يتم التحميل...

مناهج الجبر: الجبر المادي

العدل

الجبر المادي هوالذي يحلل فعل الإِنسان من خلال العِلَل المادية المكونة لشخصيته: روحياته ونفسانياته. وليست هي إلاَّ ما يعبّر عنه في ألسنتهم بـ مثلث الشخصية، فإنها المكونة لحقيقة كل إنسان وواقعيته التي تسوقه إلى الفعل المناسب لها وكل إناء بما فيه ينضح.

عدد الزوار: 63

الجبر المادي هو الذي يحلل فعل الإِنسان من خلال العِلَل المادية المكونة لشخصيته: روحياته ونفسانياته. وليست هي إلاَّ ما يعبّر عنه في ألسنتهم بـ "مثلث الشخصية"، فإنها المكونة لحقيقة كل إنسان وواقعيته التي تسوقه إلى الفعل المناسب لها "وكل إناء بما فيه ينضح". وقبل تقرير دليلهم نأتي بكلمة:

الانعتاق من القيود تحت غِطاء "الجبر"
إنَّ الاعتقاد بالجبر شيء يصادم الوجدان والفطرة، كما يصادم ما اتفق عليه العقلاء، حتى أنَّ القائلين به في الأبحاث الفلسفية يدافعون عن الحرية في حياتهم الاجتماعية ويقفون في وجه المعتدي على حقوقهم ويشجبون عدوانه ويشكونه إلى المحاكم القانونية فهؤلاء جبريون في الفكر، ولكنهم ملتزمون بالاختيار في مقام العمل والمعاشرة، فعند ذلك ينطرح هذا السؤال:

ما هذا التناقض بين الفِكْر والعمل؟ ولماذا يدّعي هؤلاء أنَّ الإِنسان مُسَيّر لا مُخَيّر، مع أنهم يعاملون الإِنسان في حياتهم معاملة الموجود المختار؟
 
الحق أنَّ هنا دوافع مختلفة بعضها إجتماعية وبعضها الآخر سياسية.

أما الأولى: فلأنَّ هؤلاء يريدون تجاهل القوانين وتجاوز الحدود والحصول على الحرية المطلقة في العمل، والإنحلال عن كل قيد ورفض كل قاعدة إجتماعية وأخلاقية. ومن الطبيعي أنَّ هذا لا يجتمع مع تحمل المسؤولية المترتبة على الحرية والإِختيار، فلا بدّ من اللجوء إلى أصل فلسفي يرفع عن كاهل الإنسان تلك المسؤولية وليس هوإلاَّ القول بالجبر وكون الإنسان مسيّراً.

وأما الثانية: فأكثر أصحاب هذه الفِكرة هم السلطات الغاشمة الفارضة نفسها وسلطانها على الناس بالقهر، فهم يروجون تلك الفِكرة حتى يبرروا بها أفعالهم الإِجرامية.

ولأجل ذلك يصوّر شاعر مبدع العامل الأول قائل:

سألتَ المُخَنَّثَ عَنْ فِعْلِهِ      عَلاََمَ تَخَنَّثْتَ يَا مَاذِقُ
فَقَال ابتلاني بداء عُضَال   وأَسْلَمَني القَدَرُ السَّابقُ
ولُمْت الزُّناةَ على فِعْلِهِمْ   فقالوا بِهذا قَضَى الخَالِقُ
وَ قُلْتُ لآكِلِ مَالِ اليَتِيمِ      أَكلتَ وأنت امْرُؤٌ فَاسِقُ
فَقَال وَلَجْلَج فِي قَوْلِهِ       أَكلتُ وَ أَطعَمَنِي الْخَالِقُ
وَكُلُ يُحيلُ عَلى رَبِّهِ        وَ مَا فِيهمُ وأحدٌ صَادِقُ


هذا فِكْرُ جَبْريِّ العصورِ السابقة، وأمَّا الجبرىّ المادىّ المعاصر، فقد أخذ هذا المنطق ونسبه إلى العوامل المادية ليصل إلى ما وصل إليه الجبري السابق من الإنحلال من القيود.

العوامل المُكوّنة للشخصية
إستند أصحاب هذه النظرية إلى أنَّ الإِنسان وإن كان حرّاً في ظاهره ولكن إذا لوحظت العوامل التي تكوّن شخصيتهُ الفكرية، لحكمنا بأنَّه لا مناص له إلاَّ بالجنوح إلى ما توحي إليه نفسيته. والعوامل المكونة لشخصيته: تفكراته وتعقلاته، وروحياته ونفسانياته، تتلخص في النواميس التالية:

1- الوراثة، 2- الثقافة، 3- البيئة.

ففي ناموس الوراثة، يرث الأولاد من آبائهم وأُمهاتهم السجايا العليا والصفات الدنيئة، فهي تنتقل عن طريق الحيوان المنوي في الأب والبويضة في الأم إلى الوليد، ومن خيوطهما تنسج خيوط شخصيته، وبحسبها يكون سلوكه.

وأما الثقافة والتعليم، فلهما أيضاً تأثير في شخصية الإِنسان، فمن هذا الطريق تزرع في كيانه الشخصي الأفكار الخاصة من توحيد وإلحاد، وثورة وخمود، وقناعة وحرص، إلى غير ذلك من الروحيات التي لها اقتضاء خاص وبحسبها يميل الإِنسان إلى سلوك معين.

وأما البيئة والمحيط، فالإنسان وليد بيئته في سلوكه وخلقه، ولأجل ذلك نجد اختلاف السلوك في المجتمعات حسب اختلاف البيئات.

هذه هي العوامل البنّاءة لشخصية الإِنسان وروحياته، وكل إنسان يحوك على نولها ويعمل بحسب اقتضائه. وعلى ضوء هذا، فكل فعل ينتهي إلى علّة موجبة لوجود الفعل، وليست هي إلاَّ شخصيته المتكونة من العوامل المحيطة به السائقة له نحوالفعل. حتى أنَّ الإِرادة التي تعدّ رمزاً للإِختيار، وليدة تلك العوامل في صقع النفس. فإذا كانت هذه العوامل خارجة عن الإِختيار، فما ينتهي إليها كذلك.

يلاحظ عليه: إنّه لا شك في تأثير هذه العوامل في تكوين الشخصية، ولكن ليس تأثيرها إلى درجة يسلب الإِختيار من الإِنسان. إذ لوصحّ هذا، للزم بطلان جهود المربّين، وصيرورة أعمال المصلحين هواءً في شَبَك. بل هذه العوامل لا تعدوعن كونها مقتضيات وأرضيات تطلب أموراً حسب طبيعتها، ولكن وراءها حرية الإِنسان واختياره. وقد خلط المادي في هذه النظرية بين الإِيجاب والإِقتضاء، والعلَّة التامة والعلَّة الناقصة. ولأجل إيضاح مدى تأثير هذه العوامل نبحث عن كل واحدة منها على وجه الإِجمال.

أما الوراثة فهي ناموس مقبول في الجملة، ولكن لا يعلم حدودها سعة وضيقاً، فلا شك أن الأولاد يرثون الصفات الخلقية والروحية على وجه الإجمال ولكن ما يتركه الآباء والأُمهات في هذا المجال ينقسم إلى نوعين:

1- ما يفرض على الأولاد فرضاً لا يمكن إزالته مثل الحمق، والبلادة، والعقل والذكاء، والجبن، والشجاعة وغير ذلك مما لا يمكن إزالته في الأغلب بالجهود التربوية والإِصلاحية.

2- ما يرثه الأولاد على وجه الأرضية والإِقتضاء، وبصورة تأثير العلّة الناقصة، فيمكن إزالة آثاره بالوسائل التربوية والطرق العلمية وذلك كالأمراض الموروثة كالسل وغيره، ومثل هذا القسم طائفة كبيرة من الروحيات كحالة الطغيان والتمرد فإنه يمكن إزالتها برفَع مستوى فكر الإِنسان وعقليته، وإيقافه على عواقب العصيان. فليس كل ما يرثه الأولاد من الآباء والأمهات مصيراً لازماً وقضاءً حتماً، بل هناك فوق بعض ذلك إرادة الإِنسان واختياره وسائر العوامل التربوية المغيرة لأرضية الوراثة.

وأما التعليم والثقافة، فلا شك في تأثيرهما في شخصية الإِنسان ولتأثيرهما شواهد جمّة في التاريخ، ولكن ليس دور التعليم في تكوين الشخصية على وجه الإيجاب، فله قبول ما يلقى إليه من المفاهيم والتعاليم، كما أنَّ له رفضها، ولأجل ذلك يختلف خريجوالثقافة الواحدة بين قابل لما أوحته إليه، ورافض له. وهذا دليل على أنَّ الثقافة لا تؤثر إلاَّ بشكل غير إيجابي.

وأما الثالث من العوامل أعني البيئة، فلها دور خاص في تكوين الشخصية، فالقاطنون في المناطق الحارة تختلف طباعهم وروحياتهم عمن يعيشون في المناطق الباردة، لكن العوامل الطبيعية والجغرافية كالعاملين السابقين لا تبلغ في التأثير حدّ الجبر بحيث لا يتمكن الإِنسان من التخلص من أثرها.

فإذا كان تأثير كل منها تأثيراً اقتضائياً، فليس مجموعها أيضاً مؤثراً على وجه الإِيجاب بحيث لا يمكن تغيير آثارها بالعوامل المشابهة. وليس الإِنسان بعدما تأثر بالوراثة والثقافة والبيئة كمجسمة حجرية لا يمكن تغيير صفتها وجزئها إلاَّ بالقضاء عليها، بل الإنسان بعد ذلك قابل للتأثّر والتغيير في ظل عاملين مختلفين:

1- التفكر والتدبّر في صالح أعماله وطالح أفعاله، وما يترتب عليهما من الآثار والمضاعفات، سواء أكانت الأفعال مناسبة لشخصيته المكونة في ظل تلك العوامل، ومنافية له. وإنكار ذلك إنكار للبداهة.

2- الوقوع في إطار ثقافة وبيئة تختلف عمّا كان فيه، فلا شك أنَّ لهذين العاملين، حتى في السنين المتأخرة من العمر، تأثير في إزالة بعض وكل ما خلفته العوامل السابقة. وهذا دليل على أنَّ المثلث الماضي لم يكن مؤثراً بنحوالإيجاب حتى لا يمكن التخلّف عنه، بل التأثير بشكل الإِقتضاء.

وفي الختام، لا يمكن لإنسان أن ينكر دور الأنبياء والمصلحين في تغيير الأجيال والمجتمعات بعدما تمت شخصيتهم وتكونت روحياتهم ونفسانياتهم وكم لذلك من شواهد تاريخية نتركها للباحث.

*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني، مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج2، ص315-319

2009-08-01