مناهج الاختيار : الاختيار لدى الوجوديين
العدل
الإِختيار لدى الوجوديين الذائعي الصيت في الغرب يقوم مقام التفويض لدى المعتزلة في الشرق الإِسلامي غير أن الداعي يختلف عند الفرقتين، فالمعتزلي الشرقي قال بثبوت الإِختيار للإِنسان في أفعاله بصورة التفويض حفاظاً على العدل الإِلهي...
عدد الزوار: 155
الإِختيار لدى الوجوديين الذائعي الصيت في الغرب يقوم مقام التفويض لدى المعتزلة في الشرق الإِسلامي غير أن الداعي يختلف عند الفرقتين، فالمعتزلي الشرقي قال بثبوت الإِختيار للإِنسان في أفعاله بصورة التفويض حفاظاً على العدل الإِلهي. والوجودي الغربي ذهب إلى أنَّ الإِنسان يتكون ويتولد مجرداً عن كل لون وصبغة، وعن كل ميل وغريزة، للحفاظ على حريته وعدم انسياقه بالذات إلى جانب خاص.
وإذا كان التَّفويض المعتزلي ردّ فعل على الجبر المعروف بين أهل الحديث والحنابلة، ثم الأشاعرة، فالإختيار لدى الوجوديين بالنحوالسابق ردّ فعل على الجبري المادي الذي يعتقد بأنَّ الإِنسان يتولد وهوأسير عامل الوراثة ثم الثقافة والبيئة. فالوجوديون تقدموا في إثبات الإِختيار إلى حدّ أنكروا أن يكون لغير فعل الإِنسان وعمله تأثير في تكوّن شخصيته.
ومن روّاد هذا المسلك في الأوساط الغربية الفيلسوف الفرنسي جان پول سارتر1. وحاصل مذهبه:
إِنَّ وجود الإِنسان متقدم على طبيعته وماهيته فهويتكون بلا ماهية ويتولد بلا قيد. ثم إِنَّه بفعله وعمله في ظل إرادته واختياره، يصنع لنفسه شخصية. وعلى ذلك فما اشتهر من وجود الميول والغرائز في الوجود الإنساني التي تضفي على وجود الإنسان لوناً وصبغة وتوجد فيه انحيازاً إلى نقطة وتمايلا إلى شيء، ليس بصحيح لأن الإعتراف بوجود هذه الغرائز، سواء أكانت علوية وسفلية يزاحم اختياره وحريته، ويسلب منه الحرية التامة والتساوي بالنسبة إلى كل شيء.
فلأجل الحفاظ على حرية الإِنسان وكونه موجوداً فعّالا بالإختيار وحرّاً في الإِنتخاب يجب إنكار كل عقيدة مسبقة (يريد نفي القضاء والقدر)، وكل مصير يجعله مسيّر. وهذا هوالمراد ممّا اشتهر منهم بأنَّ الإنسان يتكون بلا ماهية2.
مناقشة النظرية
إنَّ للإِنسان ماهيتين
1ـ ماهية عامة يتكون معها ويتولد به.
2ـ ماهية خاصة يكتسبها في ضوء إرادته عن طريق العمل.
وعدم التفرقة بين الماهيتين دفعهم إلى الإِعتقاد بتكون الإِنسان وتولده مجرّداً عن كل صبغة طبيعية وسائقة ذاتية.
أما الطبيعة العامة، فهي عبارة عن الطاقات والمواهب الإِلهية المودعة في وجوده وهي ميول طبيعية تسوقه إلى نقطة خاصة فيها سعادته وشقاؤه وقد أعطى سبحانه، زمامها بيد الإِنسان المختار في كيفية الإِستفادة منها كمّاً وكيف. ونحن نعترف بأنَّ هذه المواهب والإِستعدادات توجد في نفس الإِنسان محدودية خاصة وتحقق في وجوده انحيازاً إلى جانب، ولكنها لا تعدوعن كونها قابليات واقتضاءات وأرضيات لأهداف خاصة، ولكن زمام الإِختيار فيها بيد الإِنسان المختار فله أن يتطلب بهذه المواهب ما شاء. كما له أن يترك الإِستفادة منها، بل له أن يكافحها.
والذي يدل على ذلك ما كشف عنه العلم من أنَّ الإِنسان يتولد وفيه طاقات وسوائق متضادة ومختلفة، وكل يطلب منشوداً خاصاً، ولولا هذه الطاقات المتضادة لما وصل الإِنسان إلى قمة التكامل. مثلا:
الإِنسان جُبِل على حب النفس، ويظهر هذا منه من نعومة أظفاره، وفي الوقت نفسه جبل على حب الخير ويظهر بعد سنين من حياته. فالإِنسان المختار يستفيد من تلك الميول الطبيعية على حد لا يجعله حب الذات حيواناً ضارياً، كما لا يجعله حبّ الخير إنساناً تاركاً ومهملا لحياته. فالحفاظ على حرية الإِنسان لا يتوقف على إنكار الفطريات والغرائز بل يكفي في ذلك القول بأنَّ للإِنسان ماهية عامة موجودة في جميع الأفراد ليس للإِنسان في الإِنطباع بها أي صنع ودخالة. وماهية خاصة، يستحصلها عن طريق العمل.
وأمَّا الطبيعة الخاصة، فهي عبارة عمَّا يتكون في نفس الإِنسان من الروحيات العالية والدانية نتيجة استفادته من تلك المواهب الأولية، إفراطاً وتفريطاً واعتدالاً. مثلا قد أودعت يد الخلقة في وجود الإِنسان ميولا سافلة كالغضب. وفي الوقت نفسه أودعت ميولا عالية كالرحمة والرأفة. فربما يتجلى الإِنسان في مسرح الحياة سبعاً ضارياً لإِفراطه في أعماله قوة الغضب، كما قد يتجلى إنساناً مهملا تاركاً لحقوقه الفردية والإِجتماعية وفريسة للمعتدين لتفريطه في أعماله. وقد يتجلى إنساناً مثالياً يستفيد منها على حدّ الإِعتدال بالموازنة مع جانب الرحمة والرأفة فيدفع عن نفسه الإِعتداءات وفي بعض الأحيان يُؤثر غيره ويقوم بحاجات بني نوعه. فهناك شخصيات ثلاث تتكون في الفرد الإِنساني حسب إعماله تلك الموهبة الإِلهية. وقس عليه سائر الميول والغرائز عالية كانت وسافلة، إنسانية كانت وحيوانية.
ثم إنَّ سعادة الإِنسان وشقاءه ليسا رهن الماهية العامة، والإِعتراف بها لا يمس بكرامة سعادته، كما لا يجعله في عِداد الأتقياء. بل الماهيات العامة تُعَبّد له طريق السعادة خصوصاً الفطريات العالية الإِنسانية التي كشف عنها العلم وهي:
1ـ روح الإِستقراء واكتشاف الحقائق.
2ـ حب الخير والنزوع إلى البر والمعروف.
3ـ علاقته بالجمال في مجالات الطبيعة والصناعة.
4ـ الشعور الديني الذي يتأجج لدى الشباب في سن البلوغ.
فهذه الميول النابعة من داخل الإِنسان وفطرته هي ماهيته العامة وكلها تسوقه إلى الخير وتصده عن الشر، لكن على وجه الإِقتضاء فهناك إنسان يستخدم تلك المواهب في ظل الإِختيار والإِرادة ويكون عالِماً كاشفاً عن السنن الكونية، وإنساناً بارّاً يفعل الخير لبني نوعه، وموجوداً فنّاناً يصنع المصنوعات الدقيقة، وإنساناً إلهياً، يعتقد بأنَّ وراء العالم عالَماً آخر وأنَّ هناك خالقاً للكون وله تجاه خالقه مسؤوليات وتكاليف.
كما أنَّ هناك إنسان يترك الإِستفادة منها ومن بعضها فيسقط في المهاوي ويتجلّى على خلاف الإِنسان المتقدم.
فالإِعتراف بهذه الفطريات لا يجعل الإِنسان جاهز الصنع، كما عرفت، فإن الذي يرتبط بهذه الفطريات إنما هي شخصيته العامة وأمَّا شخصيته الخاصة فهي مصنوعة إرادته واختياره.
والعجب أنَّ مبدع النظرية لم يقدر على إنكار ماهية عامة للإِنسان في بعض المجالات، فهويعترف بأنَّ الإِنسان يتولد في إطار قيود خاصة منها أنَّ وجوده متعلق بهذا العالم، ويعيش حياة اجتماعية، وأنَّه موجود فان، وغير ذلك من الحدود والقيود.
أقول: إنَّ الحدود والقيود التي تحدّ شخصية الإِنسان لا من قِبل نفسه أكثر مما اعترف به، فكل إنسان يعيش بين أحضان العالم المادي محكوم بقوانين الكون الفيزيائية والكيميائية.
والظاهر أنَّ أصحاب النظرية قد ابتدعوا المدعى وصاغوه في قالب خاص لغايات اجتماعية ثم ذهبوا للحفاظ على المدعى إلى إنكار الفطريات والغرائز المودوعة في وجوده وهوأشبه باتخاذ موقف خاص في موضوع ثم تَعَمُّل الدليل عليه.
*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني،مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج2،ص335-339
1- ولد في باريس عام 1905
2- عصر التجزية والتحليل، ص 125.