هل الحسنة والسيئة من اللّه ومن العبد؟
العدل
ربما يتبادر إلى الذهن في بادئ النظر الإِختلاف في قضاء القرآن في مبدأ الحسنة والسيئة حيث يرى في الآيتين التاليتين أقضية ثلاثة في مصادرهما ومبادئهم: ما ينقل عن المنافقين حيث كانوا ينسبون الحَسَنة إلى اللّه والسيئة إلى النبي، كما يحكي عنه قوله تعالى:وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّه...
عدد الزوار: 255
ربما يتبادر إلى الذهن في بادئ النظر الإِختلاف في قضاء القرآن في مبدأ الحسنة والسيئة حيث يرى في الآيتين التاليتين أقضية ثلاثة في مصادرهما ومبادئهما:
1- ما ينقل عن المنافقين حيث كانوا ينسبون الحَسَنة إلى اللّه والسيئة إلى النبي، كما يحكي عنه قوله تعالى: ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّه وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ﴾(النساء:78)، تطيّراً بوجود النبي، كما تطيروا بغيره في الأُمم السالفة.
2- ما يذكره سبحانه في نفس الآية ردّاً عليهم بأنَّ الحسنة والسيئة كلٌّ مِن عند اللّه، حيث قال: ﴿قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّه فَمالِ هؤلاء القَوْمِ لاَ يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً﴾(النساء:78).
3- ما ذكره تعالى في الآية التالية حيث نسب الحسنة إلى اللّه والسيئة إلى العبد فجعل منشأ الأولى هوالباري تعالى، ومنشأ الثانية الإِنسان يقول: ﴿ما أصابَكَ مِنْ حَسَنَة فَمِنَ اللّه وَ مَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَة فَمِنْ نَفْسِكَ﴾(النساء:79).
فكيف التوفيق بين القضاء الثاني والثالث.
أما الجواب، فنقول: إنَّه سبحانه نقل عن الفراعنة نظرية أشدّ بطلاناً مما نقله عن المنافقين، حيث كانوا ينسبون الحسنات إلى أنفسهم والسيئات إلى موسى عليه السَّلام. قال سبحانه: ﴿وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بالسِّنِينَ وَ نَقْص مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُم يَذَّكَّرُونَ * فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الحَسَنَةُ قَالُوا لَنا هَذِهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّروا بِمُوسَى وَ مَنْ مَعَهُ، ألا إِنَّمَا طَائرُهُمْ عِنْدَ اللّهِ وَلِكنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُون﴾(الأعراف:130-131).
والقرآن يجيب عن هذا القضاء المنقول عن المنافقين والفراعنة، فيرد على الأول بأنَّه مبني على وجود مؤثرين مستقلين في عالم الوجود، لكل واحد فعل خاص ينافي فعل الآخر، حيث قال: ﴿قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّه فَمَالِ هؤلاءِ الْقَومِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً﴾(النساء:78).
كما ردّ على نظرية الفراعنة بقوله: ﴿ألاَ إِنَّمَا طَائرُهُمْ عِنْدَ اللّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُون﴾(الأعراف:131). فلا كلام في بطلان ما قضى به المنافقون والفراعنة، وإنما نركز البحث على القضاءين المختلفين الواردين في القرآن الكريم فنقول:
إنَّ المراد من الحسنة والسيئة في الآية، بقرينة وقوعها في سياق آيات الجهاد هوالغلبة فيه والهزيمة، فعمت الأولى المسلمين في غزوة بدر، كما شملتهم الهزيمة في أُحُد، فأراد المنافقون وضعفاء العقول الإِزراء بالنبي، وأنَّ الغلبة في غزوة بدر كانت من اللّه سبحانه والهزيمة من النبي لسوء القيادة، فكانوا يتبجحون بهذه الفكرة تعييراً بالنبي وتضعيفاً لعقول المسلمين، فردّ اللّه سبحانه عليهم بأنَّ الحسنة بقول مطلق كالفتوحات في مورد الآية، وكثرة الثمار وشمول الخصب كما في مورد الفراعنة، والسيئة بقول مطلق كالهزيمة في مورد البحث ونقص الثمرات وعموم الجدب في مورد الفراعنة، كلها من اللّه سبحانه، إذ لا مؤثر في الوجود إلاَّ هو، ولا خالق غيره، فما يصيب الإِنسان مما يستحسنه طبعه، ويسوؤه كله من اللّه تعالى، فهوخالق الأكوان والحوادث، وإنَّ سلسلة الوجود تنتهي إليه سبحانه. وبذلك يعلم أنَّ المراد من الحسنة والسيئة نظير هذه الأُمور لا الأفعال الإِختيارية التي يقوم بها الإِنسان في حياته فالآيات الواردة في هذا المجال منصرفة عنه، فمقتضى التوحيد الأفعالي نسبة الكلّ إلى اللّه سبحانه. هذا هووجه القضاء الأول.
وأمَّا الآية الثانية التي تفكك بين الحسنة والسيئة، فتنسب الأُولى إلى اللّه والسيئة إلى الإِنسان فإنما هي ناظرة إلى مناشئهما ومبادئهما، فلا شك أنَّ الإِنسان لا يستحق بذاته شيئاً من النعم التي أنعمها اللّه عليه، وأنَّ كل النعم والحسنات تصيبه تفضلا من اللّه سبحانه وكرامة منه، ولأجل ذلك قال سبحانه: ﴿مَا أصَابَكَ مِنْ حَسَنة فَمِنَ اللّه﴾والخطاب وإن كان للنبي، ولكنه من قبيل الخطابات القرآنية التي يخاطب بها النبي ويقصد منها كل الناس، قال سبحانه: ﴿لَئِنْ أَشْركْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرينَ﴾(الزمر:65). ومن هنا يركز القرآن على أنَّ مبدأ الحسنة هواللّه سبحانه.
وأمَّا السيئة فهي وإن كانت من عند اللّه ولكن لواستقرأ الإِنسان مناشئ الهزائم والإِنكسارات والبلايا والنوازل يجد أن المجتمع الإِنساني هوالمنشأ لنزولها، وأخذهم به. قال سبحانه: ﴿وَ لَوْ أنَّ أَهْلَ القُرى آمَنُوا واتَّقوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكات مِنَ السَّماءِ وَ الأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾(الأعراف:96).
وبذلك يسهل عليك فهم ما جاء في الآية التالية من التفريق بين الهداية والضّلالة حيث يقول سبحانه: ﴿قُلْ جَاءَ الحَقُّ وما يُبْدِىءُ الباطِلُ وَ مَا يُعِيدُ * قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلى نَفْسي وَ إِنْ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحي إِلىَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ﴾(سبأ:49-50) فترى أنَّه سبحانه يَأْمُر عَبْدَهُ بأن ينسب الضلالة إلى نفسه والهداية إلى ربِّه، مع أنَّه سبحانه ينسبهما في آيات أُخرى إلى نفسه ويقول: ﴿فَيُضِلُّ اللّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوالعَزِيزُ الحَكِيمُ﴾(إبراهيم:4). وما هذا إلاَّ لأن الهداية والضلالة بما أنهما من الأمور الواقعية في الكون تنتهي وجوداً إلى اللّه سبحانه، فينسبهما من حيث الوجود إلى نفسه سبحانه. وأمَّا من حيث المناشئ والحوافز التي تنزلهما إلى العبد، فبما أنَّ الهداية نعمة من اللّه سبحانه لا يستحقها الإِنسان بذاته، بل تعمه كرامة منه تعالى، فينسبها إلى اللّه تعالى من هذه الجهة ويقول: (وإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحي إِلىَّ رَبِّي).
وبما أنَّ الضلالة نقمة يستحقها الإِنسان لتقصيره في اتباع الرسل والإِهتداء بالكتب، صارت أولى بأن تنسب إلى العبد، ويقول: (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أضِلُّ عَلى نَفْسي).
وبهذا البيان يرتفع ما يتراءى من الإِختلاف بين نظائر هذه الآيات.
وبكلمة واحدة، إنَّ الآيات من حيث المساق مختلفة، فعندما يلاحظ الظاهرة سواء أكانت حسنة وسيئة، هداية وضلالة بما أنَّها من الأمور الواقعية الإِمكانية، لا تتحقق إلاَّ بالإِنتماء إلى الواجب تعالى والصدور منه، ينسبها إلى اللّه تعالى. وعندما يلاحظها من حيث المناشئ والدواعي التي تنزلها من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، فليس للحسنة والهداية منشأ إلاَّ اللّه تعالى، كما أنَّه ليس للسيئة والضلالة منشأ، سوى تقصير العبد في حياته كما عليه الآيات الكثيرة. ولأجل ذلك نرى أنَّ الحديث القدسي المنقول عن النبي صلى اللّه عليه وآله يفرق بين الحسنة والسيئة مع أنّ الكل يوجد بحوله وقوته سبحانه، يقول: "يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبنعمتي أديَّت إليَّ فرائضي، وبقدرتي قويت على معصيتي، خلقتك سميعاً بصيراً، أنا أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني"1.
*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني،مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج2،ص365-369
1- ما ينقل عن المنافقين حيث كانوا ينسبون الحَسَنة إلى اللّه والسيئة إلى النبي، كما يحكي عنه قوله تعالى: ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّه وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ﴾(النساء:78)، تطيّراً بوجود النبي، كما تطيروا بغيره في الأُمم السالفة.
2- ما يذكره سبحانه في نفس الآية ردّاً عليهم بأنَّ الحسنة والسيئة كلٌّ مِن عند اللّه، حيث قال: ﴿قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّه فَمالِ هؤلاء القَوْمِ لاَ يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً﴾(النساء:78).
3- ما ذكره تعالى في الآية التالية حيث نسب الحسنة إلى اللّه والسيئة إلى العبد فجعل منشأ الأولى هوالباري تعالى، ومنشأ الثانية الإِنسان يقول: ﴿ما أصابَكَ مِنْ حَسَنَة فَمِنَ اللّه وَ مَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَة فَمِنْ نَفْسِكَ﴾(النساء:79).
فكيف التوفيق بين القضاء الثاني والثالث.
أما الجواب، فنقول: إنَّه سبحانه نقل عن الفراعنة نظرية أشدّ بطلاناً مما نقله عن المنافقين، حيث كانوا ينسبون الحسنات إلى أنفسهم والسيئات إلى موسى عليه السَّلام. قال سبحانه: ﴿وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بالسِّنِينَ وَ نَقْص مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُم يَذَّكَّرُونَ * فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الحَسَنَةُ قَالُوا لَنا هَذِهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّروا بِمُوسَى وَ مَنْ مَعَهُ، ألا إِنَّمَا طَائرُهُمْ عِنْدَ اللّهِ وَلِكنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُون﴾(الأعراف:130-131).
والقرآن يجيب عن هذا القضاء المنقول عن المنافقين والفراعنة، فيرد على الأول بأنَّه مبني على وجود مؤثرين مستقلين في عالم الوجود، لكل واحد فعل خاص ينافي فعل الآخر، حيث قال: ﴿قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّه فَمَالِ هؤلاءِ الْقَومِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً﴾(النساء:78).
كما ردّ على نظرية الفراعنة بقوله: ﴿ألاَ إِنَّمَا طَائرُهُمْ عِنْدَ اللّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُون﴾(الأعراف:131). فلا كلام في بطلان ما قضى به المنافقون والفراعنة، وإنما نركز البحث على القضاءين المختلفين الواردين في القرآن الكريم فنقول:
إنَّ المراد من الحسنة والسيئة في الآية، بقرينة وقوعها في سياق آيات الجهاد هوالغلبة فيه والهزيمة، فعمت الأولى المسلمين في غزوة بدر، كما شملتهم الهزيمة في أُحُد، فأراد المنافقون وضعفاء العقول الإِزراء بالنبي، وأنَّ الغلبة في غزوة بدر كانت من اللّه سبحانه والهزيمة من النبي لسوء القيادة، فكانوا يتبجحون بهذه الفكرة تعييراً بالنبي وتضعيفاً لعقول المسلمين، فردّ اللّه سبحانه عليهم بأنَّ الحسنة بقول مطلق كالفتوحات في مورد الآية، وكثرة الثمار وشمول الخصب كما في مورد الفراعنة، والسيئة بقول مطلق كالهزيمة في مورد البحث ونقص الثمرات وعموم الجدب في مورد الفراعنة، كلها من اللّه سبحانه، إذ لا مؤثر في الوجود إلاَّ هو، ولا خالق غيره، فما يصيب الإِنسان مما يستحسنه طبعه، ويسوؤه كله من اللّه تعالى، فهوخالق الأكوان والحوادث، وإنَّ سلسلة الوجود تنتهي إليه سبحانه. وبذلك يعلم أنَّ المراد من الحسنة والسيئة نظير هذه الأُمور لا الأفعال الإِختيارية التي يقوم بها الإِنسان في حياته فالآيات الواردة في هذا المجال منصرفة عنه، فمقتضى التوحيد الأفعالي نسبة الكلّ إلى اللّه سبحانه. هذا هووجه القضاء الأول.
وأمَّا الآية الثانية التي تفكك بين الحسنة والسيئة، فتنسب الأُولى إلى اللّه والسيئة إلى الإِنسان فإنما هي ناظرة إلى مناشئهما ومبادئهما، فلا شك أنَّ الإِنسان لا يستحق بذاته شيئاً من النعم التي أنعمها اللّه عليه، وأنَّ كل النعم والحسنات تصيبه تفضلا من اللّه سبحانه وكرامة منه، ولأجل ذلك قال سبحانه: ﴿مَا أصَابَكَ مِنْ حَسَنة فَمِنَ اللّه﴾والخطاب وإن كان للنبي، ولكنه من قبيل الخطابات القرآنية التي يخاطب بها النبي ويقصد منها كل الناس، قال سبحانه: ﴿لَئِنْ أَشْركْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرينَ﴾(الزمر:65). ومن هنا يركز القرآن على أنَّ مبدأ الحسنة هواللّه سبحانه.
وأمَّا السيئة فهي وإن كانت من عند اللّه ولكن لواستقرأ الإِنسان مناشئ الهزائم والإِنكسارات والبلايا والنوازل يجد أن المجتمع الإِنساني هوالمنشأ لنزولها، وأخذهم به. قال سبحانه: ﴿وَ لَوْ أنَّ أَهْلَ القُرى آمَنُوا واتَّقوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكات مِنَ السَّماءِ وَ الأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾(الأعراف:96).
وبذلك يسهل عليك فهم ما جاء في الآية التالية من التفريق بين الهداية والضّلالة حيث يقول سبحانه: ﴿قُلْ جَاءَ الحَقُّ وما يُبْدِىءُ الباطِلُ وَ مَا يُعِيدُ * قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلى نَفْسي وَ إِنْ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحي إِلىَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ﴾(سبأ:49-50) فترى أنَّه سبحانه يَأْمُر عَبْدَهُ بأن ينسب الضلالة إلى نفسه والهداية إلى ربِّه، مع أنَّه سبحانه ينسبهما في آيات أُخرى إلى نفسه ويقول: ﴿فَيُضِلُّ اللّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوالعَزِيزُ الحَكِيمُ﴾(إبراهيم:4). وما هذا إلاَّ لأن الهداية والضلالة بما أنهما من الأمور الواقعية في الكون تنتهي وجوداً إلى اللّه سبحانه، فينسبهما من حيث الوجود إلى نفسه سبحانه. وأمَّا من حيث المناشئ والحوافز التي تنزلهما إلى العبد، فبما أنَّ الهداية نعمة من اللّه سبحانه لا يستحقها الإِنسان بذاته، بل تعمه كرامة منه تعالى، فينسبها إلى اللّه تعالى من هذه الجهة ويقول: (وإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحي إِلىَّ رَبِّي).
وبما أنَّ الضلالة نقمة يستحقها الإِنسان لتقصيره في اتباع الرسل والإِهتداء بالكتب، صارت أولى بأن تنسب إلى العبد، ويقول: (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أضِلُّ عَلى نَفْسي).
وبهذا البيان يرتفع ما يتراءى من الإِختلاف بين نظائر هذه الآيات.
وبكلمة واحدة، إنَّ الآيات من حيث المساق مختلفة، فعندما يلاحظ الظاهرة سواء أكانت حسنة وسيئة، هداية وضلالة بما أنَّها من الأمور الواقعية الإِمكانية، لا تتحقق إلاَّ بالإِنتماء إلى الواجب تعالى والصدور منه، ينسبها إلى اللّه تعالى. وعندما يلاحظها من حيث المناشئ والدواعي التي تنزلها من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، فليس للحسنة والهداية منشأ إلاَّ اللّه تعالى، كما أنَّه ليس للسيئة والضلالة منشأ، سوى تقصير العبد في حياته كما عليه الآيات الكثيرة. ولأجل ذلك نرى أنَّ الحديث القدسي المنقول عن النبي صلى اللّه عليه وآله يفرق بين الحسنة والسيئة مع أنّ الكل يوجد بحوله وقوته سبحانه، يقول: "يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبنعمتي أديَّت إليَّ فرائضي، وبقدرتي قويت على معصيتي، خلقتك سميعاً بصيراً، أنا أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني"1.
*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني،مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج2،ص365-369
1- بحارالأنوار، ج 5، كتاب العدل والمعاد، الباب الأول الحديث3، ص 4. ولاحظ ص 56.
2009-08-01