الأمر بين الأمرين في الكتاب والسُنَّة
العدل
إذا كان معنى الأمر بين الأمرين هو وجودالنسبتين والإِسنادين في فعل العبد، نسبة إلى اللّه سبحانه، وفي الوقت نفسه نسبة إلى العبد، من دون أن تزاحم إحداهما الأخرى فإنَّا نجد هاتين النسبتين في آيات:قوله سبحانه: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللّه قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّه رَمى وَلِيُبْلِىَ المُؤمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إنَّ اللّه سَميعٌ عَليمٌ.
عدد الزوار: 324
إذا كان معنى الأمر بين الأمرين هووجود النسبتين والإِسنادين في فعل العبد، نسبة إلى اللّه سبحانه، وفي الوقت نفسه نسبة إلى العبد، من دون أن تزاحم إحداهما الأخرى فإنَّا نجد هاتين النسبتين في آيات:
1- قوله سبحانه: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللّه قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّه رَمى وَلِيُبْلِىَ المُؤمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إنَّ اللّه سَميعٌ عَليمٌ﴾(الأنفال:17).
فترى أنَّه سبحانه ينسب الرمي إلى النبي، وفي الوقت نفسه يسلبه عنه وينسبه إلى ذاته، كما هومفاد قوله: (وَمَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللّه رَمَى)ولا يصح هذا الإيجاب في عين السلب إلاَّ على الوجه الذي ذكرناه وهوأنَّ نسبة الفعل إلى العبد ليست نسبة كاملة بأن يكون له الصلة، دون اللّه سبحانه.ومثله في جانبه تعالى. فلأجل ذلك تصح النسبتان، كما يصح سلبه عن أحدهما وإسناده إلى الآخر. فلو كانت نسبة الفعل إلى واحد منهما نسبة المعلول إلى العلّة التامة، لم يكن مجال إلاَّ لإِحداهما.
2- قال سبحانه: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبُهُم اللّه بِأَيْدِيكُم وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْم مُؤْمِنين﴾(التوبة:14).
فالظاهر أنَّ المراد من التعذيب هوالقتل لأن التعذيب الصادر من اللّه تعالى بأيدي المؤمنين ليس إلاَّ ذاك، لا العذاب البرزخي ولا الأُخروي فإنهما راجعان إلى اللّه سبحانه دون المؤمنين.وعلى ذلك فقد نسب فعلا واحداً إلى المؤمنين وخالقهم. ولا تصح تينك النسبتين إلاَّ على هذا المنهج، وإِلاَّ ففي منهج الجبر لا تصح النسبة إلاَّ إليه سبحانه، وفي منهج التفويض على العكس، ومنهج النسبتين هومنهج الأمر بين الأمرين، على البيان الماضي.
قال الرازي الأشعري المذهب: "احتجّ...أنَّ فعل العبد مخلوق للّه تعالى بقوله: ﴿يعذّبْهُم اللّه بأيدِيكم﴾، فإن المراد من هذا التعذيب القتل والأسر. وظاهر النّص يدل على أنَّ ذلك القتل والأسر فعل اللّه تعالى، إلاّ أنَّه تعالى يدخله في عالم الوجود على أيدي العباد وهوصريح قولنا ومذهبنا"1.
يلاحظ عليه: أنَّ الآية ليست بصريحة ولا ظاهرة في الدلالة على مذهب الأشاعرة، فإنّ مذهبهم أنّ العباد بمنزلة الآلات المحضة بل أدون منها حيث لا تأثير لإِرادتهم وقدرتهم، وهي قابلة للإِنطباق على مذهب العدلية، بمعنى أنَّه سبحانه ينفذ إرادته من طريق إرادة المؤمنين لكونهم خاضعين له كخضوع العبد للمولى والمأمور للآمر. وقد شاع قولهم في التمثيل ب "فتح الأمير المدينة"، مع أنَّ الفاتح هوالجيش، لكن بأمر الأمير.
ثم إنَّ الجُبّائي من المعتزلة أجاب عن استدلال الأشاعرة بأنَّه لوصحّ أن يقال: إنَّه يعذب المؤمنين بأيدي الكافرين لجاز أن يقال: إنَّه يكذب أنبياءه بألسنتهم، ويلعن المؤمنين ويسبّهم بأفواههم، لأنَّ المفروض أنَّ اللّه خالق لذلك كله في كلا الجانبين.
والعجب أنَّ الرازي قال في جواب الجُبّائي: "وأجاب أصحابنا عنه فقالوا أما الذي ألزمتموه علينا فالأمر كذلك إلاَّ أنا لا نقوله باللسان"!2.
3- هناك آيات نسب الفعل الواحد في آية منها إلى اللّه سبحانه وفي أخرى إلى المخلوق ولا تصح النسبتان إلاَّ على هذا المبنى، وهي عديدة نكتفي بواحدة منها:
قال سبحانه: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كالحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾(البقرة:74). وقال أيضا: ﴿وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(الأنعام:43). ففي هاتين الآيتين ينسب القسوة إلى نفس اليهود وكأنهم صاروا هم السبب لعروض هذه الحالة إلى قلوبهم بشهادة أنَّ الآيتين في مقام الذمّ واللوم، فلولم يكن هناك سببية من جانبهم لما صح تقريعهم.
وفي الوقت نفسه يعرّف فاعل هذه الحالة الطارئة بأنَّه هواللّه تعالى ويقول: ﴿فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾(المائدة:13).
4- هناك مجموعة من الآيات تُعرّف الإِنسان بأنّه فاعل مختار في مجال أفعاله.
منها قوله سبحانه: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أساءَ فَعَلَيْها وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّم لِلْعَبيدِ﴾(فصّلت:46).
ومنها قوله سبحانه: ﴿كُلُّ امْرِىء بِما كَسَبَ رَهِينٌ﴾(الطور:21).
ومنها قوله سبحانه: ﴿لِكُلّ امْرِىء مِنُهمْ ما اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ﴾(النور:11).
ومنها قوله سبحانه: ﴿وَأَنَّ لَيْسَ لِلإِنسانِ إِلاَّ ما سَعى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزيهُ الجَزَاءَ الأَوْفَى﴾(النجم:39-41).
ومنها قوله سبحانه: ﴿وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيَؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر﴾(الكهف:29).
ومنها قوله سبحانه: ﴿إِنْ تَكْفُروا فَإِنَّ اللّه غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبادِهِ الكُفْرَ وإِنْ تَشْكُروا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾(الزمر:7).
ومنها قوله سبحانه: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾(الإِنسان:3).
ومنها قوله سبحانه: ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبيلا﴾(المزمل:19، المدثر:55، النبأ:39، وعبس:12).
ومنها قوله سبحانه: ﴿وَنَفْس وَمَا سَوَّاها * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاها * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها *وَقَدْ خَابَ مَن دَسّاهَا﴾(الشمس:7-10).
إلى غير ذلك من الآيات التي تعترف بدور الإِنسان في حياته وكونه مالكاً لمشيئته ومعيّناً لمسيره في مصيره.
وهناك مجموعة أخرى من الآيات تصرّح بأنَّ كل ما يقع في الكون من دقيق وجليل لا يقع إلاّ بإذنه سبحانه ومشيئته، وأنَّ الإِنسان لا يشاء لنفسه إلاَّ ما شاء اللّه له وهي كثيرة نشير إلى بعضها:
منها قوله سبحانه: ﴿وَمَا تَشاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللّه رَبُّ العَالَمِينَ﴾(التكوير:29).
ومنها قوله سبحانه آمراً نَبِيَّه: ﴿قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً ولا ضَرَّاً إِلاَّ ما شَاءَ اللّه﴾(الأَعراف:188). وليست الآية خاصة بالمواهب الطارئة عليه من غير طريق اكتسابه، بل تعمّها وتعمّ كل ضر ونفع يكسبهما بسعيه وفعله فلا يصل إليه الإِنسان إلاَّ عن طريق مشيئة اللّه سبحانه.
ومنها قوله سبحانه: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَد إِلاَّ بِإِذْنِ اللّه﴾(البقرة:102).
ومنها قوله سبحانه: ﴿كَمْ مِنْ فِئَة قَلِيلَة غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّه﴾(البقرة:249).
ومنها قوله سبحانه: ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ﴾(البقرة:251).
ومنها قوله سبحانه: ﴿وَما كانَ لِنَفْس أَنْ تُؤمِنَ إِلاَّ بإِذْنِ اللّه﴾(يونس:100).
إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في أنّ كل ما يقع في الكون ويصدر من العباد فهوبمشيئة وإذن منه سبحانه.
فالمجموعة الأولى من الآيات تناقض الجبر وتفنده، كما أنَّ المجموعة الثانية ترد التفويض وتبطله ومقتضى الجمع بين المجموعتين حسب ما يرشدنا إليه التدبر فيها ليس إلاَّ التحفظ على النسبتين وأنَّ العبد يقوم بكل فعل وترك، باختيار وحرية، لكن بإقدار وتمكين منه سبحانه فليس العبد في غنى عنه سبحانه في فعله وتركه. فهويعمل في ظل عناياته وتوفيقاته ولعلّ المراجع إلى الذكر الحكيم يجد من الآيات الراجعة إلى المجموعتين أكثر مما ذكرنا، كما يجد فيها قرائن وشواهد تسوقه إلى نفي كل من الجبر والتفويض واختيار الأمر بين الأمرين.هذا ما يرجع إلى الكتاب الحكيم وأمَّا الروايات فنذكر النزر اليسير مما جمعه الشيخ الصدوق في (توحيده)والمجلسي في (بحاره).
1- روى الصدوق عن أبي جعفر وأبي عبداللّه عليهما السَّلام قال: "إنَّ اللّه عزّوجلّ أرْحَمُ بِخَلْقِهِ من أن يجبر خلقه على الذنوب، ثم يعذبهم عليها واللّه أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون. قال فسُئِلا عليهما السَّلام: هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ قال: نعم أوسع ممَّا بين السماء والأرض"3.
2- روى الصَّدوق عن سليمان بن جعفر الجعفري عن أبي الحسن الرضا عليه السَّلام قال: "ذكر عنده الجبر والتفويض فقال: ألا أعطيكم في هذا أصلا لا تختلفون فيه، ولا تخاصمون عليه أحداً إلاَّ كسرتموه، قلن: إن رأيت ذلك. فقال: إنَّ اللّه عزّوجل لم يُطَع بإكراه، ولم يُعْصَ بِغَلَبَة، ولم يُهْمِل العباد في ملكه. وهوالمالك لما ملكهم، والقادر على ما أقدرهم عليه، فإن ائتمر العباد بطاعته، لم يكن اللّه عنها صاداً، ولا منها مانعاً، وإن إئتمروا بمعصية فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل، وإنَّ لم يحل وفعلوه فليس هوالذي أدخلهم فيه، ثم قال عليه السَّلام: من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه"4.
3- وروى الصدوق عن المفضل بن عمر عن أبي عبداللّه عليه السَّلام قال: "لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين"قال: فقلت: وما أمر بين أمرين؟ قال: مَثَلُ ذلك مَثَلُ رجل رأيته على معصية فَنَهَيْتَه فلم ينته، فتركْتَه، ففعل تلك المعصية فليس حيث لم يَقْبَلْ منك فتركته أنت الذي أمرته بالمعصية"5.
4- روى الصدوق في "معاني الأخبار"و"عيون أخبار الرضا" عن الفضل عن الرضا عليه السَّلام فيما كتب للمأمون: "مِنْ مَحْضِ الإِسلام أن اللّه تبارك وتعالى لا يكلف نفساً إلاَّ وُسْعَها، وأن أفعال العباد مخلوقة للّه، خَلْقَ تَقدير لا خَلْقَ تكوين، واللّه خالق كل شيء ولا نقول بالجبر والتفويض"6.
5- روى السيد بن طاووس في (طرائفه) قال: روي أنَّ الفضل بن سهل سأل الرضا عليه السَّلام بين يدي المأمون فقال: "يا أبا الحسن الخلق مجبورون؟ فقال: اللّه أعدل من أن يجبر خلقه ثم يعذبهم. قال: فمُطْلَقون؟ قال: اللّه أحكم من أن يهمل عبده ويكله إلى نفسه"7.
6- وقد كتب الإِمام العاشر أبوالحسن الثالث صلوات اللّه عليه رسالة في الردّ على أهل الجبر والتفويض، وإثبات العدل، والأمر بين الأمرين، وهذه الرسالة نقلها صاحب تحف العقول في كتابه وممَّا جاء فيه: "فأما الجبر الذي يلزم من دان به الخطأ فهوقول من زعم أنَّ اللّه جل وعز، أجبر العباد على المعاصي وعاقبهم عليها، ومن قال بهذا القول فقد ظلّم اللّه في حكمه وكذّبه وردّ عليه قَوْلَه: ﴿ولا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾(الكهف:49)، وقوله: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللّه لَيْسَ بِظَلاَّم لِلْعَبيد﴾(الحج:10)، وقوله: ﴿إِنَّ اللّه لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئَاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾(يونس:44). فمن زعم أنَّه مجبَر على المعاصي، فقد أحال بذنبه على اللّه، وقد ظلَّمه في عقوبته، ومن ظلَّم اللّه فقد كذَّب كتابه، ومن كذَّب كتابه فقد لزمه الكفر باجتماع الأمة. إلى أن قال: فمن زعم أنَّ اللّه تعالى فوض أمره ونهيه إلى عباده فقد أثبت عليه العجز... إلى أن قال لكن نقول: إنَّ اللّه عزوجل خلق الخلق بقدرته، ومَلَّكَهُم استطاعةً تَعَبَّدَهُم بها فأَمرهم ونهاهم بما أراد... إلى أن قال: وهذا القول بين القولين ليس بجبر ولا تفويض وبذلك أخبر أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه عباية بن ربعي الأسدي حين سأله عن الإِستطاعة التي بها يقوم ويقعد ويفعل، فقال له أمير المؤمنين: سألت عن الإِستطاعة، تملكها من دون اللّه ومع اللّه؟ فسكت عباية، فقال له أمير المؤمنين: قل يا عباية، قال: وما أقول؟. قال عليه السَّلام إن قلت إنك تملكها مع اللّه قتلتك. وإنَّ قلت تملكها دون اللّه قتلتك. قال عباية: فما أقول يا أميرالمؤمنين؟ قال عليه السَّلام تقول: إنك تملكها باللّه الذي يملكها من دونك. فإنْ يُمَلّكها إياك كان ذلك من عطائه، وإنَّ يَسْلُبْكَها كان ذلك من بلائه، هوالمالك لما ملّكك، والقادر على ما عليه أقدرك"8.
قال العلاَّمة الطباطبائي: إختلف في الإِستطاعة قبل الفعل هل العبد مستقل بها بحيث يتصرف في الأسباب وآلات الفعل من غير أن يرتبط شيء من تصرفه باللّه، أم للّه فيها صنع، بحيث إنَّ القدرة للّه مضافة إلى سائر الأسباب، وإنما يقدر العبد بتمليك اللّه إيَّاه شيئاً منها، المعتزلة على الأول والمتحصل من أخبار أهل البيت عليهم السَّلام هوالثاني9.
ولكن إنّ تمليكه سبحانه لا يبطل ملكه، فالمولى مالك لجميع ما يملكه في عين كونه ملكاً للعبد10.
وقد اكتفينا بهذا النزر اليسير، وهوغيض من فيض، وقليل من الكثير من الأحاديث الواردة في باب الجبر والتفويض، وباب القضاء والقدر. وقد تقدم إيراد مجموعة من هذه الأحاديث فيما مضى.
ومن ظريف ما روي عن الشهيد السعيد زين الدين الجبعي العاملي (ت 909 - م 966) قوله:
لقد جاء في القُرآن آيةُ حِكْمَة * تُدَمِّرُ آياتِ الضّلالِ ومن يجبُر وَتُخْبِرُ أنَّ الإِختيارَ بأَيدينا * فمن شاء فلْيُؤْمن ومن شاء فَلْيَكْفُر11.
رجوع الرازي إلى القول بالأمر بين الأمرين
إن فخر الدين الرازي (ت 543 - م 606 ه)، مع كونه متعصباً في الذبّ عن كلام الأشعري، رجع إلى القول بالأمر بين الأمرين وقال:
"هذه المسألة عجيبة، فإن الناس كانوا مختلفين فيها أبداً بسبب أنَّ ما يمكن الرجوع فيها إليها متعارضة، فَمُعَوَّلُ الجبرية على أنَّه لابد لترجيح الفعل على الترك من مرجح ليس من العبد، ومعوّل القَدَرية على أنَّ العبد لولم يكن قادراً على فعل لما حسن المدح والذمّ والأمر والنهي". ثم ذكر أدلة الطائفتين إلى أن قال: "الحق ما قال بعض أئمة الدين إنَّه لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين، وذلك أنَّ مبنى المبادئ القريبة لأفعال العباد على قدرته واختياره والمبادئ البعيدة على عجزه واضطراره، فالإنسان مضطر في صورة مختار كالقلم في يد الكاتب والوتد في شق الحائط، وفي كلام العقلاء قال الحائط للوتد: لِمَ تَشُقُّني؟ فقال: سَلْ مَنْ يَدقُّني"12.
إعتراف شيخ الأزهر بصحة هذه النظرية
وممن اعترف بالأمر بين الأمرين شيخ الأزهر في وقته، الشيخ محمد عبده في رسالته حول التوحيد، وقد أثّر كلامه في الأجيال المتأخرة من تلاميذ منهجه ومطالعي كتبه، قال: "جاءت الشريعة بتقرير أمرين عظيمين، هما ركنا السعادة وقوام الأعمال البشرية، الأول: إنَّ العبد يكسب بإرادته وقدرته ما هووسيلة لسعادته. والثاني: إنَّ قدرة اللّه هي مرجع لجميع الكائنات وإن من آثارها ما يحول بين العبد وإنفاذ ما يريده وإنّ لا شيء سوى اللّه يمكن له أن يمد العبد بالمعونة فيما لم يبلغه كسبه...
وقد كلّفه سبحانه أن يرفع همته إلى استمداد العون منه وحده بعد أن يكون قد أفرغ ما عنده من الجهد في تصحيح الكفر وإجادة العمل وهذا الذي قررناه قد اهتدى إليه سلف الأُمة فقاموا من الأعمال بما عجبت له الأُمم وعوّل عليه من متأخري أهل النظر إمام الحرمين الجُوَيْني رحمه اللّه، وإن أنكر عليه بعض من لم يفهمه"13.
*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني،مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج2،ص352-361
1- مفاتيح الغيب، ج 4، ص 418، الطبعة الأولى 1308.
2- مفاتيح الغيب، ج 4، ص 418، الطبعة الأولى 1308.
3- التوحيد باب نفي الجبر والتفويض، الحديث 3، ص 360.
4- المصدر السابق، الحديث 7، والسند صحيح.
5- المصدر السابق، الحديث 8.
6- البحار كتاب العدل والمعاد، ج 5، الحديث 38، ص 30.
7- المصدر السابق الحديث 120، ص 56.
8- المصدر السابق كتاب العدل. والمعاد الباب الثاني الحديث1، ص71-75.وهذا الحديث يفسّر ما رواه المجلسي عن أبي إبراهيم موسى الكاظم برقم61،ص39، المصدر السابق نفسه.
9- المصدر السابق، ص 39، تعليقة العلاَّمة الطباطبائي رحمه اللّه.
10- لاحظ تعليقته الأخرى، ص 83.
11- مقدمة الروضة البهية للشهيد الثاني، ص 188.
12- بحار الأنوار، ج 5، ص 82.ولا يخفى إنَّه مع اعترافه ببطلان الجبر والتفويض في ثنايا كلامه لم يفسّر نظرية الأمر بين الأمرين تفسيراً لائقاً بها.
13- رسالة التَّوحيد، ص 59 - 62 بتلخيص.