القضاء والقدر في الصحاح والمسانيد
العدل
إنَّ القدر والقضاء أمر ثابت في الشريعة الإسلامية ولا يمكن إنكاره أبد. وهما لا يعدوان العلمي والعيني، وأنَّ كلاًّ منهما غير سالب للاختيار. غير أنَّ الظاهر ممَّا رواه أصحاب الصّحاح والمسانيد أنَّ القدر عامل غالب على الإنسان في أفعاله الاختيارية، يتحكم بها، ويسلب عنه الاختيار رغم أرادته مخالفته.
عدد الزوار: 901- روى البخاري في صحيحه: "احتج آدم وموسى، فقال له موسى يا آدم أنت أبونا خيّبتنا، وأخرجتنا من الجنة، فقال له آدم: يا موسى، اصطفاك الله بكلامه، وخطّ لك بيده، أتلومني على أمر قدّر الله عليَّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة"1.
فآدم حسب هذا النقل يبرر عمله الّذي وصفه سبحانه بقوله: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾(طه:121)بالقدر، وكأنّ القدر عامل خارج عن إطار حياة الإنسان، حاكم عليه، رغم أنّه يريد أن لا يطيعه.
2- وروى أيضاً عن زيد بن وهب عن عبد الله قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو الصادق المصدّق:... إلى أن قال: "ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر بأربع: برزقه وأجله وشقي أو سعيد. فوالله إنَّ أحدكم أو الرجل يعمل بعمل أهل الكتاب حتى ما يكون بينه وبينها غير باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخله. وإنَّ الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو ذراعين فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها"2.
3- روى مسلم في صحيحه عن سراقة بن مالك بن جعشم أنه قال: "يا رسول الله بيّن لنا ديننا كأنَّا خلقنا الآن، فيم عمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير؟ أم فيما يستقبل؟".
قال: "لا، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير".
قال: "ففيم العمل؟".
قال: "اعملوا فكل ميسّر لما خلق له، وكل عامل بعمله"3.
4- وروى البخاري عن أبي هريرة قال: "قال لي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: جفّ القلم بما أنت لاق"4. ورواه مسلم في صحيحه.
وينقل النّووي في شرح هذا الحديث: "ويقول الملك الموكل بالنطفة: "يا رب أشقي أم سعيد"فيكتبان، ويكتب عمله وأثره، وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف، فلا يزاد فيها ولا ينقص"5.
5- وروى مسلم عن حذيفة: "بعد ما يجعله الله سويّاً أو غير سَوِيّ، ثم يجعله الله شقياً أو سعيداً، وما من نفس منفوسة إلاّ وكتب الله مكانها من الجنة والنار، إلاّ وقد كتبت شقية أو سعيدة"6.
6- روى الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: خرج علينا رسول الله وفي يده كتابان قال: أتدري ما هذان الكتابان. قلن: لا يا رسول الله إلاّ أن تخبرنا. فقال للذي في يده اليمنى: هذا كتاب من ربّ العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجْمَلَ على آخرهم، فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً. وقال للذي في شماله: هذا كتاب من ربّ العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجْمَل على آخرهم، فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً. قال أصحابه: ففيم العمل يا رسول الله؟ إن كان أمراً قد فرغ منه. فقال: سدّدوا وقاربوا، فإنّ صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل. وإنّ صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده فنبذهم. ثم قال: فرغ ربّكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير7.
7- وروى البخاري ومسلم وابن داود عن عمران بن حصين قال: قال رجل يا رسول الله أعُلِم أهل الجنة من أهل النار؟
قال: نعم.
قال: ففيم يعمل العاملون؟
قال صلى الله عليه وآله وسلم: "كل مُيَسَّر لما خُلِق له". أخرجه مسلم وأبو داود.
وفي رواية البخاري: أيُعْرف أهل الجنة من أهل النار؟
قال: نعم.
قال: فلمَ يعمل العاملون؟
قال: كل يعمل لما خُلق له أو لما يُسّر له.
ولمسلم من رواية أبي الأسود الدؤلي: قال لي عمران بن حصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه؟ أشيءٌ قضي عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون به ممَّا أتاهم به نبيّهم وثبتت الحجة عليهم.
فقلت: بل شيء قضي عليهم ومضى.
قال: أفلا يكون ظلم.
قال: ففزعت من ذلك فزعاً شديداً، وقلت: كل شيء خَلْق الله ومِلْك يده، فلا يسأل عمَّا يفعل وهم يُسألون.
فقال لي: يرحمك الله: إني لم أرد بما سألتك إلاَّ لأحرز عقلك فإن رجلين من مزينة أتيا رسول الله فقالا:
يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون به ممّا أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم فقال: لا، بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم وتصديق ذلك في كتاب الله ﴿ونفس وما سوّاها * فألهمها فجورها وتقواها﴾(الشمس:7-8)8.
8- وروى الترمذي عن عبد الله بن عمر قال: قال عمر: يا رسول الله أرأيت ما نعمل فيه أمر مبتدع أو مبتدأ أو فيما قد فرغ منه؟ فقال بل فيما قد فرغ منه يا بن الخطاب، وكل مُيَسَّر. أمَّا مَنْ كان من أهل السعادة، فإنه يعمل للسعادة، وأمَّا من كان من أهل الشقاء فإنَّه يعمل للشقاء.
قال: لما نزلت "فمنهم شقي وسعيد"سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت يا نبي الله: فعلام نعمل، على شيء قد فرغ منه؟ أو على شيء لم يفرغ منه؟.
قال: بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر ولكن كل مُيَسَّر لما خُلقَ9.
هذه نماذج ممّا ذكره القوم في باب القدر، وكأنّ القدر حاكم، متعنت، حَمِق، قاس، حقود، على المساكين العاجزين بلا سبب ومبرر، وبذلك شقيت الكفار والعصاة بشقاوة الأبد، ولا مجال بعد ذلك لرأفته سبحانه ورحمته وإحسانه.
بل لقد قدّر كل ذلك لجماعة آخرين غرباء لا يهمه أمرهم بلا جهة ولا سبب، كما في بعض رواياتهم: "خلقت هؤلاء للجنة ولا أُبالي. وخلقت هؤلاء للنَّار ولا أُبالي".
عرض هذه الروايات على الكتاب
لا شك أنَّ هذه الروايات مخالفة للكتاب والسنَّة. فإنَّ الكتاب يعرّف الإنسان في موقف الهداية والضلالة موجوداً مختاراً وأنَّ هدايته وضلالته على عاتقه.
قال سبحانه: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾(الدهر:3).
وقال سبحانه: ﴿قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبَِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ﴾(سبأ:50).
وقال سبحانه: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظ﴾(الأنعام:104)10.
وقال سبحانه: ﴿كُلُّ امْرِىء بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾(الطور:21).
وقال سبحانه: ﴿إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾(الطور:16).
وقال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾(المدثّر:38).
أفَبَعْدَ هذه الآيات المُحْكَمات يصح لمسلم أن يؤمن بما جاء في هذه الروايات ويسندها إلى الرسول، حتى يبرر العصاة والطغاة أعمالهم الإجرامية بسبق القدر، وجفاف القلم، وانطواء الكتب، بحيث لا يزيد ولا ينقص.
فعند ذلك يصير مثَلُ الإنسان مثَل الملقى في اليَمِّ مكتوف الأيدي، ومَثَلُ أمْرِه ونَهْيِه مَثَلُ أمْرِ المُلقى بأن لا يبتل بالماء. قال:ألقاه في اليَمّ مكتوفاً وقال له * إيَّاك إيَّاك أنْ تَبْتَل بالماءِ
إنَّ صريح هذه الآيات هو أنَّ صانع مصير الإنسان اختياره الّذي تميز به عن سائر الموجودات بفضل منه سبحانه وأنَّ له الخيرة في اختيار أي طريق يشاؤه من الهداية والضلالة والسعادة والشقاء، وليس القدر عاملاً صانعاً للمصير في مجال أفعاله الاختيارية. نعم، هناك أمور خارجة عن اختياره ليس هو مسؤولاً عنها، ولا يعد صانعاً بالنسبة إليه. ولكن كلامنا غايته في أفعاله النفسية من إطاعته ومعصيته، وهذا هو الّذي نقصده من اختيار الإنسان فيه، لا الأفعال والحوادث الكونية الخارجة عن إطار قدرته.
ولكن الروايات المتقدمة، المبثوث إضعافها في الصحاح والمسانيد، تجعل من القدر قدرة صنّاعة لمصير البشر في الأفعال الّتي يسألون عنها، وهذا ممَّا لا يصدقه الكتاب كما عرفت، ولا السنَّة.
أمَّا السنَّة، فيكفي في كون ظواهر تلك الروايات غير مرادة، وأنها رويت على غير وجهها، ما رووه هم عن علي عليه السَّلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال علي عليه السَّلام: "كنَّا في جنازة في بقيع الغَرْقَد، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقعد وقعدنا حوله، ومعه مِخصَرَة. فَنَكَسَ وجعل يَنْكُت بمخصرته. ثم قال: ما منكم من أحد إلاّ وقد كتب مقعده من النَّار ومقعده من الجنة. قالو: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا؟
فقال: اعملوا، فكل مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له. أمَّا من كان من أهل السعادة فسيصير لعمل أهل السعادة. وأمَّا من كان من أهل الشقاء، فسيصير لعمل أهل الشقاء. ثم قرأ: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى﴾(الليل:5-7) أخرجه البخاري ومسلم.
وفي رواية الترمذي قال: "كنَّا في جنازة في بقيع الغَرْقَد. فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة، فجعل ينكت بها، ثم قال ما منكم من أحد، أو من نفس منفوسة، إلاَّ وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار، وإلاَّ قد كتبت شقية أو سعيدة، فقال رجل يا رسول الله، أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان منا من أهل السعادة، ليكونن إلى أهل السعادة، ومن كان منا من أهل الشقاوة، ليكونن إلى أهل الشقاوة؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بل اعملوا، فكلُ مُيَسَّر. فأمَّا أهل السعادة، فَيُيَسَّرون لعمل أهل السعادة وأمَّا أهل الشقاوة فَيُيَسَّرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى﴾(الليل:5-10)11.
فلو كان كل إنسان ميسراً لخصوص ما خُلِقَ له، كما هو ظاهر الرواية، بمعنى أنَّ أهل السعادة ميسرون للسعادة وأهل الشقاء ميسرون للشقاء بحيث لا يقدر كل صنف على الالتحاق بالصنف الآخر، فلماذا قرأ قوله سبحانه في ذيل الحديث: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى). فإنّ ظاهرها أنَّ لكل إنسان الخيار بين الإعطاء والإتقاء والتصديق بالحسنى، وضده. فهذه الرواية عن عليٍّ عليه السَّلام تعرب عن أنَّ كثيراً من روايات القدر، إمَّا منحوتة وموضوعة على لسان رسول الله بهذا المعنى الّذي شرحناه، أو منقولة بغير وجهه. أضف إلى ذلك أنَّ الروايات مخالفة للفطرة الإنسانية الّتي فطر الله كل إنسان عليها.
ولأجل ذلك نرى أنَّ أصحاب النبي بعدما سمعوا حقيقة القدر على الوجه الّذي جاء في الرواية، استوحشوا، فقالو: "ففيم العمل يا رسول الله، إن كان أمر قد فرغ منه". وما أجيبوا به من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: سدّدوا وقاربوا إلخ، ليس جواباً قالعاً للشبهه ورافعاً للإشكال12.
كما أنَّ الإجابة بأن كلاًّ مُيسَّرٌ لما خُلِق، لا يحل العقدة إن لم يزدها تعقيد. فإنَّ مفاده أنَّ أهل السعادة ميسرون للسعادة الّتي خلقوا لها وأهل الشقاء للشقاء الّذي خلقوا له. وهذا نفس الإشكال الّذي تردد في نفس السائل.
وفي ذيل رواية عمران بن حصين يظهر أنَّ القدر بالمعنى الوارد في الرواية مظنة كونه ظلماً للعباد، وأنَّ أبا الأسود الدؤلي فزع منه فزعاً شديداً، والجواب الّذي ذكره أبو الأسود من أنَّ كل شيء خَلْق الله وملك يده فلا يسأل عمَّا يفعل وهم يسألون، لا يرد الشبهة بل يؤكّدها.
إنَّ للعقيدة الإسلامية سمة البساطة لا التعقيد، وسهولة التكليف لا مشقته. أفي ميزان النَّصَفَة يَتَّسم القدر بهذا المعنى بالبساطة والسهولة؟!وسيوافيك أن يد الأحبار والرهبان لعبت في هذا المجال، وأنهم هم الّذي أوردوا القَدَر بهذا المعنى إلى الساحة الإسلامية، وغيّروا ما عليه الكتاب والسنَّة من التقدير غير السالب للإختيار، بل بمعنى علمه سبحانه المحيط بأفعال الإنسان خيرها وشرّها، حتى يَتْرُك الشرَّ ويَنْحُوَنحو الخير.
روى البرقي في محاسنه عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله الصادق عليه السَّلام قال: "إنَّ الله أكرم من أن يكلّف النّاس ما لا يطيقون، والله أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد"13.
فالشّق الأول من الحديث ينفي الجبر بتاتاً سواء استند إلى القدر أو غيره. والشقّ الثاني ينصّ على عموم إرادته سبحانه لكل الكائنات والأفعال الاختيارية للعباد.
الأحبار وإشاعة فكرة القدر بين المسلمين
لقد ابتلي المسلمون بعد كعب الأحبار بكتابيّ آخر قد بلغ الغاية في بث الإسرائيليات بين المسلمين، هو وهب بن منبه، قال الذهبي: ولد في آخر خلافة عثمان، كثير النقل عن كتب الإسرائيليات. توفّي سنة 114. وقد ضعّفه الفلاّس14.
وقال في (تذكرة الحفاظ): عالم أهل اليمن ولد سنة 34، وعنده من علم الكتاب شيء كثير، فإنه صرف عنايته إلى ذلك وبالغ. وحديثه في الصحيحين عن أخيه همّام.
ويظهر من تاريخ حياته أنَّه أحد المصادر لانتشار نظرية نفي الاختيار والمشيئة عن الإنسان حتى المشيئة الظلية لمشيئته سبحانه الّتي لولاها لبطل التكليف وأُلغيت الشريعة.
روى حمادبن سلمة عن أبي سنان قال: سمعنا وهب بن منبّه قال: كنت أقول بالقَدَر حتى قرأت بضعاً وسبعين كتاباً من كتب الأنبياء في كله: "من جعل لنفسه شيئاً من المشئية فقد كفر"، فتركت قولي15.
والمراد من "القَدَر" في قوله: "كنت أقول بالقَدَر"، هو القدرة الإنسانية التي عبّر عنها في ذيل كلامه بالاختيار والمشيئة. كما يمكن أن يكون المراد منه نفي القدر، كما ربما يقال "القدرية" على نفاة القدروالقضاء.
وهذا النقل يعطي أنَّ القول بنفي المشيئة للإنسان ممَّا ورد في أزيد من سبعين كتاباً من كتب الأنبياء، حسب زعم هذا الكتابي، ومنها تسرب هذا القول إلى الأوساط الإسلامية، حيت أصبح من قال بالمشيئة يكفر حسب نقل هذا الكتابي. وقد تسنم الرجل منبر التحدث عن الأنبياء يوم كان نَقْل الحديث عن النبي ممنوعاً، وكان نتيجة ذلك التحدث انتشار الإسرائيليات الراجعة إلى حياة الأنبياء في العاصمة الإسلامية المدينة المنورة، وقد جمع ما ألقاه في مجلد أسماه في كشف الظنون: "قصص الأبرار وقصص الأخيار"16.
القدرية في الحديث النبوي
روى الفريقان عن النبي الأكرم أنَّه قال: "القدرية مجوس هذه الأُمة". وكل من الفريقين فسّر "القدرية"بخصمه. فالقائلين بالقدر بالمعنى السالب للاختيار، يقولون إنّ المراد: المفوضة القائلة بالاختيار وعدم شمول القدر لأفعال الإنسان، فكانوا كالمجوس، القائلة بإلهين وخالِقين، وهؤلاء يقولون بأن هناك خالقاً لجميع الكائنات وهو الله سبحانه، وخالق آخر لأفعاله وأعماله هو الإنسان، فهو عندهم إله ثان.
يلاحظ عليه، أولا: إنَّ تفسير القدرية بنفاة القدر بعيد جداً، غير مأنوس في اللغة العربية، فالمتبادر من القدرية هم القائلون بالقدر، كما أن المتبادر من العدلية هم مثبتو العدل لا نفاته، فإطلاق القدرية وإرادة الطائفة النافية أشبه بإطلاق الحِمْيَرِيّة والهُذَيْلِة وإرادة من لا يمتّ إليهما بصلة.
وثانيا: إنَّ القائلين بالقدر بالمعنى الّذي عرفت، لا ينقصون عن المفوضة في التشبه بالمجوس، فإن القدر عندهم إله حاكم في الكون وأفعال الإنسان بل حاكم على أفعال الخالق وإرادته ومشيئته، بحيث لا يمكن تغييره وتبديله ولا النقيصة والزيادة عليه. ولأجل ذلك يصبح الحديث على فرض صدوره عن النبي مجملاً لا يمكن الاحتجاج به على طائفة، هذا وقد وردت القدرية في المرويات عن أئمة أهل البيت واستعملت تارة في "المثبت للقدر"وأُخرى في "نافيه".
أمَّا الأول فمنه ما رواه الصدوق عن الإمام الباقر عليه السَّلام قال: "ما يستطيع أهل القدر أن يقولوا والله لقد خلق آدم للدنيا وأسكنه الجنة ليعصيه فيردّه إلى ما خلقه"17.
في حديثه مع الشيخ الشامي عند منصرفه من صفين حيث قال الإمام: فوالله ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلاّ بقضاء من الله وقدر. فقال الشيخ: عند الله أحتسب عنائي.
فقال عليه السَّلام: "مهلاً يا شيخ لعلّك تظن قضاءً حتماً وقدراً لازماً.. إلى أن قال: تلك مقالة عَبَدّة الأوثان وخصماء الرَّحمان وقَدَرية هذه الأُمّة ومجوسها"18.
ومنه ما رواه صاحب (الفائق) وغيره من علماء الإسلام عن محمد بن علي المكي بإسناده قال: "إنَّ رجلاً قدِم على النبي فقال له رسول الله: أخبرني بأعجب شيء رأيت. قال: رأيت قوماً ينكحون أُمهاتهم وبناتهم وأخواتهم، فإذا قيل لهم لم تفعلون ذلك، قالوا: قضاء الله تعالى علينا وقدَرُه. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: سيكون من أُمتي أقوام يقولون مثل مقالتهم، أُولئك مجوس أُمتي" 19.
وأمَّا الثاني، فمنه ما رواه الحميري في (قرب الإسناد)بسنده عن الرضا، قال: كان علي بن الحسين إذا ناجى ربّه قال: "يا رب قويت على معصيتك بنعمتك"، قال: وسمعته يقول في قول الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْم سُوءً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ﴾(الرعد:11)، فقال: إنَّ القدرية يحتجون بأولها وليس كما يقولون. ألا ترى أنَّ الله تبارك وتعالى يقول: (وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْم سُوءً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ). وقال نوح على نبينا وآله وعليه السلام: ﴿وَلاَ يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ﴾(هود:34). قال: "الأمر إلى الله يَهْدي مَنْ يَشَاءُ"20.
ومنه ما رواه القُمي في تفسيره في رواية أبي الجارود عن الإمام الباقر قال: "وهم القدرية الذين يقولون: لا قدَر، ويزعمون أنهم قادرون على الهدى والضَّلالة"21.
ومنه ما رواه القُمي أيضاً في تفسيره عن الرضا عليه السَّلام قال: "يا يونس لا تقل بقول القدرية فإنَّ القدرية لم يقولوا بقول أهل الجنة ولا بقول أهل النار ولا بقول إبليس. فإنَّ أهل الجنة قالوا: ﴿...الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللهُ...﴾(الاعراف:43). ولم يقولوا بقول أهل النار فإن أهل النار قالوا: ﴿رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا...﴾(المؤمنون:106). وقال إبليس: ﴿رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي...﴾(الحجر:39). فقلت يا سيدي والله ما أقول.. ".
ومنه ما رواه العياشي في تفسيره من احتجاج الإمام عليه السَّلام مع القدري في الشام عندما بعث عبد الملك بن مروان إلى عامل المدينة أن وَجّه إليَّ محمد بن علي بن الحسين ولا تهيّجه ولا تروّعه، واقض له حوائجه. وقد كان ورد على عبد الملك رجل من القدرية فحضر جميع من كان بالشام فأعياهم جميعاً، فقال: ما لهذا إلاَّ محمد بن علي.
فكتب إلى صاحب المدينة أن يحمل محمد بن علي إليه، فأتاه صاحب المدينة بكتابه، فقال له أبو جعفر عليه السَّلام: إنّي شيخ كبير لا أقوى على الخروج وهذا جعفر ابني يقوم مقامي، فَوَجَّهَه إليه، فلما قدم على الأُموي أزراه لصغره، وكره أن يجمع بينه وبين القدري مخافة أن يغلبه، وتسامع الناس بالشام بقدوم جعفر لمخاصمة القدري، فلما كان من الغد اجتمع الناس بخصومتهما، فقال الأُموي لأبي عبد الله عليه السَّلام: إنَّه قد أعيانا أمر هذا القدري وإنما كتبت إليه لأجمع بينه وبينه، فإنَّه لم يدع عندنا أحداً إلاَّ خصمه. فقال: إنَّ الله يكفيناه.
قال: فلما اجتمعوا قال القدري لأبي عبد الله عليه السَّلام: سل عمَّا شئت. فقال له: إقرأ سورة الحمد، قال: فقرأه. وقال الأُموي وأنا معه: ما في سورة الحمد غُلِبْنا، إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون. قال: فجعل القدري يقرأ سورة الحمد حتى بلغ قول الله تبارك وتعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ فقال له جعفر: قف، من تستعين؟ وما حاجتك إلى المؤونة؟ إنَّ الأمر إليك. فبهت الّذي كفر، والله لا يهدي القوم الظالمين22.
ومنه ما رواه الصدوق بإسناده عن علي بن سالم عن أبي عبد الله عليه السَّلام قال: سألته عن الرُّقى أتدفع من القدر شيئاً؟ فقال: هي من القدر. وقال عليه السَّلام: إنَّ القدرية مجوس هذه الأُمة وهم الذين أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه من سلطانه، وفيهم نزلت هذه الآية: ﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَا كُلَّ شَيْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَر﴾(القمر:48-49)23.
والصنف الأول من الروايات أقوى سنداً، ولعل كلمة القدرية تطورت من حيث المعنى في عصر الصادقَين وبعدهما فاستعملت في غير معناها القياسي.
ثم إنَّ الشيخ التفتازاني في (شرح المقاصد) أقام وجوهاً على أنَّ المراد من القدرية نفاة القدر، كما أنَّ العلامة أقام وجوهاً أُخر على تطبيقها على مثبتي القدر. فليرجع إليهما24.
التقدير وتشريع الأحكام
بقيت هنا كلمة وهي: إنَّ الإمام أمير المؤمنين عليه السَّلام فسّر القضاء والقدر للشامي الّذي سأله عنهما بالأمر بالطاعة والنهي عن المعصية، وذلك عندما قال الرجل له: "فما القضاء والقدر الّذي ذكرته يا أمير المؤمنين؟".
فقال: "الأمر بالطاعة والنهي عن المعصية والتمكين من فعل الحسنة وترك السيئة، والمعونة على القربة إليه والخذلان لمن عصاه والوعد والوعيد والترغيب والترهيب، كل ذلك قضاء الله في أفعالنا وقدره لأعمالنا، وأمَّا غير ذلك فلا تظنه، فإن الظن له محبط للأعمال".
فقال الرجل: "فرّجت عني يا أمير المؤمنين فرّج الله عنك"25.
وقد اختار هذا المعنى شيخنا المفيد رحمه الله في (تصحيح الاعتقاد) فقال: "والوجه عندنا في القضاء والقدر بعد الّذي بيّناه أنَّ لله تعالى في خلقه قضاءً وقدراً، وفي أفعالهم أيضاً قضاءً وقدراً معلوماً. ويكون المراد بذلك أنَّه قد قضى في أفعالهم الحسنة بالأمر به. وفي أفعالهم القبيحة بالنهي عنه... وفي أنفسهم بالخلق لها، وفيما فعله فيهم بالإيجاد له، والقدر منه سبحانه فيما فعله إيقاعه في حقه وموضعه. وفي أفعال عباده ما قضاه فيها من الأمر والنهي والثواب والعقاب، لأن ذلك كله واقع موقعه"26.
وقد ذكره المحقق الطوسي رحمه الله وجهاً في تفسير القضاء والقدر حيث قال: "والقضاء والقدر، إن أريد بهما خلق الفعل لزم المحال، أو الإلزام صحَّ في الواجب خاصة، والإعلام صحّ مطلقا"27.
وأوضحه العلاّمة الحلّي رحمه الله بقوله: "ماذا يُعنى من القول بأن الله قضى أعمال العباد وقدّرها، فإن أرادوا به الخلق والإيجاد، فهو باطل لأنَّ الأفعال مستندة إلينا. وإن أرادوا به الإلزام لم يصح إلاَّ في الواجب، وإن عُني به أنَّه تعالى بيّنها وكتبها وأعلم أنَّهم سيفعلونها، فهو صحيح، لأنه تعالى قد كتب ذلك أجمع في اللوح المحفوظ وبيّنه لملائكته، وهذا المعنى الأخير هو المتعين"28.
نقول: إنَّ القضاء والقدر ممَّا اتفق عليه جميع الملل، لكن القدر لا ينحصر في هذا فقط، حسب ما عرفت من الآيات والروايات. وأما اكتفاء الإمام بهذا الجواب فهو لملاحظة حال السائل، فلو كان مستطيعاً لأن يتحمل بعض المعارف الإلهية لما اقتصر الإمام عليه.
ولأجل هذه الملاحظة كان الإمام عليه السَّلام يجيب بعض من يسألوه عن القضاء والقدر بقوله: "طريقٌ مظلمٌ فلا تسلكوه، وبحرٌ عميقٌ فلا تلجوه، وسرُّ الله فلا تتكلّفوه"29.
*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني،مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج2،ص203-218
1- صحيح البخاري، ج 8، باب في القدر، ص 122.
2- المصدر نفسه، ص 123.
3- صحيح مسلم، ج 8، ص 44- طبعة القاهرة ولاحظ شرح النووي، ج 16، ص 186.
4- صحيح البخاري، ج 8، ص 122.
5- صحيح مسلم، ج 8، ص 45. وشرح النووي، ج 16، ص 193.
6- صحيح مسلم. وشرح النووي له الطبعة السابقة.
7- جامع الأُصول، ج 10، كتاب القَدَر، الحديث 7555، ص 513.
8- جامع الأُصول، ج 10، الحديث 7556، ص 514 515.
9- جامع الأُصول ج 10 الحديث 7559، ص 516. ذكر العلامة الطباطبائي تفسيراً خاصاً لهذا الحديث وأشباهه ممّا مر في رواية سراقة بن جعشم، فراجع الميزان، ج 11، ص 29.
10- وسيوافيك توجيه آخر عند البحث عن السعادة والشقاء وقد روى الصدوق في كتاب التَّوحيد روايات أئمة أهل البيت ربما يتمكن بها الإنسان من تفسير ما ورد في الصحاح والأسانيد فلاحظ ص 354- 358
11- جامع الأصول، ج 10، الحديث 7557، ص 515- 516.
12- لاحظ الحديث رقم (6) ممّا أوردنا فيما مضى.
13- البحار: 5 /41، باب القضاء والقدر، الحديث 64.
14- ميزان الاعتدال، 4/ 352- 353.
15- ميزان الاعتدال: 4 /353.
16- كشف الظنون: 2 /223، مادة "قصص".
17- البحار، ج 5، باب القضاء والقدر، الحديث التاسع، ص 89
18- توحيد الصّدوق باب القضاء والقدر، الحديث 28، ص 380.
19- البحار، ج 5، كتاب العَدْل والمَعَاد، الحديث 74، ص 47.
20- البحار، ج 5، كتاب العدل والمعاد، الحديث 4، ص 5.
21- المصدر نفسه، الحديث 13
22- البحار، ج 5، كتاب العدل والمعاد، الحديث 98، ص 55. والعياشي، ج 1، ص 23.
23- التّوحيد للصدوق، باب القضاء والقدر، ح 29، ص 382.
24- شرح المقاصد، ص 143. وكشف المراد، ص 196.
25- بحار الأنوار، ج 5، باب القضاء والقدر، ح 74، ص 126.
26- تصحيح الاعتقاد، ص 20.
27- كشف المراد، ص 194.
28- المصدر السابق.
29- نهج البلاغة، قسم الحكم، الرقم 287.