليّ بن أبي طالب, ثمّ الحسن, ثمّ الحسين, ثمّ عليّ بن الحسين, ثمّ محمّد بن عليّ عليهم السلام ثمّ هه"- أي أنا وهي لغة عند العرب يشير الإمام بذلك إلى نفسه- فينادي ثلاث مرّات لمن بين يديه وعن يمينه وعن يساره ومن خلفه اثنى عشر صوتاً 1.
ففي يوم التاسع من ذي الحجّة إذ اجتمع الحجّاج في عرفة لأداء منسك الوقوف وقد توافدوا على هذا الصعيد من كلّ فجٍّ عميق.. الموقف حسّاس وخطير, والدعوة فيه تستطيع أن تجد لها صدى في أقاصي العالم الإسلاميّ, الإمام انضمّ إلى هذه الجموع الغفيرة المحتشدة ليوصل إليها كلمته..
الثاني: إقامة تنظيم سرّي سياسيّ- إيديولوجيّ:
والمقصود بهذا التنظيم وجود جماعة بشريّة ذات هدف مشترك تقوم بنشاطات متنوّعة تتّجه نحو ذلك الهدف وترتبط بمركز واحد وقلب نابض واحد ودماغ مفكّر واحد وتسود بين أفرادها عاطفة مشتركة.
ولإثبات هذه الحقيقة التاريخيّة أمامنا شواهد عن شبكة منظّمة لدعوة الإمام في جميع أرجاء العالم الإسلاميّ, والوثائق الكثيرة المتوفّرة في هذا المجال تجعل وجود هذه الشبكة أمراً حتميّاً لا مراء فيه..
ونحن في هذا المجال أمام ظواهر تاريخيّة ثابتة:
1- ثمّة ارتباط منظّم فكريّ وماليّ بين الأئمّة عليهم السلام وأتباعهم, وكانت الأموال تحمل من أطراف العالم إلى المدينة, وكذلك الأسئلة الدينيّة تتقاطر عليها.
2- اتساع الرقعة الموالية لآل البيت عليهم السلام خاصّة البقاع الحسّاسة من العالم الإسلاميّ.
3- تجمّع عدد غفير من المحدّثين والرواة الخراسانيّين والسيستانيّين والكوفيّين والبصريّين واليمانيّين والمصريّين حول الإمام.
فهل إنّ هذه الظواهر المنسجمة المتناسبة مع بعضها قد حدثت بالصدفة؟! خصوصاً وأنّ هذه الظواهر حدثت في ظلّ سيطرة سياسيّة كانت جادّة كلّ الجدّ في إلغاء حتّى اسم عليّ وآل عليّ عليهم السلام, بل وسبّ عليّ عليه السلام على المنابر, وتسليط أنواع البطش والإرهاب على أتباعه, فكيف أمكن في مثل هذا الجوّ خلق قاعدة شعبيّة عريضة موالية لآل البيت عليهم السلام تطوي آلاف الأميال للوصول إلى الحجاز والمدينة لتتلمّذ على أئمّة أهل البيت عليهم السلام وتأخذ عنهم فكر الإسلام في الحياة الفرديّة والاجتماعيّة, وتتحدّث معهم في موارد كثيرة وعن مسائل الثورة على الوضع الفاسد, أو بعبارة الروايات تتحدّث معهم عن مسائل القيام والخروج؟!
فلو كان دعاة أهل البيت عليهم السلام يقتصرون في حديثهم على علم الأئمّة وزهدهم, فلماذا يدور الحديث في وسط هؤلاء الأتباع دائماً عن الثورة المسلّحة؟
ألا يدلّ كلّ هذا على وجود شبكة منظّمة للدعوة إلى إمامة أهل البيت عليهم السلام بالمعنى الكامل للإمامة أي الفكريّة والسياسيّة؟
وهنا يطرح سؤال عن سبب سكوت التاريخ عن وجود مثل هذه الشبكة المنظّمة في دعوة أهل البيت عليهم السلام, لماذا لم يذكر التاريخ صراحة شيئاً عنها؟
والجواب يكمن في التزام أصحاب الأئمّة بالمبدأ الحركيّ الحكيم المسمّى بالتقيّة2, الذي يحول دون نفوذ أيّ عنصر أجنبيّ في تنظيم الإمام, كما يكمن أيضاً في عدم استطاعة الحركة الجهاديّة الشيعيّة من تحقيق أهدافها ومن استلام زمام الحكم.
ومع ذلك فإنّ هناك روايات تصرّح إلى حدٍّ ما بوجود دعوة واسعة لإمامة أهل البيت عليهم السلام 3..
ومن العبارات العميقة التي تلفت نظر الباحث المدقّق في الروايات المرتبطة بحياة الأئمّة أو في كلام مؤلّفي القرون الإسلاميّة الأولى, عبارة "باب" و "وكيل" و "صاحب السرّ".
وهذه العناوين الثلاثة التي نجد مصاديقها في وجوه بارزة من رجال الشيعة- خصوصاً لو تأمّلنا حياة هؤلاء وكيفيّة تعامل الإمام معهم بذمّهم تارة والترحّم عليهم أخرى, وتعرّض بعضهم للمطاردة والتنكيل والقتل على أيدي السلطة- تلقي ظلالها على واقع الشيعة وارتباطهم بالإمام والحركة التنظيميّة الشيعيّة.
إنّ مسألة التنظيمات السرّيّة في الحياة السياسيّة للإمام الصادق عليه السلام وباقي الأئمّة عليهم السلام من أهمّ المسائل وأكثرها حساسيّة, وهي في الوقت نفسه من أغمض فصول حياتهم وأشدّها إبهاماً, ولا نتوقّع- كما أشرنا- وجود وثائق صريحة في هذا المجال, حيث لا يمكن أن نتوقّع من الإمام أو أحد أصحابه أن يعترف صراحة - خصوصاً لو تعرّضوا لاستجواب السلطة- بوجود هذه التنظيمات السياسيّة الفكريّة, وإنّما يعتبرون ذلك تهمة وسوء ظنّ, وهذه هي خاصيّة العمل السرّي.
ويمكننا بهذه النظرة أن نفهم الشيعة بأنّهم مجموعة من العناصر المنسجمة الهادفة النشطة المتمركزة حول محور مقدّس يشعّ بتعاليمه وأوامره على القاعدة, والقاعدة ترتبط به وتنقل إليه المعلومات وتضبط مشاعرها وتسيطر على عواطفها بتوصياته الحكيمة, وتلتزم التزاماً دينيّاً بأساليب العمل السرّي مثل حفظ الأسرار, وقلّة الكلام والابتعاد عن الأضواء والتعاون الجماعيّ والزهد الثوريّ 4.
1- الكلينيّ: الكافي ج 4 ص 466.
2- وفي الحديث المعروف المرويّ عن الإمام الصادق عليه السلام: إنّ التقيّة ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقيّة له. أنظر: البرقيّ أحمد بن محمّد بن خالد: المحاسن ج 1 ص 255.
3- أنظر على سبيل المثال: المجلسي: بحار الأنوار ج 47 ص 72 عن بصائر الدرجات.
4- هذا البحث أخذناه بتمامه- بتصرّف قليل في العبارة والتقديم والتأخير- من كتاب قيادة الإمام الصادق لوليّ أمر المسلمين آية الله السيّد عليّ الخامنئيّ دام ظله, ترجمة الدكتور محمّد عليّ
آذرشب.