يتم التحميل...

تفسير القدر والقضاء العلميَّيْن

العدل

إذا كان التقدير والقضاء العينيّان راجعين إلى إطار وجود الشيء في الخارج من اتصافه بالتقدير والضرورة، يكون المراد من التقدير والقضاء العلميين، علمه سبحانه بمقدار الشيء وضرورة وجوده في ظرف خاص، علماً ثابتاً في الذات أو علماً مكتوباً في كتاب...

عدد الزوار: 86

إذا كان التقدير والقضاء العينيّان راجعين إلى إطار وجود الشيء في الخارج من اتصافه بالتقدير والضرورة، يكون المراد من التقدير والقضاء العلميين، علمه سبحانه بمقدار الشيء وضرورة وجوده في ظرف خاص، علماً ثابتاً في الذات أو علماً مكتوباً في كتاب. والأول يكون علماً في مقام الذات والآخر يكون علماً في مقام الفعل.

ولكن الفلاسفة خصّوا القضاء بالجانب العلمي والقدر بالجانب العيني فقالوا: "القضاء" عبارة عن علمه بما ينبغي أن يكن عليه الوجود حتى يكون على أحسن النظام وأكمل الانتظام وهو المسمى بـ "العناية" الّتي هي مبدأ لفيضان الموجودات من حيث جملتها على أحسن الوجوه وأكملها. و"القَدَرُ" عبارة عن خروجها على الوجود العيني بأسبابها على الوجه الّذي تقرر في القضاء".

كما أنَّ الأشاعرة خصّوا "القضاء" بكون الشيء متعلقاً للإرادة الأزلية قبل إيجادها، و "القدر"بإيجادها على قدر مخصوص، فقالو: "إن "قضاء الله" هو إرادته الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال. و "قدَرَه" إيجاده إيّاها على قدر مخصوص وتقدير معين في ذواتها وأحوالها.

والمعتزلة أنكروا وقوع الأفعال الاختيارية الصادرة عن العبادة متعلقاً للقضاء والقدر وأثبتوا علمه تعالى بهذه الأفعال، ولكن أنكروا إسناد وجودها إلى ذلك العلم، بل إلى اختيار العباد وقدرتهم1.

ولكن الحق حسب ما تعطيه الآيات القرآنية أنَّ كلاًّ من القضاء والقدر على قسمين علمي وعيني. أمّا العيني فقد تقدّم، وأمّا العلمي فالتقدير منه هو علمه سبحانه بما تكون عليه الأشياء كلّها من حدود وخصوصيات. والقضاء منه، علمه سبحانه بحتميّة وجود تلك الأشياء عن عللها ومبادئها. وإليك فيما يلي بيان العلمي منهما، ثمّ بيان عدم استلزام وجود الجبر في الأفعال الاختيارية للعبادة فتارة نبحث عن كون أفعال العباد، معلومة لله سبحانه في الأزل، وأخرى عن كونها متعلقة للإرادة الأزلية، حتى يكون البحث واضحاً.

أفعال العباد وعلمه الأزلي

لا شك أنَّ الله سبحانه كان عالماً بكل ما يوجد في هذا الكوكب ومطلق الكون، فكان واقفاً على حركة الالكترونات في بطون الذرّات، وعلى حفيف أوراق الأشجار في الحدائق والغابات، وحركات الحيتان العظيمة في خضم أمواج المحيطات. كما أنه سبحانه كان عالماً قبل أن يخلق العالم بأفعال المجرمين وقسوة السفّاكين، وطاعة الطائعين هذا من جانب.

ومن جانب آخر: إنَّ علمه تعالى بالأُمور علم بالواقع والحقيقة وهو لا يتخلف عن الواقع قيد شعرة...

قال سبحانه: ﴿وَلاَ رَطْب وَلاَ يَابِس إِلاَّ فِي كِتَاب مُبِين(الأنعام:59).
وقال سبحانه: ﴿قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْء عِلْماً(الطلاق:12).

وعلى هذين الأساسين ربما يتصور أنَّ تعلق ذلك العلم بكل الأشياء عموماً، والأفعال الاختيارية للإنسان خصوصاً، يجعل الإنسان مجبوراً مضطراً متظاهراً بالحرية والاختيار، لأنه سبحانه إذا كان يعلم من الأزل، أنَّ هذا الشخص سيرتكب الذنب الفلاني في الساعة المعينة، فبما أنَّ العلم الإلهي لا يتخلف عن معلومه يجب أن يكون الشخص مصدراً لهذا الذنب، ولا يستطيع أن يتخلف عنه بأية قوة وقدرة، بل لا يستطيع أن يغير من كميته وكيفيته، إذ تخلفه نفس تخلف علم الله عن الواقع، وصيرورة علمه جهلاً تعالى الله عنه.

أقول: إنَّ هذا المقام هو المزلقة الكبرى للسطحيّين الذين مالوا إلى الجبر، لأجل كون أفعال العباد متعلقة لعلمه تعالى، غير متخلفة عن متعلقها ولكنهم لو وقفوا على كيفية تعلق علمه بصدور أفعال العباد منهم، لرجعوا عن هذا الحكم الخاطئ.

والجواب عن ذلك: إنَّ علمه سبحانه لم يتعلق بصدور أي أثر من مؤثره على أي وجه اتفق، وإنما تعلق علمه بصدور الآثار عن العلل مع الخصوصية الكامنة في نفس تلك العلل. فإن كانت العلة علة طبيعية فاقدة للشعور والاختيار أو واجدة للعلم فاقدة للاختيار، فتعلق علمه سبحانه بصدور فعلها وأثرها عنها بهذه الخصوصية، أي أن تصدر الحرارة من النار من دون أن تشعر فضلاً عن أن تريد، ويصدر الارتعاش من الإنسان المرتعش عن علم ولكن لا بإرادة واختيار، فالقول بصدور هذه الظواهر عن عللها بهذه الخصوصية يستلزم انطباق علمه على الواقع وعدم تخلفه عنه قيد شعرة.

وإن كانت العلَّة عالمة وشاعرة ومريدة ومختارة كالإنسان، فقد تعلق علمه على صدور أفعالها منها بتلك الخصوصيات وانصباغ فعلها بصبغة الاختيار والحرية. فلو صدر فعل الإنسان منه بهذه الكيفية، لكان علمه مطابقاً للواقع غير متخلف عنه، وأمَّا لو صدر فعله عنه في هذا المجال عن جبر واضطرار بلا علم وشعور، أو بلا اختيار وإرادة فعند ذلك يتخلف علمه عن الواقع.

نقول توضيحاً لذلك، إنَّ الأعمال الصادرة من الإنسان على قسمين: قسم يصدر منه بلا شعور ولا إرادة كأعمال الجهاز الدموي والجهاز المعوي وجهاز القلب والأحشاء، الّتي تتسم في أفعال الإنسان بسمة الأعمال الاضطرارية، غير الاختيارية.

وقسم آخر يصدر منه عن إرادة واختيار. ويتسم بسمة الأعمال الاختيارية غير الاضطرارية كدراسته وكتابته وتجارته وزراعته.

وعلى ما سبق من أنَّ علم الله تعالى تعبير عن الواقع بما لا يتخلف عنه قيد شعرة، فتقع أعماله مورداً لتعلق علم الله بها على ما هي عليه من الخصائص والألوان.فتكون النتيجة أنه سبحانه يعلم من الأزل بصدور فعل معين في لحظة معينة من إنسان معين إمَّا بالاضطرار والإكراه أو بالاختيار والحرية، وتعلق مثل هذا العلم لا ينتج الجبر، بل يلازم الإختيار. ولو صدر كل قسم على خلاف ما اتسم به لكان ذلك تخلفاً عن الواقع.

وبعبارة أُخرى: إن علم الله بما أنَّه يطابق الواقع الخارجي ولا يتخلف عنه أبداً، فيجب أن يقوم الإنسان بكل قسم من أعماله على حسب السمة الّتي اتّسم بها. فلو كان مصدراً لعمل الجهاز الدموي عن اختيار وقد تعلق علمه بصدوره عنه على وجه الاضطرار، لزم تخلف علمه عن معلومه. كما أنَّه لو كان مصدراً للقسم الآخر من أفعاله ككتابته وخياطته على وجه الإلجاء والاضطرار، لزم تخلف علمه عن الواقع لتعلق علمه بصدوره عنه بسمة الاختيار وسيوافيك نصوص من أئمة الحكماء كصدر المتألّهين وغيره عند البحث عن الجبر الأشعري.

فعلينا في هذا الموقف الالتفات إلى كيفية تعلق علمه بصدور الأفعال عن مبادئها وعللها.نعم، من أنكر وجود الأسباب والمسببات في الوجود، واعترف بعلّة واحدة وسبب مفرد وهو الله سبحانه وجعله قائماً مقام جميع العلل والأسباب، وصار هو مصدراً لكل الظواهر والحوادث مباشرة ولم يُقِم للعلل الطبيعية وللإنسان وما فيه من المبادئ وزناً وقيمة، ولم يعترف بتأثيرها في تكوّن الظواهر والحوادث، لا مناص له عن القول بالجبر. وهو مصير خاطئ يستلزم بطلان بعث الأنبياء وإنزال الكتب.


تمثيل خاطئ

ربما يتمسك في تحليل علمه سبحانه بمثال خاص ويقال إنَّ باستطاعة كثير من الأساتذة أن يتكهنوا بمستقبل تلامذتهم، فإنَّ المعلم الّذي يعرف حدود السعي والعمل والاستعداد في تلميذه المعيَّن، يستطيع أن يتكهن بنجاح التلميذ أو رسوبه بصورة قاطعة، فهل نستطيع أن نقول: إنَّ علم المعلم بوضع التلميذ صار علّة لعدم نجاحه في الامتحان بحيث لو تكهَّن المعلم بعكس هذا، لكان النجاح حليف التلميذ، أو إنَّ السبب في فشله في الإمتحان هو تكاسله أيام الدراسة، وإهماله طول السنة الدراسية مطالعة ومباحثة الكتاب المقرر.وصرفه أوقاته في الشَّهوات.

إنَّ هذا التمثيل نافع للأذهان البسيطة الّتي لا تفرق بين علم المعلم، وعلمه سبحانه. وأما العارف بخصوصية علمه تعالى وأنَّه نفس ذاته، وذاته علّة لما سواه، فهو يرى قياس أحد العلمين بالآخر قياساً خاطئاً، فإنّ علم المعلم ليس في سلسلة علل الحوادث، وفي مورد المثال: رسوب التلميذ أو نجاحه. وهذا بخلاف علمه تعالى فإنه في سلسلة العلل، بل تنتهي إليه جميع الأسباب والمسببات.وقد عرفت أنَّ القضاء عند الفلاسفة عبارة عن علمه بما ينبغي أن يكون عليه الوجود حتى يكون على أحسن النظام وأكمل الانتظام، وهو المسمّى عندهم بالعناية الّتي هي مبدأ لفيضان الموجودات، من حيث جملتها على أحسن الوجوه وأكملها. فعند ذلك يصبح التمثيل في مقام الإجابة أجنبياً عن الإشكال.

والحق في الإجابة ما ذكرنا من أنَّ علمه العنائي الّذي هو السبب لظهور الموجودات على صفحة الوجود، وإن كان علة لظهور الأشياء، لكنه ليس بالعلَّة الوحيدة القائمة مقام الأسباب والعلل المتأخرة (كما عليه الأشاعرة المنكرين للأسباب والمسببات) بل هناك أسباب ومسببات كثيرة يؤثر كل سبب في مسببه بإذنه سبحانه ومشيئته. وفي خلال تلك الأسباب سببية الإنسان لفعله بإذنه سبحانه، فَتَعَلَّقَ علمه على أن يكون الإنسان في معترك الحياة فاعلاً مختاراً وسبباً حُرّاً لما يفعل ويترك. فكون مثل هذا السبب متعلقاً لعلمه العنائي المبدأ لفيضان الموجودات، لا ينتج الجبر بل ينتج الاختيار.

*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني،مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج2،ص197-202


1- شرح المواقف، ج 8، ص 180 ـ 181.

2009-08-01